المحرر موضوع: الثورات العربية : صعوبة القراءة وهاجس الحقيقة  (زيارة 879 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Abdelouahid hammoudan

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 9
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

الثورات العربية : صعوبة القراءة وهاجس الحقيقة

حمّودان عبدالواحد / فرنسا

  ثمّة سؤال حارق يحيّرُ اليوم كلّ قارىء عربيّ حرّ ونزيه أمام الثورات العربيّة وما تفرزه من أحداث ووقائع وأقوال وردود أفعال...، يمكن تلخيصه فيما يلي : " كيف يمكنُ قراءةُ ما يحدث وما نراه ونسمعه بطريقة موضوعية تسمح لنا أن نقفَ إلى جانب الحقيقة " ؟
       إنّ كلّ إجابة عن هذا السؤال باستعمال عبارات من قبيل " يكفي أنْ... " أو " ما عليك إلا أنْ..." تتعامل معه وكأنّه واضحٌ وبيّنٌ وسهلُ المتناوَل ، هي إجابة ليست فقط خاطئة ، بل هي بالخصوص مُضلّلة ويمكنها أن تقود القارىءَ الحائر المتسائل إلى اتخاذ مواقفَ من شأنها أن تقف إلى جانب من يتلاعبون بالحقائق ويسمحون لأنفسهم بتحريفها  وتزييفها ...
       المسألة تتعلق بكيفية قراءة الثورات العربية بطريقة موضوعية ، وهي مسألة شائكة ومعقدّة وتعترض طريقها العديدُ من الصعوبات ، ولا نساعد القارىءَ ، حين نقول له مثلا : " اِسمع صوتَ عقلك ولا تترك مجالا للقلب والعواطف " ، على تجنّب الوقوع في الخطأ واتخاذ موقفا لصالح الحقيقة. العقل وحده لا يكفي للتعامل بوضوح وصواب مع هذه الصعوبات ، وإلا فكيف سيمكنه معالجة الكمّ الهائل من الأسئلة التي تنحدر من السؤال السابق ؟ ومنها على وجه التحديد : " هل من الممكن التعاملُ مع ما يمرّ به العالمُ  العربي اليوم - من احتجاجات وانتفاضات وثورات ، وما يرافقها من قمع وإراقة للدماء ، والمآسي والفتن والانقسامات المترتبة عنهما - بموضوعية الإنسان الذي لا تحرّكه حوافزٌ سياسية وحزبية أو دوافعٌ إيديولوجية وفكرية أو نعراتٌ مذهبية وطائفية أو انتماءاتٌ اجتماعية وطبقية أوميولاتٌ غربيّة... ؟  هل يوجد من هو قادر على تغييب كلّ هذه العوامل وأخرى مثل المصالح الشخصية والمنافع العائلية أو القبلية والزبونية ، وعدم تفعيلها حين يتكلمُ عن الآخر أو يكتبُ عنه ، حين يتعاملُ معه أو يُصْدِرُ أحكاماً عليه ؟  ما العمل وكيف التعامل مع مبدأ " اتخاذ المواقف " وقد اختلطت الأشياءُ علينا ولم نعد قادرين على أن نفرّق بين الصحيح والخاطىء منها ، بين الحقيقي والمزوّر أو الكاذب منها ؟
       لابُدّ ، من أجل تناول هذا الموضوع بما يلزم من العقلانية والموضوعية ، من منهجية. لهذا من الضروري عدم إهمال الملاحظات الأساسية الآتية :
      - صحيح أنه من المستحيل إقصاء الذاتية في اتخاذ المواقف من الأحداث وإصدار الأحكام على أفعال الناس ، لأنّ الموضوعية لا تعني نفيَ الذات عن الموضوع  أو تصورَ إمكانيةِ وجودِ رأي أو تحليلٍ يتحلّى في معالجته لقضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية أو غيرها بالعلمية المطلقة. فكما أنّه لا وجود على الإطلاق لما يسمّى بالطبيعة الإنسانية كمادّة فطريّة معطاة سلفا ، فكذلك لا وجود للإنسان ككائن علميّ أو عقلانيّ صرف. وهذا يعني أنّ الإنسان كائنٌ ذو طبيعة اجتماعية مكتسبة وأنّ تكوينَه يخضع أساساً لتأثير التاريخ. ( أنظر مثلا ما يقوله عالم النفس الاجتماعي لوسيان مالسون Lucien Malson  في كتابه Les enfants sauvages  )

        - إن اشتغالَ العالم محكومٌ بالضرورة بنفس القانون العام الذي يُحَفّز وينظّم ويوجّه كلّ الخطابات اللغوية وغير اللغوية . وهذا القانون يَظهر في اختباء أناة المخاطِب أو ذاتية المتكلم في نصّ الموضوع ، وتدخل إرادة المرسِل ونيّتِه في أداة ومادة ورسالة الخطاب. فكما أنّ كلّ خطاب هو في الحقيقة تعبيرٌ عن ذاتية الفاعل المتكلم أي الكاتب والمبدع والمفسِّروالصحافي والخطيب...، فكذلك العالم والقوى المتصارعة فيه فيما بينها ، كلّ واحدة منها تحاول أوتريد إماّ اقتراح وإماّ فرض نوع السياسة أو الحكم أو النظام أوالقوانين التي تراها جديرة بالدفاع عن مصالحها ، وتحقيق مشاريعها الثقافية أو الإقتصادية أو السياسية أو العسكريّة .

      - انطلاقا من النقطة السابقة ، لا يخفى على أحد أنّ علاقاتِ القوة بين الدول والأنظمة في العالم غيرُ متوازنة ومتكافئة. فبمقدار ما تتوفر عليه دولة ما من كثرة وقوّة الوسائل المادية والتكنولوجية والعلمية ، والأدوات الفكرية ، والقنوات الثقافية ، والعلاقات الديبلوماسية... ، يكون مقدارُ قدرتها على التدخل في الأحداث الخارجية وتوجيهها فيما من شأنه أن يساعدَها على إرساء الأرضيات المناسبة لخدمة مصالحها... وخير من يمثل هذا في الشرق الأدنى والأوسط  خصوصاً هو دولة إسرائيل ، أمّا عالميا فواضح للجميع أنّ أمريكا تحضى بحصّة الأسد.

     - أمام هذا الواقع ، وفي عصر العولمة ، تزداد مشكلة القارىء العربي الحرّ المتطلع إلى معرفة الحقيقة في التعقيد ، بفعل الاستغلال المكثف الشديد للإنترنت من طرف الدول والقوى المتنافسة فيما بينها قصْدَ الترويج لسياساتها الإقليمية والعالمية وصناعة " الرأي " المتفق معها أوالمساند لها. المشكلة تكمن بالأساس، إذن ، في كوننا نعيش عالما فُتِحَتْ فيه أبوابُ الأخبارعلى مصراعيْها إلى درجةٍ أن أصبحنا يومياً وباستمرارعرضة وابلٍ مكثفٍ وغزير من المعلومات والصور والفيديوهات...،  تقدّم لنا أحداثا ووقائع ووضعيات وحالات ، من الكثرة والاختلاف والتنوع والتناقض ما يجعلنا نكون غيرَ مُستعِدّين ولا قادرين على التعامل معها بكفاءة ولا بموضوعية ، بل تضُرّ بنا وتُسَبّب لكثير منا حالاتِ إحباطٍ ويأس...

         بعد هذه الملاحظات ، أحاول – بسرعة - الإجابة عن السؤال الجوهري الملحاح ، الذي يفرض اليوم نفسَه في العالم العربي لأنّ الأمر يتعلق بمسؤولية كبيرة مُلقاة على عاتق المثقفين والمفكرين والباحثين والصحافيّين الأحرار ومن سار على دربهم : كيف أقرأ كلّ ما يصلني من الأخبار بحذر واحتياط حتى لا أقعَ في فخ الكذب أو التزوير أو تلاعب ومناورات المتصارعين فيما بينهم حول تحقيق أهدافهم ومصالحهم ؟ كيف أعرف أن الخبر صحيص وأن الموضوع أو الحدث المعروض عليّ في الإنترنت هو قضية عادلة أو مسألة تستحق الوقوفَ إلى جانبها والذوذ عنها ؟

        أكتفي هنا بتقديم نقطتيْن هامّتيْن جداّ :

- أوّلا ، على القارىء التخلص من الاعتقاد بمركزية ذاته أي بأنّه القطب الجوهري في الوجود وأن كلّ مجرّات الكواكب وأنظمة الأفكار والحقائق تدور حوله... وهذا الشرط ضروري للتحرّر من ثقل القيود التي تمنع من الانفتاح في الرؤية والوضوح في النظر، وهو وراء إعطاء آذاننا للآخرين ، نسمع لهم وهم يُعَبّرون عن وجهات نظرهم ويعرضون الاسباب التي تدفعهم إلى الاعتقاد بسلامتها وصحّتها أو بواقعيتها.

-  ثانيا ، على القارىء التمييز والتفريق بين نوعيْن من المواضيع ، التي تقبل التأويل والتي لا تقبل التأويل. فالأولى طبيعتها نظرية وقابلة للأخد والردّ ، والجدل ، وتأخذ أصلها من عالم الأفكار وهدفُها التعبيرُ عن رأي في مسألةٍ ما أو قضيةٍ من القضايا ( ما معنى الثورة ؟ ما الحرية ؟  ما هي أسباب الثورة ؟  هل من علاقة بين الدين والثورة ؟ الدين والحرية ؟  الاسلام والديموقراطية ؟ الحرب والسلام ؟... إلخ ). كلّ واحد منّا له فكرة خاصة أو رؤية شخصيّة حول كل مسألة من هذه المسائل ، ويمكنه أن يكون مع أو ضدّ هذه الفكرة أو تلك ، وهو من أجل الدفاع عن وجهة نظره يَسوق دلائلَ وأمثلة تشهد بصحّتها أو جدّيّتها ... ويمكن لهذا النوع من المواضيع أن يتخذ شكل وثيقة مكتوبة ( مقال مثلا )  أو شفهية ( خطبة مثلا ) ، أو مرئية سمعية ( فيلم أو شريط فيديو مثلا ).
         أمّا الصنف الثاني من المواضيع فلا يعبّر عن رأي ، بل يقدّم حدثا وقعَ بالفعل ، ويمكن التأكدُ منه ، إمّا بالمشاهدة ورؤية العين ، وإمّا بالملاحظة والتجربة ، فمأساة عبير يوسف سكافي - الطفلة الفلسطينيّة التي ماتت متأثرة بصدمة عصبية جرّاء منعها من احتضان والدها الأسير في سجن بئر السبع الإسرائيلي  أثناء زيارته - شيء لا يقبل التأويلَ لأنه واقعة حدثتْ بالفعل. ونفس الشيء ينطبق على خطف ناشط السلام الإيطالي فيتّوريو أرّيغوني وضربه وقتله شنقا من طرف جماعة سلفيّة جهاديّة ، كما ينطبق أيضاً على كلّ القتلى الذين سقطوا في سوريا برصاص النظام الحاكم ، وفي بلدان عربيّة أخرى كاليمن وليبيا... إلخ.  القتلى هنا حقيقيّون أي بشر من لحم وعظم ودم ، استُحِِلت حياتُهم تسلطاً ونُهِبَتْ منهم أرواحُهم بعنف وهمجيّة. القتلى ليسوا شخصيات خياليّة تُتابعها وتضع نهاية لحياتها ، في لامبالاة وكبرياء ، قوّاتُ الكوموندو الأمريكية البطلة التي تروّج - داخل برنامج لعب إلكتروني يتسلى به الصغارُ والكبارُ وكل من يبحث عن قتل الوقت بأي وسيلة على الإنترنت – لأفكارها وتصوّرها للعربي المتخلف أو المسلم الإرهابي . قتلى مدينة درعا السوريّة ، مثلا ، التي قطع النظامُ السوري عن سكانها الخبزَ والماء والكهرباء والاتصالات وعن أطفالها الرضع الحليب ، هم حقيقيّون وإنْ كانوا يشبهون شخصيات برامج الألعاب الإلكترونيّة في عمليّات الحصار والمتابعة والتقتيل المفروضة عليهم من طرف قوّات الكوموندو أو الجيش. حذار إذن ، أيّها القارىء ، ليس من الخلط بين الواقع والخيال فأنت لستَ غبيّا كما يظنّ المقامرون بالقيم واللاعبون بأقدار الناس ، وإنّما من نسيان هذه الحقيقة !

       وعلينا هنا أن نحتاط من عدد من الفيديوهات المتعلقة بانتفاضات وثورات العالم العربي التي نشاهدها على الإنترنت ، فهي على الرغم من كونها مرئية ملموسة تراها العينُ ، تخضع لعملية المونتاج ، الشيء الذي يعني أنّ الحلقات المكونة لمادة الفيديو تنتظم فيما بينها بفعل إرادة صانع المونتاج أي أنها تخضع للأغراض التي يرمي من وراءها ... كما أنّ عددا منها – ولا أعطي إحالات مرجعية لبعض منها احتراما لذكاء القارىء وحتى لا اُتّهَمَ بالإنحيازية أيضاً ، وهي موجودة بكثرة - يحمل عناوينَ لا تتناسبُ إلا قليلا مع محتوياتها ، وبعضاً منها يتكلم عن أشياء لا نشاهدها على الشريط. وهي بذلك لا تقنع القارىءَ بل تدفعه إلى التشكيك في مصداقيتها وجدّيتها ، ويدلّ على هذا أنّ تعليقات القرّاء عليها غالبا ما تَسْترسِل في محاولاتِ شرح وتفسير ما جاء فيها دون إقناع من لا يشاطرونهم نفسَ القراءة ، كما أنّ الكثير منهم ينتقدُ هذه الفيديوهات ويرسل الشتائمَ إلى أصحابها فتجيء ردودٌ من قراء آخرين لا يَتفِقون مع المنتقدين فيرمونهم بالغباء أو العمالة أو الوقوف إلى هذه الجهة أو تلك... 

         الحق أنّ الشيطان يوجد في التفاصيل وما أن نبدأ في معالجتها ومناقشتها حتى تقفز إلى الظهور العديدُ من الصعوبات فنتردّد ويصعب علينا الحسمُ في الأمور... لهذا من الأحسن التثبت بالمبادىء الأخلاقية العامة والقيم العليا وحقوق الإنسان التي لا يختلف عليها إثنان والانطلاق منها...فإذا ما اختلطت على المرء الاشياءُ والحقائقُ فلا يعرف ما يفعل وأيّ موقفٍ يتخذ فهناك معيارٌ يمْكِنه أن يُجنّبه الكثيرَ من الأخطاء ، فليحاول أن يلقيَ نظرة فاحصة متأنية على واقع علاقات القوة بين الجهات المتخاصمة أوالمتنازعة ، سيعرف حينئذ من هو القوي ومن هو الضعيف ، من هو المظلوم ، من يستعمل العنف ومن يتظاهر بطريقة سلمية ، من يسجن ويعذب ومن هو الضحية ، من هو القاتل ومن هو المقتول...

      أنا شخصيا اخترتُ أن أكون إلى جانب الضحايا ، المظلومين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة. اخترتُ جانبَ الطفلة الفلسطينيّة الشهيدة عبيرالبريئة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي الذي لا قلب له ، جانبَ فيتوريو الانساني ضد قاتليه الحاقدين المتهوّرين ، جانبَ أبناء الشعوب العربية – القابعين من معتقلي الرأي في السجون والمعذبين والمحرومين من حريّتهم والمطالبين بحقوقهم وكرامتهم ، وأترحّم على الذين سقطوا شهداء برصاص جنود أوطانهم - ضدّ جلاديهم وقاتليهم من الحكام وأجهزة الأمن الفتاكة...

       لكن من حقي أن أشكّ في موقف الغرب الذي ، بعد ألف حساب ، قرّر أن يسرق الثورة من المنتفضين في ليبيا ، فاتخذت منعطفا آخر... كما قرّر أن يعامل الثورات بمكياليْن ... والكلّ يعرف أنّ القوى الغربيّة لا تقدّم المساعدة حُبّا في جمال عيون الشعوب العربيّة ، وإنّما انطلاقا من فلسفتها البراغماتية ودائما في إطار " الخطاب " الذي تمثله ، وهوخطابٌ تمتدّ جذورُه بعيداً في التاريخ ...

     وتبقى معرفةُ هذا التاريخ والوعيُ بمدى مفعوله وتأثيره في اتخاذ المواقف والقرارات السياسية الكبرى شيئا ضروريّا لفهم ما يحدث اليوم في العالم العربي والإسلامي ... وهذا موضوع آخر !


حمّودان عبدالواحد / دكتور في علم اللسانيات / أستاذ وباحث يقطن بفرنسا