المحرر موضوع: عشية ثورة 14 تموز المجيدة  (زيارة 1726 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جاسم الحلوائي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 99
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
عشية ثورة 14 تموز المجيدة
« في: 12:35 10/07/2005 »
عشية ثورة 14 تموز المجيدة
[/b]

(3ــ 5)

جاسم الحلوائي

لم يعد سجن بعقوبة ومديره علي زين العابدين في عام 1957 على رهبتهما السابقة، كما هو الحال عندما دخلت هذا السجن لأول مرة في عام 1955. فقد كُسرت شوكة المدير بفضل صمود الكثير من الشيوعيين، وخاصة مجموعة السجناء الشيوعيين القدامى الذين نقلوا من سجن ( نقرة السلمان ) الصحراوي الى سجن بعقوبة في بداية عام 1956، على أثر إضرابهم عن الطعام. ومع إني كنت واثقا من صلابة أخي حميد فقد كنت قلقا عليه لصغر سنه وقلة تجربته. وعشية سفرنا الى سجن بعقوبة، وضعت خلاصة تجربتي، عند مواجهة الجلادين، أمامه وأمام جليل أسد، ولم أعد عليهم ذلك ثانية. وفحواها، عدم إستفزاز الجلادين. الإجابة على قدر السؤال. عدم إظهار أية نقطة ضعف في السلوك والكلام. عند وصولنا سجن بعقوبة تعرضنا ( لما يصطلح عليه السجناء بالكروان) الضرب  بالهراوات والعصي من قبل السجانين مصحوبة بالشتائم والإهانات. في اليوم التالي زارنا المدير وقد تهجم علي، لأنني بدلاً من أن اترك الشيوعية بعد حبسي الأول جلبت معي أخي الصغير هذه المرّة، على حد قوله. وإنصرف بعد بعض الصفعات والشتائم. كان في غرفة الأنفرادي معنا، انا وأخي حميد، الرفيق نائب عبد الله، خياط من السليمانية والذي أصبح لاحقا عضوا في اللجنة المركزية. ورغم قصر المدة التي عشناها سوية مع نائب، فقد نشأت بيننا صداقة تؤكدها حرارة اللقاءات وحميميتها في كل مرة نلتقي فيها، مهما كانت الفترة متباعدة بين لقائين.

لم يكن أخي حميد قد بلغ سن الرشد بعدُ، وكان ضئيل الحجم نسبيا، أملط الوجه، لذلك كان يبدو صبيا أكثر منه شابا . فكان موضع إعجاب الرفاق في السجن وموضع فخري وإعتزازي. لم يتسن لنا في تلك الفترة الأختلاط بحرية بالسجناء الآخرين. فالسجناء موزعون في غرف مغلقة لاتسع الواحدة منها لأكثر من أربعة أشخاص و كنا نخرج للشمس ساعة واحدة يوميا في باحة السجن. بعد حوالي عشرة أيام زارنا مدير السجون العام في العراق، وعندما شاهد أخي حميد إستغرب وجوده في هذا السجن، ولم يعر أي إهتمام لإيضاح مدير السجن بأنه موجود مع أخيه الأكبر، وقرر نقله على الفور الى سجن الأحداث. فتوادعت معه وداعا حارا ولم نلتق، مرة أخرى، ألا بعد ثورة 14 تموز.

في تلك الفترة قسّم مدير سجن بعقوبة الجناح الخاص بالسياسيين الى ثلاثة اقسام ــ الرفاق اليهود كانوا في جناح خاص من البداية ــ   القسم الأول كان مخصصا للخطرين جدا، والثاني للخطرين، والثالث للأقل خطورة. ودرجة الخطورة هذه من تقديرات المديرالإعتباطية. وقد أفرزني مع الخطرين وكان عددنا في هذا القسم 17 سجينا. وتفتح علينا أبواب الغرف لأوقات أقل من غير الخطرين. كان عمر علي الشيخ المسؤول الحزبي عن القسم، وكلفت أنا بالشؤون الإقتصادية، التي تشمل توزيع الأكل والسكائر والشاي و...الخ وممن كانوا في هذا القسم عزيز سباهي ووجدي شوكت سري وفرج محمود ومحمد علي الشبيبي، أخ حسين الشبيبي ( صارم )، وعزيز وطبان وطالب عبد الجبار والشاعر النجفي عبد الحسين أبو شبع وغيرهم. وقد إستفدت في هذا القسم من معلومات طالب عبد الجبار لتنمية معلوماتي في الفلسفة المادية الديالكتيكية.

بعد حوالي الشهر جمعونا في قسم واحد. حيث تعرفت على الرفاق القدماء مثل هادي هاشم الأعظمي، وكان المسؤول الأول في السجن،  وزكي خيري وعزيز محمد ومهدي حميد وبهاء الدين نوري وعمر علي الشيخ أعضاء اللجنة الحزبية المسؤولة في السجن. وتعرفت كذلك على سلام الناصري ويوسف حنا ونافع يونس وعزيز الحاج وحميد بخش وعدنان البراك وجاسم حمودي وعبد الرحمن منصور وحسن عوينة وعبد اللطيف الرحبي وأكرم حسين وصاحب حمادي وآخرين. وكان أغلبية هؤلاء مثقلين بسلاسل حديدية بارجلهم. هذا بالإضافة الي تعرفي على الكثيرين من أبناء جيلي مثل الشهيد شاكر محمود وتوفيق أحمد. وعندما كنت في هذا القسم زُجّ بقياديي منظمة الفرات الأوسط معنا وكان من بينهم حسين سلطان وباقرإبراهيم وعدنان عباس وكاظم فرهود.

انتخبت عضوا في اللجنة الإقتصادية مع عدنان البراك وجاسم حمودي وكاظم فرهود وكان الأخير مسؤولها. وانيطت بي مهمة توزيع السكائر والتنباك (التتن)، وكانت هذه المهمة من أكثر المهام حساسية في السجن نظرا لعدم توفر الكمية الكافية من السكائر أحيانا. لذلك كان الآخرون يتجنبون تولي هذه المهمة. وقد قبلت بها لقناعتي بأنني الأنسب لها بحكم كوني سجين جديد وعلاقتي  بالآخرين خالية من الحساسية. كنا نوزع السكائرعلى الوجه التالي: كل مدخن يحدد عدد السكائر التي يحتاجها يوميا على أن لاتزيد عن علبة واحدة (20 سيكارة) ويستلم حصته صباح كل يوم. أما التتن فيستلم المدخن منه كيس يكفي لإسبوع ويمكن أن يحصل على كمية إضافية. المشاكل التي يواجهها المرء، هي إن بعض الرفا ق يطلبون سيكارة أو أكثر إضافي بعد نفاد حصتهم، خاصة اولئك الذين يدخنون علبة واحدة. إذا أعطيتهم يقول الآخرون عليك ،ليبرالي. ليس بالمفهوم المرغوب والمفاخر به في وسط من السياسيين والمثقفين في عراق اليوم، أنما بمعنى غير ملتزم بالقواعد. إذا لم تعطهم يقولون عليك (دوﮔﻤة) جامد. كنت أعطي سيكارة واحدة، إضافية لمن يطلب، خاصة مع دخولنا للغرف للنوم في الساعة العاشرة مساء حيث تقفل الأبواب علينا. المشكلة الأخرى، هي إن مصدرنا الاساسي للسكائر والتتن، هو المواجهة الشهرية. واذا كان الوارد لايكفي كان التنظيم يكلف هذا الرفيق أوذاك من أبناء العوائل المتمكنة لكي يرسلوا لنا بضعة كلوسات سكائر بالبريد، وعندما يتأخر وصولها كنت مضطرا لأقلل الحصة بنسبة معينة، وكان ذلك يزعج المدخنين ويحرجني. لم تكن هناك أي مشكلة مع الذين يدخنون تتن. وعددهم لم يكن يتجاوز اصابع اليد الواحدة، وكنت واحدا منهم. فمنذ أن أنيطت بي مهمة توزيع السكائر تحولت للتتن تجنبا لأي قال وقيل.

كانت الأعمال موزعة على السجناء، وأهمها غسل الملابس وخبز الصمون وتوزيع الأكل وغسل الأواني. وكان الجميع يعملون بشكل دوري.وكنت أحد المشرفين على طبخ الشوربة للفطور صباحا، التي يطبخها السجناء العاديون،  وعضوا في أحد فرق الفرن.
 
كنت مهتما بمعرفة تفاصيل تاريخ الحزب وقادته ولم يكن ذلك، إطلاقاً، عن سابق تصميم أو لأني سأحتاج ذلك، عندما سأكتب يوما ما ذكرياتي والتي لم افكر في كتابتها قبل آذار2005، بل كانت نزعة غريزية بحكم قناعتي الراسخة بإرتباطي المصيري بالحزب. و قد لقيت ضالتي بالرفاق القدامى. ولم يبخل الرفيق عزيز محمد والذي عشت معه في غرفة واحدة فترة طويلة بالإجابة على أي سؤال لديه معلومات عنه، ما عدا الحديث عن ظروف إنشقاق منظمة راية الشغيلة. فقد باءت محاولاتي لتحفيزه على الحديث عن تفاصيل  ذلك بالفشل. وكل ما سمعته منه هو: " صدّقني لم نكن نفكر يوما بالإنشقاق عن الحزب،لا أدري كيف حصل ذلك " يقولها متوترا ويُغلق الموضوع. ومرة أخرى أجابني: " جلسنا على سطح الفرن..." ولم يكمل كلامه إنما نفخ بيده وضرب الهواء بقوة ، وكأنه يصفع أحداً، ومضيفا "لعد شعبالك؟ " ويعني مالذي يخطر ببالك إذاً؟ وهذه الحركة وهذا الكلام يقبلان التأويل. وعزيز محمد يستخدم هذا الاسلوب أحيانا، عندما يريد وتتوفر إمكانية إستخدام ذلك، وعندذاك تذهب جهود المرء سدى إذا ما حاول أن يفهم ما المقصود، لذلك لم  اسأله. أما تفسيري فأرجح بإنه كان يريد أن يسخر من عملية الإنتشال (الإنشقاق) وأراد بحركته وكلامه ذاك أن يرسم صورة كاريكتيرية لها.

وأخطر إنقسام وقع في السجن( قبل إنشقاق منظمة راية الشغيلة) هو الذي حصل في ربيع 1950 في سجن نقرة السلمان الصحراوي والذي أدي الى إخراج مجموعة من الكوادرالقديمة التي زاملت الرفيق فهد في سجن الكوت على رأسهم المسؤول الأول في المنظمة سالم عبيد النعمان وعلي شكر ونافع يونس ويوسف زلخة ومحمد حسين أبو العيس وعبد الحسين خليفة وكاظم خليفة وغيرهم. لم أتمكن أن أمر مرور الكرام على حدث بمثل هذه النتائج الخطيرة وأنا أعيش وسط عشرات الشهود، ومع الأسف لم أسمع من الذين أصبحوا خارج الحزب في حينه، فلم يكن قد بقي منهم في السجن سوى نافع يونس، والذي انهى محكوميته بعيد وصولي الى السجن. وخلاصة القصة هي إن المزاج "اليساري" الذي  نشأ في أوساط الشبيبة التي تصّدت لقيادة الحزب، على أثر الضربة الموجعة التي وجهت لقيادة الحزب ومنظماته وإعدام قيادته التاريخية، قد تسرب الى السجن. وقد إستغل حميد عثمان ذلك ليقود حملة ضد قيادة المنظمة مستغلا بعض التسلكات الشخصية غير الصحيحة، ولكن غير الهامة، لتلك القيادة، ليتهمها باليمينية والبرجوازية. وبدلا من ألإكتفاء بالنقد الذاتي الذي قدمه سالم عبيد النعمان عن تصرفاته الشخصية اليومية الخاطئة، فقد نحي عن المسؤولية لتبدأ حملة تشهير ظالمة ضده وضد رفاقه أدت الي الأنقسام المذكور. ولم يبخل بهاء الدين نوري بكيل الإتهامات لهم بإعتبارهم زمرة إنتهازية وإندحارية وتيتوية  في جريدة "القاعدة" السرية في عددها الصادر في تشرين الأول 1950 . وجدير بالذكر إن محمد حسين أبو العيس أصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب ونافع يونس عضوا في اللجنة المركزية، وقد إستشهد الإثنان  تحت التعذيب في إنقلاب شباط الفاشي.أما مصائر بهاء وحميد عثمان فقد أشرت لها في الحلقة الثانية من مقالي حول "منظمة راية الشغيلة وتجربتي معها"، وهي مصائر، على أقل تقدير، غير حميدة بالنسبة للأول وغير مشرفة بالنسية للثاني.