رواج منقطع النظير... خمسة طبعات خلال أشهر معدودة..
"عنكاوا كوم" تحاور الكاتب بيوس عليبك مؤلف "جذور رُحل" عنكاوا كوم – اسبانيا – برشلونة - خاصلاقى اصداره الأول "جذور رُحل" نجاحاً، واقبالا جماهيرياً واعلاميا واسعان رغم انه جديد في عالم الكتابة. فيه تحدث عن وطنه العراق، وبلدته عنكاوا، وعن سيرته الشخصية كعراقي كان له نصيبه من المواجع التي عاشها البلد.
غير ان شهرته ونجاحه لم تتوقف فقط في مجال الكتابة بل في مجال، ربما، يعده البعض بعيداً نوعاً ما عن المجال الادبي، انه عالم الطبخ، ذاك العالم الذي يندر ان لا ينجذب اليه احدنا. ومثلما ابدع في الكتابه عن حياته وبلده، تفنن ايضا في عالم المطبخ حتى ذاع صيت مطبخه MESOPOTAMIA - ميزوبوتاميا الذي يقدم فيه الاكلات العراقية اللذيذة في برشلونة الاسبانية، وحصل على نجومية عالية، مكنته من ان يكون احد معالم اسبانيا السياحية.
انه ابن عنكاوا بيوس عليبك الذي لم ينس ذكر بلدته في مؤلفه الأول وطبيعة حياتها الاجتماعية في الوقت الذي كانت تئن فيه تحت سيطرة نظام، ربما يعد من اعتى الانظمة الدكتاتورية التي شهدها العالم.
"عنكاوا كوم" تحاور الكاتب بيوس عليبك للحديث عن مؤلفه الاول "جذور رُحل"...
- نبذة مختصرة عن حياتك، بداياتك، كيف بدأت نجاحاتك ومتى هاجرت؟غادرت العراق في كانون الثاني 1981 بعد حصولي على شهادة البكالوريوس في اللغة الأنكليزية من الجامعة المستنصرية والخدمة العسكرية ايضا، ومنذها وانا اقيم في برشلونة، اذ عادلت شهادتي وباشرت الدكتوراه في الدراسات اللغوية المقارنة لكن ظروف العمل لم تسمح بأنهاء رسالة الدكتوراه. بعد أشهر من وصولي، باشرت كمدرس لغة إنكليزية في إحدى المدارس ألأعدادية وبعد سنتين فتحت مدرسة لغات. كنت أوفق بين العملين بالاضافة الى إلى الترجمات وكتابة الرسالة. في تللك الفترة، ترجمت بعض الروايات من "الكتالانية" إلى "العربية" ومختارات من أشعار سعدي يوسف إلى الكتالانية نشرت في نهاية الثمانينات.
في التسعينات، عملت كأستاذ محاضر في جامعة برشلونة ولا زلت أعطي بعض كورسات ماستر ودكتوراه. بعدها تم إختياري كعضو في برنامج (مانوميد) للحفاظ على المخطوطات المتوسطية وعلى أثرها تركت عملي في المدرسة الأعدادية.
إن ولعي بالطبخ وبتأريخ وتطور الطعام كانا بالضرورة يعيداني إلى أرضي إلى مهد التأريخ فقررت في عام 1998 التفرغ للطبخ وفتحت مطعما اطلقت عليه اسم MESOPOTAMIA أقدم فيه الطبخات العراقية المنزلية، وقد نال المطعم شهرة لا بأس بها داخل وخارج البلد.
حاليا, أوفق بين الطبخ والكتابة والترجمات، حيث ترجمت روايتا علاء الاسواني (عمارة يعقوبيان) و (شيكاجو) إلى الكتالانية.
- قبل اشهر قليلة طرحت كتابك الاول " جذور رُحَّل " الذي صدرت منه حتى الان الطبعة الخامسة، حول ماذا يدور الكتاب؟ ولماذا لاقى هذا الاقبال الجماهيري والنجاح الواسع رغم انك لم تكن معروفاً في عالم التأليف؟الكتاب يروي قصة حياتي في العراق. هناك عاملان جذبا إهتمام القراء، ألأول هو إكتشاف عراق متنوع الجنسيات والأديان والكل يتعايش عكس ما نراه اليوم، والثاني هو ألأسلوب ألأدبي في السرد والوصف الجديد على هذه اللغة.
- كيف يصف بيوس بلدته "عنكاوا" في اول كتاب له؟اعتقد ان ترجمة نص "المقدمة" كفيلة بالاجابة على السؤال وهي كالتالي: " عنكاوا, حيث ولدت في كانون الأول من عام 1955, هي واحدة من العديد من القرى الكلدوأشورية المشتتة في كل أنحاء شمال العراق والمحاطة بقرى أخرى كردية. ،نحن أحفاد أول مستوطني وادي الرافدين, ومنذ سقوط أخر مملكة بابل في سنة 539 ق. م. على يد كسرى, صرنا ولا زلنا تحت سيطرة شعوب أخرى شاركناها ارضنها وتعايشنا معها على مر القرون. اعتنقنا المسيحية فور ظهورهاوأسسنا، كنيسة شرقية عظيمة وفي نفس الوقت تحولنا إلى هدف المطاردةالدينية من قبل المحتلين إعتماداً على مدى تعصب الحاكم الأجنبي في كل حين. ألمطاردة لم تتوقف إلى يومنا هذا.
كالعديد من ألأمم بدون دولة, كان مصيرنا متغيراً تبعاً لمصالح ونزوات المحتل الجديد. الفرس, البيزنطيون, العرب المسلمون, المغول, العثمانيون, البريطانيون والنظام العالمي الجديد. في المراحل النهائية لللإحتلالين, المغولي والعثماني, شهدنا إضتهادات دينية دامية, وخلال جرائم المذابح الأرمنية حُرقت الكثير من قرانا وقٌتلوا سكانها. بعض القبائل الكردية شاركت المغول والعثمانيين في هذه الإضتهادات. كانوا يستخدمون التعصب الديني كمبرر للحصول على ممتلكات الجار أو يعزون أنفسهم بالآمال الكاذبة التي يفترضهاالتحالف مع الأقوى.روما كانت تتلقى صرخات المسيحيين الشرقيين وهم يطلبون الغيث بعدم مبالات حيث كانت تعتبرها صرخات منشقين عن دينها.إن ما يعني ألسلطات الكنسية, أيٌ كان مذهبها, ليست رسالة المسيح وإنما رسالتها الخاصة. ألمسيح لم يكن ليرفض أحدا ولم يغضبه سوى السماسرة الذين كانوا يدنسون بيت الله والأغنياء البخساء. ضرب الأولين بالسوط وقدَم الجمل على الثانين. من المدهش حقا أن تكون عند بعض الناس هذه القناعة التافهة بأن معتقداتهم أفضل من معتقدات غيرهم لدرجة تبرير النكل بهم. من الصعب تصور الضألة التي لا بد وأن يحس بها من يعتبر الأختلافات أو مجرد وجود الآخر تهديداً له.
بعد الخمسينات, من الممكن التكلم عن نوع من التعايش السلمي والودي بين شعوب المنطقة رغم أن عدوانيات الماضي لا تنمحي تماماً.أهالي عنكاوا كانواعلى عهدهم مجتهدين وطموحين. ألأهتمام بالفكر السياسي كان حاضراً في كل ثناية المجتمع وكان الميزان يميل بوضوح نحو اليسار. الجريدة الرسمية للحزب الشيوعي العراقي كانت توزع على دور القرية ومنذ الستينات من قبل شباب متطوعين. ألثورة الحمراء كان لها حظور بارز في الفكر السياسي في عنكاوا, في العراق وفي الشرق الأوسط برمته.ألضلم والأستبداد هما كالشمس والغيث لبذرة الروح الثورية, بينما الرفاهية هي الضل الذي يخنقها وإن برعمت تكون نبتة زينة لا وصال لها بسخاء الطبيعة وتمردها.
ألصبغة الحمراء جعلت من عنكاوا محطاً للقمع المستمر من قبل حكومات بغداد القصيرة الأجل. عمليات تمشيط وتوقيفات جماعية وسجون وتعذيب إلى أن اخترع صدام, وهو يقلد أساليب إستعملتها بلدان أخرى, ما سماه بالجبهة الشعبية. لأول وهلة, ولمن كان في مصلحته أن يراها بهذا الشكل, كانت تبدو كجبهة للتصالح والتعاون بين حزب البعث الذي كان قد سيطر على الحكم بعد محاولتين دامييتين والحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية وبعدد كبير من المنتمين. ألعديد من قادة الحزب الشيوعي, بسبب خوفهم أو لمصالح شخصية, تقبلوا دعوة صدام للدخول في الجبهة والكشف عن قوائم المنتمين. صدام لم يتأنى كثيراً قبل أن يكشف هو أيضا عن نواياه الحقيقية فشنً حملة همجية للقضاء على الشيوعيون في متون البلاد.
عنكاوا حوطت من جديد. ألجيش وقوات الأمن مشطوا القرية داراً داراً والقوائم بين أياديهم وقادوا المنتمين إلى الحزب الشيوعي إلى سجون اربيل. خيَّروهم عسراً بين التنازل والأنتماء إلى حزب البعث وبين التعذيب والموت. بعضهم فضل الموت.
ألتحصيل الدراسي والثقافة الشخصية كانا متطلبان لا بد منهما لشابات وشبان عنكاوا. كان الكتاب لا يستريح على رف. كان يدور من بيت إلى بيت ويشكل جزأً من أمسيات أحاديث تبدأ بصحبة كاس من العرق وكثيراً ما تستمر حتى الصباح. المرحوم ناصر يوسف زوج عمتي فكتورية, كان قد خصص الطابق العلوي من داره ليكون نوعاً من مكتبة عمومية. كان هناك صالة واسعة تغطي حياطها من أعلى إلى أسفل رفوف مليئة بالكتب وكان ناصر يعير كتبه إلى شباب القرية بشرط أن يقرأو الكتاب في أقل من أسبوع. حين كانوا يعيدونه له, كان يستفسرهم عن محتوياته فإذا إكتشف إنهم لم يقرأوه بتعمق كان لا يعيرهم كتب أخرى.
في الشتاء كانت عنكاوا تفرغ من الشباب تقريباً. ألجميع, فتيات وفتيان, كانوا يدرسون في إحدى جامعات بغداد أو الموصل. الحياة كانت تعود إلى بيوت وشوارع عنكاوا مع حلول الصيف وعودة الطلاب وأكثرية العوائل التي كانت قد غادرت القرية لمختلف الأسباب وإستقرت في مناطق أخرى. عنكاوا كانت تستعيد فرحها ونشاطها. حفلات غداء وعشاء وسهرات والأعراس المستمرة التي كانت تتركز في الصيف. حتى الذين كانوا يسكنون خارج عنكاوا ويتزوجون في محل سكناهم, كانوا يحتفلون بعرسهم من جديد ليتشاركوا البهجة مع ناسهم.
الإحتفالات كانت تدوم احياناً لمدة اسبوع. كان العروسان يغادران الكنيسة وهم محاطون بالأصدقاء والأقارب. الموسيقيون كانوا يترأسون الموكب حتى إحدى ساحتي القرية. أما إلى ساحة ألدرغة في الجهة المرتفعة من عنكاوا أو إلى الساحة أمام المدرسة. الناس كانت تتوافد إلى هناك كي ترقص الدبكة المفتوحة للجميع. كان عازفو الطبل والزمّار يحكموا الإيقاع وكانت حلقة الراقصين, رجال ونساء جنب إلى جنب وأياديهم مشدودة إلى بعضها, تتسع فوراً. راقصون جدد كانوا ينضموا اليها في أي نقطة فتتحول إلى دائرة كبيرة مفتوحة. حين لم تعد هذه الدائرة تستوعب المزيد من الراقصين, كانت تشكّل دائرة جديدة حول ألأولى وهكذا حتى يغطي الراقصون أرض الساحة باجملها. كانوا يتحركون من اليسار إلى اليمين والسماء كانت تغسق بالتراب المثار تحت أقدامهم حين يشتد الرقص. ألضحكات وصرخات الفرح واليعيش كانت تشق غمامة التراب فتبرق البهجة في سماء عنكاوا. ألرقص, مثله مثل كل الحفلات, لم تكن تنقصه الحسيّة. فهو مناسبة ملائمة للتنويه بالعواطف ورسم إشارات العشق. ألفتيات والفتيان كانوا يبحثون عن بعضهم, يكسرون حلقة الرقص ليحطوا بجانب الشخص المرغوب, يشدوه من يده ويمسّون جسده وهم يتابعون إيقاع الرقص. حتى المتزوجون كانوا يبحثون عن حبهم القديم ليعودو ويعيشو الماضي, ولو للحظات, بلمسات يسرقوها من الرقص. كانت إحدى فرصهم المحدودة للأعتراف بمغامرات عابرة دون أن يمسهم خطر. أشباح التحريم كانت تأفل أمام البهجة الجماعية.
في الليل, كان الأحتفال ينتقل إلى بيوت الداعين ويستمر أما في حديقة المنزل أو على السطح أو في المكانين حتى الصباح. موسيقى ورقص وطعام ومشروبات يترأسها عرق عنكاوا المشهور والمرغوب المقطر من زبيب العنب أو التمر. كل عائلة كانت تصنع عرقها ولم تكن تنقصها الوصفات السرية التي تعطيه النكهة الشخصية. جدي إلياس كان يضيف قطع من صدر الدجاج إلى الخميرة وعندما يحين موعد التقطير, كان ينصب إنبيقه النحاسي الكبير في حوش الدار منذ الفجر ويضل السائل النفيس ينضح حتى سقوط الليل. كان يسرد لي أنه عندما كان لديه عمال في سنين مضت يشتغلون في أراضيه ويرعون قطعانه, كان يضع لهم قرب الباب الخارجي خابية مملوءة بالعرق ومغرفة مُعلقة بجانبها, عندما يحل الشتاء. عند الفجر وبعد الفطور, كانوا يغرفون ويحتسون جرعة لا بأس بها قبل أن يجتاوزوا الباب لمواجهة نهار عمل قاسي في برد الحقول المفتوحة.
ألتمشي ساعة العصر كان أبرز الظواهر الصيفية. ألجميع وبأختلاف أعمرهم, كانوا يخرجون ليتمشوا صاعداً نازلاً في شارع عنكاوا الرئيسي. يتمشون بتأني وهداوة تتقاطعهما التحيات والحديث مع المارة. كان التمشي مجالاً للقاء ولتبادل الأخبار وكان يقدم للشباب فرصة لتبادل النظرات وإقامة علاقات جديدة.ألفتات العنكاويةكانت تتمخطر بأحسن ثيابها و ترتدي دائماً أحدث ما في عالم الأزياء مما لم يكن قد شوهد بعد في مدن العراق الرئيسية. هكذا سميت عنكاوا باريس الصغيرة. بعض شباب القرى الكردية المجاورة وأربيل, كانوا يأتون ويصفّون سياراتهم على جانب من الشارع ويبقون في داخلها أو على قرب منها وهم مراقبون من قبل شباب عنكاوا. كانوا لا يتجروءن على الأبتعاد منها وهم يتأملون عرض الجمال الغير مباح عادة في مجتمعهم.
في الوقت الحالي, يسود كردستان العراق هدوء نسبي هش وموءقت بفضل التوافق بين كبار المفترسين والضباع التي تترقب حصتها من الجثة. التحصيل العلمي عند أهالي عنكاوا وطبعهم السلس بالأضافة إلى المطار العسكري الذي بناه صدام على أراضٍ صادرها من فلاحي عنكاوا, من بينهم جدي, عوامل حولت القرية إلى غار لكل أنواع الكواسر والضواري التي يسميها النضام العالمي الجديد "شركات متعددة الجنسيات". إستقروا فيها وأنيابهم ومناقيرهم مشحوذة واللعاب يسيل منها وهم على وشك أن يغرزوها في رُمة العراق. أحياء من نسل آدم لا يقتلون كي يأكلوا ويفترسون بني جنسهم الجرحى والمحتضرين بإسم الصفقات التجارية والأستثمار وإعادة البناء".
- ترجم كتابك " جذور رُحَّل " الى لغات اخرى غير اللغة الكتالانية التي كتب بها الكتاب؟ هل تفكر بترجمتها الى العربية كي يطلع عليها المزيد من القراء المتلهفين، ربما لقراءتها؟يترجم الكتاب حاليا الى الاسبانية والالمانية والهولندية وسيصدر في بداية 2011 كما انني باشرت بترجمته الى العربية وإن ساعدني الوقت سأنتهي من ترجمته خلال الاشهر المقبلة.
- الجماهيرية الواسعة والاهتمام الاعلامي اللذان لقيا كتابك، يدلان على انك كاتب سيكون له شأن في مجال التأليف، ما الذي منعك كل هذه الفترة من الكتابة وهل لديك كتابات واهتمامات ادبية اخرى لم تلق النور؟ هل يفكر بيوس في تأليف كتابه الثاني؟أنا لم اتوقف عن الكتابة ابدا، وقد بدأت روايتي الجديدة منذ اشهر. ولكن الكتابة الادبية باعتقادي بحاجة إلى تناسق حسي بين لغتي الكتابة والاحساس اليومي. لغات دراستي هما العربية والانكليزية ولكني اتكلم الكتالانية مع اصدقائي والكتالانية والارامية مع بناتي. باشرت بالكتابة بعد أن تأكدت من قدرتي على التعبير عن مشاعري ادبيا بلغتي اليومية.