المصالحة وشعبنا المسيحي
حديث الشارع العراقي اليوم هو عن ضرورة المصالحة، والتي تتغذى بالمُصارحة وكشف الأوراق وما خفي من نوايا، وسُتِرَ من مُخططات. ولأن شعبنا العراقي ليس مستعداً لمثل هذه الخطوة الجريئة، وجُل ما سيصل إليه الساسة العراقيون (وأتمنى أن أكون مُخطئاً) هو هدنة ستتحطم متى ما تحققت المصالح الضيقة لفئة أو طائفة من مكونات شعبنا العراقي. فلا فائدة من مؤتمرات أو ندوات ما دامت الانطلاقات والبدايات منقوصة. فمعظم المعنيين بالموضوع يُدركون أهمية المُصالحة لا إيماناً منهم بأنها المخرج الوحيد لأزمة هذه الأمة، بل لأن عجلة الاقتصاد بدأت تتوقف وفي توقفها صارت تُحدد مصالح ومنافع أفراد وجماعات.
شعبنا المسيحي اليوم يترنحّ تحت وطأة أزمات تُفقده تركيزه وتجعله يتخبط في مسارات ومواقف فوضوية لا يفقه عواقبها، إلا أنه مُجبر عليها ولا خيار آخر أمامه سواها. والسبب: فقدان القيادة الرشيدة التي ترغب بصدق منفعة وخير شعبنا المسيحي بكل ما يحمله من تنوع غني. أفتح اليوم المجال لحوار هادئ مع كل الجميع، ولنسعى جميعاً لإسهام كلٌ من موقعه وحضارته وفكرته وأصالته، لتعميق وتفعيل الحوار للوصول إلى مواقف تُعلي من شأن شعبنا المسيحي وتُظهِر قوّته وأصالته. شاكراً بإمتنان كل إسهام.
فهذه المرحلة الخطيرة من تاريخ شعبنا المسيحي في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، تتطلب خطوات جريئة تحاول فِهمَ ما حصل وتسعى لالتزام برؤية واضحة للمرحلة القادمة. لا نريد أن نُدين أحداً أو أن نضع آخرين في قفص الاتهام. ولن تُغرينا تجربة أن نُحمل هذا وذاك كل أخطاء المرحلة، لأننا أقوى وأشجع وأصدق من أن نجعل إنساناً كبش فداء عنّا، فشعبنا العراقي بشكل عام، والمسيحي بشكل خاص دفع ثمن أمنيات وهوس قياداته كافة السياسية والدينية منها، ودفعها غالياً، وبقيت الكراسي لأصحابها يُطلقون الشعارات المُخدرة، غير أباهين لشعب صار حطباً لنار صراعاتهم الشخصية والمصلحية الضيقة الأفق.
ولأن شعبنا المسيحي العراقي مكوّن هام وله دور فعّال لا يُمكن أن يُتجاهل مهما حاول الساسة تغيب هذا الدور ونكرانه. أجد من الضرورة أيضاً أن نكون السباقين في أن تجسيد مُصالحة حقيقية تصل إلى جذور المشكلة فتشفي الجراح وتفتح الأفاق لمُستقبل آمن يحمل بين طيّاتها فرص انتعاش حقيقي وواقعي لأبناء شعبنا وعلى كافة الأصعدة: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. فالمُصالحة التي تُطرح اليوم منقوصة وفيها انتقاص وإجحاف كبير بحق الضحايا وإجهاض لحياة كريمة وواعدة للأجيال القادمة.
المسيحية هي الجديرة بالحديث عن المصالحة لأننا كوّنا وصرنا بسبب مُصالحة الله لنا والتي مكنتنا من أن نُصالح بعضنا بعضاً. العراق اليوم يُعاني وربنا ينتظر منّا كمسيحيين أن نشهد لإنجيل المُصالحة فلما التراخي والتخاذل عن أداء الشهادة.
ولكن قبل أن نرفع صوتنا كمسيحيين نُعظ الناس ونُعلّمهم عن المُصالحة لنتشجع ونبدأ مسيرة المُصالحة مع أنفسنا، مع شعبنا مع بعضنا البعض كمسيحيين، أبناء الرافدين، شعب أصيل طَبعَ بصمات لن تُمحى في تاريخ ومسيرة العراق. واليوم يسعى ليكون بشجاعة وأصالة الآباء والأجداد. هذه المُصالحة مع الذات (الذات المسيحية)، وأعني بالذات المسيحيين بكل مكوناتهم وثقافتهم لأني أؤمن أننا شعب واحد مهما تنوعت انتماءاتنا، هذه المُصالحة ستكون بالضرورة نموذجاً يُشجع أبناء شعبنا العراقي للمُضي قُدما في عملية المُصالحة بشكل حقيقي من دون خوف أو تحفظ.
البحث عن الهوية وتثبيتها كان وما يزال أحد أبرز الدوافع للصراعات التي نشبت في تاريخ العراق الحديث. ولأن الجميع سعى جاهداً ليُثبّت هويته مٌستغلاً كل الفرص المُتاحة وكل الوسائل المشروعة منها والمُحرّمة، برزت في سماء العراق قصص لشعب، بل شعوب أسهمت في أن يكون العراق بالصورة التي هو عليه اليوم. ووراء كل قصة مُحاولة لتثبيت هوية سعى كثيرون لتنكرها وتهميشها، لا بل محوها من تاريخ العراق. فلم ولن تنجح، والحمد لله، كل السياسات والاستراتيجيات لإزاحة وقبر قصة أصغر مكوّن من مكونات شعبنا العراقي. وأنصح كل المُهتمين بأن لا يُضيعوا الوقت والجهود ويهدروا الطاقات ويستنزفوا حياة أبرياء في محاولة طمس هوية فئة أو طائفة من أبناء شعبنا العراقي، مثلما نلحظه اليوم. بداية المُصالحة أن نقبل واحدنا الآخر بما يحمله من خصوصية وما يتفرّد به من هوية، وما يتميّز به من ثقافة وفكر ومعتقدات حتى وإن اختلفت عن ما نتمناه ونرغب به. هذا هو العراق والعراقيون وليس لنا غيرهم، والكل سواسية في الإنسانية والشخصية العراقية أمام الله وأمام القانون.
نحن أيضاً كمسيحيين سعينا لأنم نُثبت هويتنا وحاولنا أن نُسمِعَ العالم قصتنا، فخلف كل هوية قصة. وما نضال تجمعاتنا الحزبية والسياسية والاجتماعية إلا محاولة في الطريق. لقد بحثنا وفتشنا عميقاً في تاريخ البلاد والمنطقة بحثنا عن الجذور، ووجدنا أن لنا في هذا التاريخ صفحات ناصعة. إسهامات يُشهد ويُشاد بها، ولم ولن تمُحى رُغم كل محاولات إعادة كتابة تاريخ العراق. وأي مُحاولة قصرت في قول حقيقة شعبنا المسيحي دوره في تاريخ العراق، جاءت مُعيبة يعوزها الدقة والأمانة العلمية.
اليوم وقد تثبتت الهوية، وأدرجت في دستور العراق لنطوي صفحة الصراع هذه ولنعتذر بعضنا لبعضٍ عن الأخطاء التي شابت المسيرة. فكمسيحيين، وفي محاولاتنا لتثبيت هويتنا القومية، والتعريف بإرثنا الحضاري أسأنا إلى بعضنا في سعينا هذا، وقصدنا بشكل صريح أو مُبطن الحط من عزيمة الشريك وإفشال مساعيه، وتعكير صفو العلاقات، وحتى افتعال الأزمات التمتع والتفرد بالإنجاز. فلنعتذر بشجاعة، وليكن اعتذارنا صريحا ودقيقا واضحا كي يفهم ويطمئن الشريك لمواقفنا، ويثق بخطوات المُصالحة فيسيرها من دون قلق أو تحفظات لأنه شريك وليس شٍركاً. نحن بحاجة لنتحرر من وهم وكابوس نظرية المؤامرة لأنها ستُبقي وتديم الصراع وتُفقدنا الثقة بالشريك.
فلنعذر ككنيسة لأننا لم نسعَ بما فيه الكفاية لرعاية وقيادة شعبنا كما يجب، وقصرّنا في واجباتنا من جراء تمسكنا بمواقف وقضايا مهمة، تاركين الأهم. شهدنا مراراً لقضايا مُتجاهلين قضية يسوع المسيح. تزمتنا في مواقف جعلت شعبنا يتيه يبحث عن راعٍ يُوضح له ما يعيشه من أزمات فيفهم واقعه. لنعترف أننا كقادة كنسيين كُنّا سبباً ديمومة أزمات هذا إن لم نكن نحن طرفاً فيها، وتعدى الأمر ليصل مرحلة خطيرة في أننا كمسؤولين كنسيين كُنّا سببا رئيساً في تأجيج صراعات وتفعيل أزمات ما بين أطياف شعبنا المسيحي المُبارك. فلنعتذر بشجاعة.[/b]