المحرر موضوع: صفاء البير ... لك جنات الخلد  (زيارة 1080 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Mahamad al bandar

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 2
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
صفاء البير ...  لك جنات الخلد

               د. محمد البندر

لقد صقعت جداً بسماعي خبر اغتيالك بدم بارد على أيدي أوباش لا يطالهم عقاب ، وقتلوك وأي فتى قتلوا! أي صوت اسكتوا ، وأي طاقة علمية وخبرة أهدروا ، وأي حزن وكمد زرعوا عند أهلك وفي قلوب أصحابك وأحبتك !
لقد كنت رمزاً للطيبة والذكاء والتفوق في البصرة ، هذه المدينة الطيبة، ولم تغادرها أو تهاجرها ، بل عشت فيها وذقت حلوها ومرها وحروبها وحصارها وبخيرها وشرها دون أن يوهن لك عزم ، أو يفرغ لك صبر ، وآملت مثلنا بعد سقوط الصنم بسطوع شمس الحرية وبغدٍ لا حروب فيه ، وبقيت تخدم بصرتك الحبيبة المحرومة وأنت تعيش على هذا الأمل ، ولم تكن تدرك بأن هناك من يترصدك لأنك نزيه وصافي الطوية في جو أمتلأ هواءه ببعوض المليشيات الريفي الذي سنحت له وخامة هواء المدينة من أن يعشعش فيها وينتشر كالسرطان الخبيث في الجسد الصحيح ، ولم تكن لتعلم بطيبتك أن هناك من يترصد خطواتك وبعد أيامك ، ويضع نفسه ولياً لحكم الله على الأرض فيمنح الحياة لمن يشاء ويحجبها عن من يريد . ولابد لمن صقع مثلي بخبر موتك أن يتسائل ماذا فعلت حتى استحققت ذلك  ؟ هل كنت بعثياً كما يدعون ؟ حاشى الله ! فمن عرفك وعرف بيئتك التي ترعرت بها يدرك علو ورفعة خلقك وبأنك لا يمكن أن تؤذي أحداً ، ويعرف القدر الكبير من الطيبة والإنسانية التي تتحلى بها وهذه مزايا لايمكن في يوم ما أن تجتمع في بعثي. هل كنت سارقاً حتى ينزلوا فيك الحكم الشرعي ؟ حاشى ذلك والله  أن تكون كذلك ، فقط كنت عفيف اليد واللسان تأبى خيانة أخلاقك ، وتتعالى عن السحت الحرام الذي أصبح سنة ثابتة عند من لا يتعبون من ذكر إسم الله كذباً وبهتاناً طوال الليل والنهار.
أذكرك ياصفاء رغم عشرات السنين التي فرقتني عنك وعن أحبتي الآخرين في البصرة ، وتعود بي الذكرى لأيام الصبا زمن الإبتدائية في مدرسة الجمهورية النموذجية للبنين القريبة من الإعداية المركزية في العشار حين كنا في صف واحد حتى أكملنا الإبتدائية معاً ، أتذكر كيف كنت أعرج إليك صباحاً مبكراً في بيتكم في محلة الكزارة في الدربونة التي تفتح على الشارع العام من جهة وتتصل من الجهة الأخرى بمنطقة بساتين تحولت فيما بعد الى منطقة سكنية تتوسطها متوسطة التحرير للبنين كي نذهب سوياً الى المدرسة ، فتخرج من بيتك سعيداً بلقائي ، وكنت تثيرني كل مرة بتفاحة حمراء كبيرة الحجم كنت تأكلها أثناء الطريق  بعد " الريوك" وكنت أغطبك عليها لانها كنت بعيدة عن متناول أطفال فقراء مثلي. لقد كانت حالة عائلتك المادية أفضل بكثير من عائلتي ، وكنت تسكن في بيت من الآجر في حين كنا نسكن كوخاً من القصب . وفي مدرسة الجمهورية كنت المبرز والألمع والأذكى بين الطلبة ، وأتذكر جيداً كيف كانوا يقدمونك أيام الخميس في ساعة الإصطفاف في ساحة المدرسة ساعة رفع العلم كأذكى طالب في المدرسة رغم صغرك ، وكان الجميع يشعر بالفخر بك والحسد منك رغم أنك كنت تسبح عرقاً من شدة خجلك وظهورك وحيداً بجسدك النحيل في منتصف الساحة أمام عشرات الطلاب ، واتذكر أيضاً كيف كان أحد أساتذتنا وهو إستاذ ودود يقدر ذكائك ويعنف أخيك الأكبر ضياء " الكسلان " كما يصفه ويعيره قائلاً : لماذا أنت كسلان ؟ولماذا لا تكون ذكياً كصفاء ، أليس الأحرى أن يكون العكس؟
ومرت ، السنين وذهب منا كل في طريقه ، فأخترت أنت الفرع العلمي واخترت أنا الأدبي، وكبرنا لكنك بقيت محافظاً على صورة صفاء الفتى النحيل الودود الخجول المتواضع. وسافرت ولم أعد الى اليوم ، لكني لم أنس أحداً ، بل اشعر بازدهار شجرة الذاكرة رغم العد العكسي ، وكنت أطمح لأن أعود وألتقيتك ، والتقي بعد أن عبرنا الخمسينات من العمر بالبصرة أمنا الكهلة لنمسح عنها أعوام الحزن والأسى الذي عاشته ولنعد إليها ربيع لم تتمتع به ، ونعدها بكسلة نيروز على شط العرب وباقة ياس أخضر وكف حنة على باب الكنيسة وعلى ضريح الشاب عبد الله بن علي الهادي حامي نهر العشار ...
لك جنان الخلد ياصفاء ، ولأهلك وأصدقائك العزاء والسلوان ....

                        محمد البندر