المحرر موضوع: في اسباب التشوهات الأجتماعية في العراق وسبل الأصلاح ! /4  (زيارة 1217 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل مهند البراك

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 521
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
 
  في اسباب التشوهات الأجتماعية في العراق وسبل الأصلاح !
                       4 من 5
                  
   [/b]


د. مهند البراك


تأثيرات العواصف العالمية
   في العقد الأخير من القرن الماضي، وفي الوقت الذي كانت فيه جماهير واسعة في اوروبا الشرقية تعيش فرحاً اثر تداعي الأتحاد السوفيتي السابق ونظامه الشمولي ومنظومته الشرقية التي تحجّرت، وكانت تتطلع بفضول الى الآفاق الجديدة التي كانت ترى انها تتفتح امامها، بعيداً عن النظريات والدراسات الرمادية .  .  كانت اوساط سياسية كثيرة في البلدان النامية تنظر بقلق الى مصير بلدانها وحركاتها التحررية والسياسية وآفاق وجدوى نضالها وراياته وخطاباته. بعد ظرف دولي انتهى كانت فيه غالبية حكوماتها تعيش على التوازن بين القطبين الأعظمين . .  معتمدة على سياسات واجهزة كثيرة التنوع والسرية لتأمين موقع افضل لها من ذلك التوازن.
   في ظرف كان العراق النفطي الغني فيه ليس بلداً اعتيادياً من البلدان النامية الكثيرة التي تملأ الأرض، حيث اضافة الى نفطه، يقع العراق ذو الطاقة البشرية العلمية التكنولوجية العسكرية، والقومية الدينية الثقافية السياسية، في قلب مكوّنات العالم النفطي الصناعي المالي .  .  سواءاً جغرافياً وتأريخياً او مرحلياً وهو الأخطر، حين ارتبط  ترابطاً عضوياً باقطاب المال والسوق السوداء والأرهاب.
في مرحلة تضخّمت فيها الأقطاب السوداء وسجّلت تفاقماً رهيباً في حجم التبادل الأقتصادي العالمي، اثر انهيار المعسكر الأشتراكي السابق وملحقاته وشيوع مرحلة اضطراب وتداخل وعدم استقرار وتقلبات، لأعادة اصطفاف القوى العظمى التي دخلت في مرحلة اعادة تنظيم حساباتها ومصالحها في ظرف بدا وكأن قوة عظمى وحيدة منها اصبحت هي القطب الأعظم بلا منازع في العالم .   
وبعيدا عن التقييمات الفكرية والنظرية، بدأت حقيقة انهيار قطب عالمي من القطبين المتنازعين بتوازن، المنتشرين في كل بقاع العالم بانواع المصالح والأعمال والمشاريع، تظهر بكل مضاعفاتها وآلامها ايضاً، سواءاً في دول المحيط او في المراكز الأقتصادية السياسية الدولية .  .  ففي الدول الكبرى والصناعية، ظهر مئات آلالاف من العاطلين عن العمل اثر تسريحهم من الجيوش بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة. بعد ان  حلّت غالبية المؤسسات العسكرية في اوروبا الشرقية، وشاركتها المصير مثيلاتها التي تقابلها في اوربا الغربية واميركا، من التي اصبح لاداعٍ لها، ورمي ملايين من العمال والفنيين العسكريين والجنود ‏الى الشارع  .  .  لقد انتهت الحرب الباردة وانتهى زمان التحدي المتبادل وعرض العضلات!!  في ظروف اتّسمت من جانب آخر بالغاء عدد كبير من المؤسسات والمنظومات العسكرية الصناعية والفنية والتكنيكية بوحداتها وشبكات دوائرها، بسبب الثورة التكنيكية المعلوماتية العاصفة وظهور انظمة الأدارة الجديدة، التي اخذت ترمي بملايين اخرى من العسكريين وذوي اختصاصات متنوعة صارت قديمة، الى الشارع ايضاً .
وفيما ادىّ انهيار وغياب حلف وارشو الى زوال الستار الحديدي بين الشرق والغرب، فأنه ‏ادىّ الى تشابك وبالتالي تفاعل وتقارب مصالح مجاميع كبيرة من العاطلين عن العمل من ‏عسكريين وشبه عسكريين ( من ذوي مهن العنف على انواعها ومن مختلف الرتب والدرجات) من الجانبين، ممن حلّت مؤسساتهم وانتهت مشاريعهم التي كانت تتعلّق بالحرب الباردة، اضافة الى ظهور مصالح جديدة لعشاق  العنف والمغامرات في غرب وشرق اوروبا واميركا، الذين اخذوا يبحثون عن آفاق واعدة كانوا يرون انها تتفتح، لتحقيق ارباح جديدة ومن اجل مضاعفة ارباحهم في الظروف الجديدة، وبآليات كثيرة التنوّع جرى تبنيّها لأنها تحقق اعلى الأرباح .‏
لقد قدّر الخبراء العسكريون الدوليون، ان عدد العسكريين المسرّحين اثر سقوط جدار برلين عام ‏‏1989 من الشرق والغرب، وصل الى حدود 7 سبعة ملايين. فعلى سبيل المثال، لم يبق من الجيش السوفيتي الذي كان يشكّل الموازن الأعظم لقوة الولايات المتحدة وكلّ ‏الغرب، سوى بقايا صغيرة في الخدمة .  .  اضافة الى ان جيوشاً ضاربة كبيرة قد حلّت بأكملها، كجيش المانيا ‏الشرقية مثلاً. ومن جهة اخرى اصبح تعداد جيش المملكة المتحدة، اقل بمقدار الثلث من ‏تعداده في زمن الحرب الباردة، من الجنود الذين يلبسون الملابس العسكرية النظامية. وحتى الولايات المتحدة ‏الأميركية، القوة الأعظم الوحيدة اليوم، اخذت تقف بحدود نصف عدد منتسبيها السابق، وصارت تتكوّن من 1.4 مليون ‏جندي، شكّلوا قوّتها الضاربة آنذاك (1) .  .  وقد اخذت غالبية هؤلاء تعيش ( او تحاول ان تعيش) حياة مدنية، الاّ ان عديد منهم لم يكونوا يتقبّلوها بسهولة، وكانوا يرون انهم قادرون على القيام بفعل وجني ارباح كبيرة من كثير من الأعمال بدل البطالة والخوف من شبح الموت جوعاً.
وفيما بدأ يعرض الجنود والمراتب الممتهنون والعسكريّون المسرّحون خبراتهم (الفنية العسكرية) في سوق العمل من اجل تحقيق ‏مكاسب وارباح كبيرة رأوا انها ممكنة التحقيق، من خلال الشركات الأهلية للحماية والأمن، التي كانت تتشكّل وتتكاثر بسرعة مذهلة . " بضعة ارقام للأتصال التلفوني، تكفي لتحريك واثراء اولئك ‏الشباب"(2) . . اخذت مجاميع كثيرة تنضم الى السوق السوداء لتحقيق اعلى الأرباح بازمان قياسية وللتعويض (عمّا فاتها)، خاصة وان لديها امكانات غير قليلة في صنع الجريمة او التفاهم معها بدل مكافحتها ! .  .  في مرحلة شهدت اهتزاز منظومات قوانين ومفاهيم، واختفاء وظهور دول، اضافة الى ضياع وتفكك منظمات وحركات تحرير مسلحة او اعادة اصطفافها من جهة، ومن جهة اخرى ظهور طموحات لتكوين دول جديدة ومشاريع جديدة لها، معها (اوضدّها) .  . 
الأمر الذي ادىّ الى تسرّب مئات الآلاف من المناطق الملتهبة بالحروب والعنف في العالم بسبب تلك الأهتزازات وبسبب الخوف والقلق من اعادة تنظيم القوى والأصطفافات التي كان قسم غير قليل منها حاداً، وخاصة من الشرق والجنوب .  . الى حيث الأستقرار. وفيما طمح قسم منهم الى اللجوء والأستقرار، نشط قسم آخر نحو تحقيق ارباح بعد انهيار او اختفاء او ضياع المثل والهدف الأعلى . وقد اشارت تقارير المنظمات الدولية المعنية حينها، الى ان التسرّب الأكبر كان يجري عبر مناطق وجود طرق برية بشكل خاص ـ سيراً على الأقدام او بواسطة السيارات ـ ، اي نحو اوروبا الغربية عموماً .
في وقت تمّ  فيه نهب وضياع مليارات هائلة وهروب اشخاص بها، بسبب انتهاء مؤسسات واختفاء اخرى بأموالها، كان ناهبوها يبحثون عن غسيلها وتبييضها ويحتاجون لذلك انظمة دول قائمة، او طرق توصل لها .  .  وتمّ فيه ظهور انواع جديدة من المافيات، من الروسية، الشيشانية، الداغستانية، الرومانية، اليوغسلافية والألبانية وبدرجة اقل افريقية ومن دول ومناطق اسلامية اخرى وغيرها، التي بدأت بسرقة معداّت نووية ومواد مشعة من منشئات كانت تنهار او بقت دون حراساتها التقليدية او ضعفت الرقابة عليها ـ بفعل الفوضى والحاجات المالية ـ ، واخذت تهرّبها الى مراكز دولية، والى حيث  كانت تتشكّل سريعاً بورصات للسوق السوداء ومراكز للمافيات الدولية، تنقلت في تلك الفترة بين براغ، بطرسبورغ، امستردام، افغانستان، برلين (3) .  .  ليجري بيعها وايصالها لمن كان يدفع اكثر، ووصلت اقيامها الى مليارات من العملات الصعبة، الأمر الذي جعل دول اوربا الغربية والشرقية الناشئة واميركا تتخذ اقصى الأجراءات لمنع تسرّب المواد النووية و المشعة المهرّبة اليها خوفاً من مخاطرها، ودخلت اجهزتها المتخصصة المتنوعة في معارك دموية مع تلك العصابات، راح كثيرون ضحايا لها . 
اضافة الى حركة ملايين هائلة من العملات الصعبة السوداء لأغراض الأستثمار، بدون خبرة تجارية او دراية او تماس بالقوانين الدولية، وفي احيان خارجة عليها، وحركة بضائع ممنوعات ( مواد مشعة، مخدرات، احجار كريمة وجواهر، ذهب، نفط خام، كافيار .  . ) ملئت عديد من السفن العملاقة،  جرى اخفائها او تزوير اوراق لها فيها، او استمرت تمخر عباب البحار والمحيطات وحتى القطب بعيداً عن الرصد، فيما كانت انواع من الشبكات تتحرّك لخدمتها في البحث عن مشترين او عن وسطاء لتحقيق تلك الأهداف .   
   وفيما كانت "مشاريع الحروب والكوارث " كانواع جديدة من الأستثمارات والمشاريع المسجّلة والقانونية، تنمو وتتكاثر وكانت تسجّل ارتفاعاً ملحوظاً في تلك الفترات .  .  وكانت تبحث عن الأرباح في زمن بدأت  النزاعات الأقليمية فيه تتصاعد كما مر .  .  فانها في سعيها الى تحقيق الأرباح السريعة، التقى عديد من وكلائها، بتلك المافيات وغيرها من العصابات، كعصابات صدام وعصابات اسيا الوسطى، من الأفغانية والقوقاسية وغيرها في ( اسواق العمل)، في وضع يصف فيه خبراء الجريمة الدوليون، بان الأعمال اللاشرعية واللاقانونية في بحثها عن الربح تلتقي ! مهما اختلف انتماء افرادها القومي، الديني بل انها تتخطى حتى المفاهيم الفكرية التي حملها ويحملها البعض   .  .  وان الأعمال اللاشرعية ان خدمت صراعات سياسية عنيفة او نزاعات عسكرية وحروب، فانها قد تسيطر على تلك النزاعات وتوجهها او تركبها، في سبيل تحقيق اعلى الأرباح من تلك التجارة السوداء !     
   ويشير عديد من المراقبين الى ان اقطاب سوق سوداء دولية متنوعة لتجارة السلاح والنفط وتجارة المخدرات والرقيق الأبيض والجنس، الباحثة دوماً عن مناطق لاقانون ولاسيطرة فيها على حركة الأسلحة حتى المحظورة دولياً منها، كاسلحة الدمار الشامل وقطع غيارها .  .  كانت تجد في الشرق الأوسط وخاصة افغانستان تحت حكم طاليبان والعراق تحت حكم صدام (اضافة الى دول ومناطق واقاليم اخرى مما لااستقرار فيها)، كافضل الأماكن للنشاط وتحقيق اعلى الأرباح سواءاً من المخدرات او النفط الخام والسلاح، الأمر الذي كان يتفق تماماً مع سلوك وحاجات دكتاتورية صدام وخاصة في ظروف الحصار الذي انفرض عليها .
   لقد كانت دكتاتورية صدام في الفترة التي اعقبت القرار الدولي بفرض الحصار عليها، تقاتل بوحشية لامثيل لها من اجل اختراق الحصار، لا من اجل رفعه ـ في مراحل البداية خاصة ـ لتسخيره لفائدتها، بتقدير عديد من الخبراء والمراقبين  .  .  ففي الوقت الذي شددت فيه قسوتها على شعبها بتجويعه ومحاصرته اكثر، وكانت تذرف دموع التماسيح على الضحايا الذين راحوا بسبب وحشيتها ورعونتها هي، وكانت تقيم مؤتمرات وفعاليات منافقة باسم دعم اطفال العراق و(النضال ضد الأمبريالية) عالمياً (4) .  .  فانها كانت توظّف المعاناة من الحصار لكسر شوكة الشعب اكثر، وتعمل من اجل استمراره لصالح استمرار بقائها .
   فتحرّكت لتوثيق اقوى العلاقات مع المافيات والعصابات الدولية، بشكل كانت الأعداد الهائلة من اللاجئين العراقيين تتلمسه بوضوح في مختلف بلدان اللجوء، بل وقد جرّ اوساطاً منها اليه، اضافة الى جرّه اوساط متنوعة اخرى من العائدين لبلدان الشرق الأوسط  .  .  بسبب الفقر والعوز والحاجة من جهة، وبسبب الجشع الذي لم ولايعرف الحدود من جهة اخرى .
في ظروف تزايد فيها اليأس وضياع القيم، وظهر توجه فيها الى الأنتحارخلاصاً من عذابات اليأس .  .  الأمر الذي تطوّر الى اعمال انتحارية قام بها البعض كصرخة ونداء استغاثة من اجل الشعب والوطن والحق في الحياة، او كردود فعل عنيفة جراّء المحن وتراكم الآلام سواء كانت فردية او جماعية، او تلك التي تقبّلها البعض كاعمال مدفوعة الثمن للقيام باعمال انتحارية، والحصول مقابلها على ضمانات للأهل الذين ضاعوا وبقوا بلا معيل، كمأساة، وكشكل من اشكال روحية المقامرة ( كل شئ او لاشئ ) وليدة اليأس والضياع .  . الأمر الذي استغلته فئات ارهابية وادلجته بالدين ودفعت له، كدكتاتورية صدام (5)، التي عبّر عنها علناً ممثلوها ووكلاؤها في دعم الأعمال الأنتحارية في الضفة والقطاع، وفي مناطق اخرى في الشرق الأوسط  .  .
وشكّلت بنظر عديد من المراقبين والخبراء الدوليين، مرحلة مصيرية اعلى في دخول دكتاتورية صدام بروابط ومصالح اقوى واكثر خطورة مع مجاميع الجريمة في المنطقة والعالم  .  .  لتوفير وضمان المصادر المالية لها (للدكتاتورية) من تسويق النفط، وللحصول على اسلحة متطورة رغم الحصار، ومن اجل مواجهة القرارات الدولية او حرفها وتمييعها وشراء بعض اطرافها . .  في تطوّر سعت الدكتاتورية فيه الى اقلمة وتدويل ازمتها، اي الى تحويل القضية العراقية من قضية وطنية داخلية، الى قضية دولية لضمان بقاء اطول لسلطتها .  .  الأمر الذي كان يجري في الواقع وبدأ بالتأشير بتقدير مراقبين، الى ان زحزحة واسقاط صدام، اخذ يسير في عداد غير الممكن  ان اعتمد فيه على الأمكانيات الوطنية المعارضة له وحدها آنذاك، التي لم تستطع اسقاطه في انتفاضة ربيع 1991 البطولية رغم اعلان الغالبية الساحقة من محافظات العراق فيها، العصيان عليه، حيث استطاع ذبحها بعد ان رُفع الحظر على طيران سمتياته العسكرية، وبعد ان تأمّن سكوت الجوار .  .   بوحدات حرسه الجمهوري الخاصة، منظمة مجاهدي خلق الأيرانية(6)، فصائل متنوعة من تجمعات فلسطينية، اضافة الى مجاميع ارهابية دولية بواجهات متنوعة، دعمت بقاء دكتاتورية صدام، من مواقع وآليات وتوقيتات متنوعة  .
وفيما كشفت الوثائق بعد سقوط الصنم، عن حجم صلات الدكتاتورية بالعصابات الدولية، من خلال الكشف عن دوراللوبي العراقي الصدامي في فرنسا، عصابات الفاشي الروسي جيرينوفسكي وغيرها، المجاميع التي عادت الى الزعيم النمساوي اليميني هايدر، اجهزة ميلوسوفيتج اليوغسلافية، ابونضال، منظمة مجاهدي خلق، الملحق العسكري الصدامي السابق في تركيا حجازي، اضافة الى فضائح كوبونات النفط الكبرى التي كشفت عن تورط قوى وشخصيات دول في دعم دكتاتورية صدام، وغيرها، وغيرها الكثير الذي لم يكشف بعد . 
فانها كانت تؤشّر من جانب آخر الى مدى القيود التي كانت تفرض على معارضة الدكتاتورية من قوى الوضع الأقليمي والقوى الفاعلة في التوازن الدولي، اضافة الى تأثيرات توالي ظهور وتنامي وتفاعل مصالح داخلية واقليمية ودولية كانت تنشأ باستمرار في تلك الظروف، تعاملت مع الأطراف العراقية المعنية من زاوية تحقيق اهداف مربحة لها، سواء كانت  آنية او مرحلية، دون اعتبار الى الصراع السياسي الداخلي وآفاقه وبالتالي مصير العراق وشعبه .  . الأمر الذي ادىّ بمجموعه الى زيادة تحوّل الصراع الوطني في العراق وبالتالي الموقف من الدكتاتورية والكفاح ضدها .  .  الى صراع اقليمي ودولي . في وقت كان يزداد فيه تحوّل العراق الرازح تحت حكم صدام، الى احد ابرز عُقَد العنف والمافيات والسوق السوداء والنفط والسلاح في العالم .
   وفيما حققت فئات عراقية دنيا مكاسب يومية سدّت بها حاجات اساسية لها، بالجري للعمل باي مجال يحقق لها دخلاً اضافياً في ظروف الفقر والحاجة في سنوات الحصار .  .  وازداد اندفاع الفئات الطفيلية التي اثرت وازدادت ثراءاً من الحروب والحصار والسوق السوداء، الى مستويات اعلى واعلى  حتى اخذت تشتري مؤسسات الدولة ومشاريعها  وتشارك وتتعاقد وتتبادل الخبر مع العصابات الدولية المتنوعة لضمان دوام وتصاعد ارباحها وحمايتها، وسعت للحفاظ على الوضع الذي انتجته الدكتاتورية القائمة، او السعي لضمان مايشابهه ان تغيّر الدكتاتور .  .  . 
تحوّل الصراع، من صراع مبادئ واهداف سياسية على طريق تحقيق مطالب عادلة للفئات والطبقات الأجتماعية المحرومة و الفقيرة .  .  الى صراع على مكاسب شخصية فردية وفئوية ضيّقة، وازداد تركّزه على اساس توفير القدرة على الأستمرار في الحياة، ثم على اساس الربح يزداد اتساعاً في المجتمع بعد ان انخرطت به فئات ليست قليلة بدوافع الحاجة في البداية، في ظروف التصديق او عدم التصديق بعدالة (معركة صدام) التي اخذ اهتمامها بها يقلّ امام حجم المخاطر التي يواجهها الفرد !!  .  .  . في وقت كانت الدكتاتورية فيه (تواكب) التغيرات التي كانت تطرأ على الشارع وتحاول ايجاد حلول  ترقيعية لفئات المجتمع ـ في سعيها للحفاظ على ما حققته من شلل وخداع لها ـ ، ففي الوقت الذي كانت تبيع فيه مؤسسات الدولة للقطاع الطفيلي من الفئات المحيطة بها، فانها اوجدت " البطاقة التموينية "، لدعم اوسع الفئات التي كانت تزداد فقراً لأستمرار شدّها الى ( خيمة الثورة) من جهة، ولممارسة ضغوط جديدة وتقييدات جديدة من خلالها على من لم يساهم بمشاريع السلطة، سواءاً في جيشها الشعبي او حملاتها الأيمانية ثم في (جيش القدس) .  .  في ظروف استمر تصاعد الفساد الوظيفي فيها وتصاعد دفع الرشاوي للمؤسسات الحكومية لأنجاز معاملات المواطنين، وتزايد انحدار الوعي .
   وفيما لعبت " الحملة الأيمانية " التي اطلقتها الدكتاتورية تهافتاً وركضاً وراء احزان وعواطف الشارع المحروم المبتلى بها الباحث عن المخلّص، في محاولة لتأطير وركوب نشاطه وتوجيهه باسمها في الظروف المستجدة، تحت واجهة ( تفهم معاناته وآلامه التي لم تحلّ به الاّ لتزيد صبره وايمانه!)، وعقدها المؤتمرات الأسلامية التي حضرها عديد من الوجوه الأسلامية في المنطقة والعالم، ضمنهم وجوه عدد من المنظمات الأرهابية السلفية، التي استثمرتها للقاء بعضها وتنسيق اعمالها (7) .  .  فان الدكتاتور صرف ملايين كثيرة على انشاء جوامع وعديد من المؤسسات والمعاهد الدينية لتخريج رجال دين وشيوخ وخطباء دينيين، وافتتح جامعة لها باسم " جامعة صدام للعلوم الأسلامية "، موجها غالبية نشطاء ومنظمات البعث اليها، ساعياً لركوب الموجة الجديدة على عادته .  .  على اساس ان البعث هو ( انبعاث الأسلام)(8).
   في وقت لعبت فيه زيارات زوكانوف سكرتير الحزب الشيوعي الروسي وووفده الحزبي الرفيع
 ـ في تزايد وتواصل غير مسبوق لوفوده ـ وعقده اتفاقيات سياسية واعلامية مع قادة البعث وسط استمرار ضجة اعلامية صاخبة، اعتبرته الحزب الأشتراكي؟ الذي اوجد آليات مرنة لـ (بناءالأشتراكية)، نجحت  واستمرت من خلالها في الحكم، في وقت انهارت فيه الأنظمة الأشتراكية في اوروبا الشرقية لجمودها !!  اضافة الى زيارة الرئيس الفنزويلي شافيز الذي كان في صراع نفطي مع الولايات المتحدة والأحتكارات النفطية الدولية، زيارة المستشار النمساوي هايدر، زيارات عديد من وجوه الدعاية والأعلام ووفود تضامن، ثم تصاعد جهود مستميتة لها لأستقبال قداسة البابا، الذي كان قد عبّر عن امله في سيادة السلام وشموله اول مدينة مقدسة للبشرية، مدينة النبي ابراهيم، " اور" في جنوب العراق بمناسبة الفيتها التاريخية .  .  التي تأجّلت بعدئذ .
   الأمر الذي ادى الى تزايد تشوش وبالتالي ابتعاد الناس عن السياسة، تعمق اللاأبالية مما كان يجري، لمعاناتهم المتزايدة ولأنهم لايلوون على عمل شئ . اضافة الى تزايد الشعور بكونهم ليسوا سوى اوراق في مهب رياح المصالح الهائلة، وانهم لاقيمة ولادور لهم حتى في تقريرمصير حياتهم العادية هم وعوائلهم، التي زادتها  الماً تجاربها المرة التي استجدّت من سكوت العالم، واستمرار تصريحات صدام التي عبّر فيها عن انه لايزال الزعيم المرغوب من الدوائر العالمية بل وانه وصل القمة لديها !! التي ازدادت اثر انكشاف عدد من محاولات قلب نظامه. ففي تعليقه على المحاولة العسكرية للواء الطيار محمد مظلوم الدليمي في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي قال ( انهم نفر من المخدوعين!  انهم لايعرفون بان قوى العالم الفاعلة معنا، التي ان ارادت التغيير فستجريه عبرنا وحدنا، واننا لانرى بان حلّ مشاكل الحصار ومواجهة الظالمين يتم بقيامنا بانقلاب على انفسنا ؟!) وغيرها والتي لم يصدر ايّ تكذيب من اية قوة كبرى لها .  . الأمر الذي زاد الخداع خداعاً، في وقت كان يبدو فيه  انه كان فعلا يصدق ذلك ولايعتقد ان الأمور كانت تنقلب فعلاً ضد دكتاتوريته  .  . 
   استمر الوضع الداخلي بمحصلته النهائية بالتدهور على ذلك المنوال مسبباً المزيد والمزيد من الخسائر والجراح والدمار، الى ان اشتعلت الحرب واسقطت دكتاتورية صدام الدموية في نهاية المطاف .  .  بفعل خارجي وليس بثورة اوبفعل داخلي يأتي نتيجة لنضج التناقضات الداخلية الأجتماعية والأقتصادية وولادتها لقوى تغيير اجتماعي نمت ووصلت بنشاطها الى مراحل الحسم، وحسمته ودخلت بالمجتمع المرحلة الجديدة التي تفتّحت بسقوط الدكتاتورية، اي ان العوامل الأجتماعية المحرّكة وتناقضات مرحلة الدكتاتورية تستمر في الفعل بعد سقوطها.
   الأمر الذي عبّرت عنه ايضاً المشاعر المعقدة التي احدثها سقوط الدكتاتورية بعد الحصار وحصص التموين والفقر والحرمان والضياع والرعب من الحرب والموت، حين خلقت مزيجاً معقداً من الفرح والقلق والتصديق وعدم التصديق ومشاعر الفرح الممزوج بالبكاء على الوطن الذي تخرّب، والخـوف من المستقبل ومن الشعور بالصِغر امام لعبة الكبار.
لقد نفّسَت الجماهير وبعد تردد عن آلامها واحزانها وكبتها وحرماناتها بالهـجوم على تماثيل وجداريات الوحش وعلى دوائر سلطته وخربتها وصادرت بعض اثاثها المبتاع بدمائها  لحاجتها ولأنها كانت الأقرب والممكن، للتعبير عن اقتصاصها وردّها على الدكتاتورية التي لم تندحر على يدها رغم تضحيات وآلام السنين من اجل ذلك .  . وكانت تعبيراً عن هيمنة سـلوك صنعته وخلّفته الدكتاتورية وغذّته الحروب، من ضياع وموت وفقر ونهب، ومعادلات قاتل او مقتول، ناهب او منهوب، في وقت كان السقوط فيه وكأنه من عمل الغيب الذي لايعرف الاّ سواه لماذا والى اين !
في الوقت الذي اتخذت فيه فلول صدام من ردةّ فعل الجماهير واعمال النهب غطاءاً لتنفيذ خططها هي، للقيام بانسحاب ارادته ان يكون منظّما من عدد من المدن، ولحرق وتدميرالوثائق والمستمسكات وكل ما يدينها ولتدمير وشلّ اجهزة الدولة الأساسية التي لايمكن للمواطن ان يعيش بدونها كالماء والكهرباء والمستشفيات .   .  الأمر الذي ادى الى استشراء الفوضى والبلبلة وعدم الأستقرار واستمرار الخوف وظهور قلق ومخاوف جديدة، ازدادت بدخول عصابات الأرهاب الأصولي الأقليمية والدولية المتنوعة، في ظروف دولية تشهد تصاعد العمليات الأرهابية الشريرة التي لاتبالي بسقوط المدنيين بل وتستهدف ابناء جلدة القائمين بها .  .  التي بدأت بفصل دمار وحشي دموي جديد، الذي باستمراره ـ رغم الجهود المبذولة لأنهائه ـ  لم يترك لأوسع الفئات فرصة لأخذ النفس والمراجعة وبالتالي النشاط بفاعلية في صياغة المرحلة الجديدة على اسس مصلحة الشعب والوطن .
لقد ادت اعمال العصابات الأجرامية، وشيوع الفوضى وانعدام ضوابط الحياة اليومية وانتشار الأسلحة وتعدد اسواق بيعها التي تكوّنت سريعاً . . الى حالة ادت الى تفاقم القلق والأنشغال بالدفاع عن النفس والمال والعرض، والأنشغال بالأوضاع الحياتية من تدبير الدواء والغذاء، ومواجهة مشاكل انقطاع الماء والكهرباء، وطفح المياه والمجاري، في المناطق الوسطى والجنوبية.  اضافة الى ما خلقه حل الدولة والجيش واجهزة الشرطة، وتكاثر اللصوص الذين قدموا من دول الجوار ايضاً، اضافة للبطالة وانقطاع الرواتب  .  .  ادّت في النتيجة الى حالة من شلل وانغلاق التفكير خاصة بين الفئات الفقيرة والأكثر حاجة، على كيفية اجتياز الفرد لصعوبات اليوم المعاش، اكثر من الأهتمام بالسياسة وبالتفكير والمساهمة في خلق البدائل الدمقراطية التي اخذ يُعلن عنها باستمرار .  . 
الأمر الذي تفاقم اكثر بعد ظهور نتائج الفساد الأجتماعي والوظيفي الموروث من الدكتاتورية بشكل بشع، شكّل حاضنة لأنواع العصابات في الواقع الجديد الذي تكوّن، بالتلوّن ودخول المؤسسات الجديدة والنفوذ الى التشكيلات الجديدة للحرس الوطني واجهزة الأمن . اضافة الى ظهور نتائج ترابط فلول عصابات صدام مع المافيات والعصابات الدولية بخبراتها الدموية الوحشية، التي اخذت تتفاقم للوقوف بوجه اعادة بناء العراق، الذي يعني فقدانها لأمتيازاتها .  . سواءاً كانت من فلول صدام تحت اسماء وواجهات متنوعة، او من المجاميع الأرهابية المتنوعة المتشكّلة بمختلف الآليات عراقياً، عربياً، اقليمياً ودولياً.
ويرى كثير من المراقبين، ان تناقضات المرحلة تاتي اضافة الى ان سـقوط الدكتاتورية كان دون ثورة او انقلاب داخلي  .  .   الى سـابقة اعلان الأحتلال، والى وجود استطال لجيش اجنبي لايزال يحكم البلاد في النهاية، في زمان تشبّع فيه المجتمع بذهنية ومنطق مفاهيم الدكتاتورية عن ( الحرية والثورة العربية) ومفاهيمها الشوفينية الوحشية و(قدرتها) على (تحرير العرب) التي استمرت بحشو المجتمع بها وترسيخها فيه، المجتمع الذي كان يتدنىّ وعيه باستمرار طيلة خمسة وثلاثين عاماً لكل تلك الأسباب. اضافة الى ان اصطفاف القوى المعارضة للدكتاتورية وبالتالي اصطفاف القوى الفاعلة بعد سقوطها، وشكله وفاعليته الذي لم يأت من نضالات شـارع منذ السابق ـ خاصة في المدن الكبيرة في الجنوب والوسط ـ وغياب التأثير الفعلي لعدد منها لسنوات استمرت بحدود اكثر من عقدين مضيا بسـبب القمع الجنوني الذي قمع ابسط تحرّك ان جرى في شارع، والذي اودى بحياة الآلاف من المناضلين والمناضلات من كل الفصائل المعادية للدكتاتورية .  .
ورغم كل الجهود الأيجابية المبذولة بعد سقوط الدكتاتورية، استمرت بصمات المرحلة واستمرّ تفاقم الأوضاع  .  .  وتواصل افراز تشكيلات متنوعة من المستفيدين في المرافق المختلفة التي عشعش ويعشعش في اقسام منها اعداد من كبار الفاسدين والمرتشين وذوي (المهارات) الأجرامية ومهارات النفاق والتلوّن، رغم بدء مسيرة التحوّلات الجديدة بعد سقوط الصنم، مستغلين الدعوة الى التسامح والمرونة، الأمر الذي يستمر باستمرار ضعف الأمن، ضعف اليقضة، نقص المعرفة وفراغ وضعف يد السلطة الذي لايزال قائماً، على ارضية خطيرة من الأنتهازية والنفاق الأجتماعي ابن مرحلة التطور الطفيلي المستمرة بفعلها كما سبق  .  . اضافة الى النهب والفساد الموروث في كل مرافق الحياة والدولة، ونشاط الفئات التخريبية المدرّبة التي تحاول اشاعة وركوب الطائفية المقيتة  .  . 
وفيما لعب التباطؤ وتأجيل محاكمة صدام وكبار رجال حكمه وضعف حزم اجراءات ملاحقة كبار رجال عصابات صدام وتوقيفهم تمهيداً لفرزهم وتقديم المجرمين منهم للمحاكمة كمجرمي حرب وكمسؤولين عن الجرائم وخاصة الجماعية منها، وتباطؤ اجراءات اعادة المهجرين وتعويضهم، واجراءات اعادة الحقوق المسلوبة وفق مبدأ "من اين لك هذا؟ " والتباطؤ الذي شاب حل معضلة انعدام الأمن وانتشار الأسلحة ، والتباطؤ في تشجيع الأستفادة من طاقات العديد من الذين أُجبروا على العيش والعمل خارج البلاد في عهد صدام البائد واعادة الأمل والثقة لهم لبناء بلدهم .  .  لعبت المشاكل الناتجة عن ذلك التباطؤ والتي اخذت تتفاقم، دوراً في القاء كل طرف لتبعاتها على طرف آخر، الأمر الذي ادىّ الى ان تتفاقم الأزمة بين الأطراف الوطنية ذاتها، والى دخولها ان لم يجر الأنتباه حقّاً الى منزلقات قد تكون خطيرة، في ظل وجود اطراف لاتزال تتبع اسلوب الهيمنة .  .  الأمر الذي زاد من ابتعاد اوساط اجتماعية جديدة عن السياسة .
من جانب آخر، ورغم تزايد شعور اوساط متنوعة بالحاجة الى القوات الدولية لمواجهة عصابات الأرهاب واعمالها الوحشية المنفلته التي سقط الآلاف ضحايا لها، من الضروري ايلاء الأهمية المطلوبة في حل اشكالية عدم ثقة اوساط واسعة بالأجانب ـ باطناً ان لم يكن علناً ـ لأسباب غاية بالتنوع على رأسها قناعة فئات واسعة وبشكل اكثر حدة في الوسط والجنوب خاصة، بان دكتاتورية صدام لم تقم وتستمر الاّ بسبب دعمهم له، اضافة الى دور الماكنة الأعلامية العملاقة  لحكم صدام الشمولي الدكتاتوري، في تصويرها وترحيلها كلّ مشاكل الجماهيرآنذاك اليهم، والتي لُمست نتيجتها فيما آلت اليه اوساط واسعة من حالة الحيرة اللامفهومة بسقوطه على ايديهم، اضافة الى تأثير طبول واعلام، واقع وتحريض دول وقوى المنطقة، المؤثر في وعي فئات غير قليلة في البلاد .  .  في ظروف لم يكشف فيها حتى الآن عن اسلحة دمار شامل ولا عن شبكاتها السوداء، في الوقت الذي كان ذلك هو السبب الأساس المعلن لشن الحرب، الأمر الذي اخذ يزيد القلق والتساؤلات عن حقيقة اهداف الحرب وبالتالي الأحتلال  .
ويرى كثيرون، انه بالرغم من تغرّب وتباعد مكونات البلاد عن بعضها، كنتيجة موروثة لسياسة الدكتاتورية الشوفينية التي اشاعت الفرقة في المجتمع وعاشت عليها، فأن موروث جهاز دولتها الريعية الذي اساءت استخدامه، وعطّلت به الدورة الأقتصادية في البلاد، وخلقت بذلك اضافة لما جرى بحثه، مجتمعاً رأسمالياً مشوهاً، عاش على الخدمات والمال والقطط السمان والضباع، وبذلت به جهوداً هائلة على ربط المجتمع ارتباطاً مشوّهاً بالدين، خالقة نمطاً مشوّهاً من التفكير والأخلاق، بعد ان تلاعبت باحكام الدين .  .  الأمر الذي اضافة الى مايتركه من تأثير على  لحمة قوى التغييرفيها، فأنه يفاقم مشاكلها باستمرار عمل البديل على النمط والتقاليد التي تشكّلت طيلة عقود الدكتاتورية رغم الجهود التي تبذل، ويشكّل خطراً كامناً يتهدد العملية السياسية، من باب قيامه بزيادة الفرقة في المجتمع، تحت شتى الذرائع الفكرية، القومية والعرقية، الدينية والطائفية التي يحاول البعض النفخ بها .  .  في ظروف غابت فيها الشخصية العراقية القائدة، القادرة على لمّ الشمل العراقي، بعد ان صفىّ الدكتاتور واجهزته ابرز الشخصيات الواعدة لذلك من جهة، ولتزايد تعقّد القضية العراقية وتداخلها الأقليمي، وتداخلها النفطي المالي السياسي الدولي الذي لم يستقر بعد على قطب واحد .   
وفي الوقت الذي قدّر خبراء ومراقبون، انه كان من الضروري القيام باشراك وتشجيع فعلي لقطاعات وطنية شعبية ليست قليلة، والعمل على توجيهها وتشذيب اخطائها ان ظهرت. يرون ان التعامل مع الواقع العراقي من فوق وبشكل اداري، وانعدام الشفافية وقلة المصارحة (رغم تحسّنها البطئ بعدئذ)، بعيداً عن التشجيع المطلوب للأحزاب التقدمية والتجمعات والشخصيات الوطنية النزيهة وللفعاليات الديمقراطية والمدنية التي تشكّلت بعد سقوط الصنم، رغم سيلان تمويلات هائلة متنوعة لأحزاب وحركات بعينها دون سواها  .  .
الأمر الذي اضعف ويضعف من قوة ووتيرة تأثير قوى التغيير، في زمن يؤكد عديدون فيه،  على ان بناء دولة المؤسسات ينطلق من المستوى الحضاري الواقعي للبلد ومن الفترة الزمنية وظروفها، من تحديد بوصلة واهداف التغيير، القوى والشخصيات الفاعلة فيه، وماهية قوى المجتمع وتياراته الفكرية واحزابه وشخصياته الوطنية والتي في طور النشوء من جهة، ومن حجم التشوهات الفكرية والنفسية والسلوكية من جهة اخرى، وبلورة وتحديد وسائل مواجهتها وسبل معالجتها .  .  وليس بتجاوزها والقفز عليها، ان أُريد حقاً بناء دولة المؤسسات .
ويحذّر كثيرون من ان واقع البلاد الخارجة من دكتاتورية حكمت بالحديد والنار لأكثر من ثلاثة عقود، فرضت فيها على شعبها حروباً وحصاراً، وادت الى مجتمع الجريمة والتطرف والتعصب والعنف والظلام الذي تغذيه الأعمال الوحشية للعصابات الأرهابية والطائفية التي ادّت الى استمرار واقع الأحتلال رغم الأعلان رسمياً عن انتهائه، اضافة الى غياب التعاون المطلوب من الجوار، ومرور التوافق الوطني بمصاعب غير قليلة .  .  . 
ان ذلك الواقع يثير مخاطر متنوعة من نشاطات اجرامية قد تستوطن البلاد، بفعل استمرار عدم الأستقرار ـ رغم التحسّن ـ وبفعل النشاطات الخفية؛ لأثرياء ومجرمي مرحلة الدكتاتورية، لأغنياء الســوق السوداء والمضاربين ووكلاء صدام وعدي وقصي ( خاصة وان اجهزة وعصابات الدكتاتورية لم تواجه الحرب ولم تتحطم بل هربت وذابت، اي اختفت وتنشط)، والنشاطات العلنية والخفية لضباع وقطط الحرب السمان ولعلاقاتهم  الأقليمية والدولية بشتى عصابات ومافيات السوق السوداء والنفط والسلاح والمخدرات، لتحقيق اعلى الأرباح من خلال تحويل البلاد الى مستنقع دائم للحرب والجريمة، بعد ان لجأت وتحاول اللجوء اليه انواع العصابات، وفي مقدمتها القوى الأرهابية سواءاً التي تفرّقت في افغانستان، او في مناطق متعددة من الشرق الأوسط واسيا الوسطى والقوقاز .  .  الأمر الذي يفرض تغيير خطط وتصورات واشكال التصدي والمواجهة والتحالفات، كما سيأتي .  (يتبع)

مهند البراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.   ‏‏" حرب خاصة على نفقة الدولة " / هانز هوينغ، سيغمند الزيمان، 2004 .
2.    الخبير روي كاولباك / مجلة " جينزانتيليغنز ريفيو" / 2004 .‏
3.   تقارير ودراسات : الأمم المتحدة حول الجريمة المنظمة، لعام 1996 ، الكتاب السنوي لمكتب مكافحة الجريمة الأتحادي في المانيا، 1997 .
4.   في ظروف جديدة اخذت تشهد صراع حاد، بين دول رأسمالية الدولة الأحتكارية، الريعية، والطفيلية المتوحشة في المحيط، وبين المراكز الرأسمالية الكبيرة، اثر توجه العالم نحو وحدانية  القطبية دولياً وظهور التناقضات الجديدة .
5.   " الأستشهاد كسلاح، الجذور التاريخية للأعمال الأنتحارية " 2003 / جوزيف كرويترو، عن الألمانية .  " مقابلة مع انتحاري فلسطيني" القناة الفرنسية آرتي / آذار 2004 . بالعربية، الفرنسية والألمانية.
6.   راجع الفيلم الوثائقي " نساء الشرق الأوسط يقودون دبابات وسمتيات " قناة / Arte ، عرض في ظروف توقيف ودعوة المحكمة الفرنسية السيدة مريم رجوي للأستجواب في باريس صيف عام 2004 . يسلّط الفيلم طيلة ساعتين الأضواء على " منظمة مجاهدي خلق" واخطبوطها الدولي وتشابكها مع العصابات المذكورة اعلاه، وتغلغله بكل الطرق غير القانونية في المؤسسات الفرنسية والأوربية، من دوائر الهجرة الى مشاريع تبني، بيع وشراء الأطفال، الى دعم وتسويق نشاطات مجاميع عائدة لصدام، في دول متنوعة . 
7.   اضافة الى زيارات الترابي السوداني المتعددة، زيارة الظواهري والزرقاوي عن القاعدة، وفق المعلومات التي تناقلتها الصحافة العربية والأميركية، كوثائق كُشفت اثر سقوط الدكتاتور .
8.   على طريقة نداء ميشيل عفلق الشهير عام 1961 ، في محاولته سد الطريق على القوى الديمقراطية والقومية التحررية، ونفخاً بالروح العروبية الشوفينية .  .  " البعث هو بعث ملّة ابراهيم العربية، تحت الرسالة الأسلامية الخالدة "، تفسيراً لـ " امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة" .
مراجع :
1.   " سياسة الدبلوماسية" مذكرات وزير الخارجية الأميركية الأسبق جيمس بيكر . 1999 ، الناشر بالعربية، مكتبة مدبولي ـ القاهرة .
2.   " الحقيقة المحرّمة " ، جين ـ شارلز بريزارد / غيلاومي داسكوي، زيورخ 2002 . 
3.   " تاجر الموت، ابونضال " ، باتريك سيل 1992 . دار بيرتيلسمان للنشر .
4.   " فخ العولمة " ، هانس بيترمارتن / هارالد شومان 1996 ، دار روفولت ـ المانيا .

(*) نشر في مجلة " الرؤية " العدد الثامن / مؤسسة حمدي للطباعة والنشر .