الحوار والراي الحر > المنبر الحر

السورايي و الخشبة المكسورة

(1/1)

shamasha khosho:
في الاربعينيات من القرن الماضي و تحديدا بين عامي 1945 و 1946 و في قرية سناط التابعة لقصبة زاخو على اقصى الحدود بين العراق و تركيا ، قتل الشاب ياقو رفو عبى يد العصابات الكردية المنتشرة في تلك المناطق و التي كانت تعيث في القرى المسيحية فسادا، كانت تلك العصابات مؤلفة من وحوش ضارية باجسام بشرية يقتلون و ينهبون و يسلبون المسيحي حتى ملابسه التي يتستر بها، و اذا عارضهم احد او حاول الافلات من قبضتهم ، يكون عندذاك قتله و من ثم سلبه من ابسط الامور عندهم.
كان ياقو في الثلاثين من العمر، منزوجا و له  ولد و بنتان، و كان قد ورث عن اجداده قطعة ارض زراعية و بستان صغير. اشترى له حصانا ( ثمن الحصان كان بين 8-10 دنانير حينها )، فكان يذهب في الاسبوع مرة او مرتين الى مدينة زاخو لغرض التسوق ( المسافة بين سناط و زاخو ثمان ساعات سيرا على الاقدام ) فكانت كل رحلة تستغرق يومان ، ذهابا و ايابا . كان المرحوم يحمل معه على حصانه من المواد التي يوصيه بها اهل القرية، من بينهم الشرطة و الموظفين العاملين في القرية.و كانت الاجرة التي يحصل عليها ياقو مقابل كل سفرة ، بين نصف دينار و الثلاثة ارباع الدينار. بهذا العمل المضني كان يعيل عائلته .
إشترى ياقو بندقية له من اجل حماية نفسه و حصانه من العصابات المنتشرة في تلك المناطق.

في احد الايام توجه ياقو صوب المدينة بعد ان ودع زوجته و اطفاله الثلاث و في اليوم الثاني حمل المواد المطلوبة على ظهر حصانه كالعادة ، و اخذ طريق العودة الى قريته سناط.
قطع نصف المسافة ووصل الى جبل (كيرا ) ( بالكاف الفارسية ) . هناك و على مقربة من الطريق كانت احدى عصابات الاجرام تنتظر ياقو، فعندما وصل الى النقطة المطلوبة اطلقوا عليه النار و اردوه قتيلا دون سابق انذار ، و سلبوا منه بندقيته و حصانه و تركوه  وهو في السكرات الاخيرة. كان هناك رجل آخر من سكان القرية نفسها مارا من ذلك الطريق، سمع هذا صوت الاطلاقات النارية فأسرع في سيره ووصل الى المكان الذي قتل فيه ياقو ووجده قد فارق الحياة، اسرع الرجل في سيره ووصل الى القرية و هو يصرخ بأعلى صوته" لقد قتل ياقو " .
توجه رجال القرية و بعض افراد الشرطة صوب  (كيرا ) لجلب جثة المرحوم. لم يفاجأ اهل القرية بما حدث لأن ياقو ليس اول من قتل على يد العصابات الاجرامية و لن يكون الاخير. كان البيت الذي تسكن فيه عائلتي ملاصقا لبيت المرحوم ، و كنت آنذاك ألعب مع اصدقائي في الساحة الصغيرة المجاورة لبيتنا، و كان عمري ثمان سنوات .
شاهدت النساء يجتمعن في بيت المرحوم و هن يلطمن على رؤوسهن . توجهت الى البيت ورأيت والدتي تخرج و هي تلطم على رأسها و تبكي بمرارة  ، تقدمت نحوها لأسألها عن سبب بكائها و الآخرين ، لكنها لم تجبني.

اجتمع كبار السن من الرجال امام دار المغدور، البعض منهم يبكي ، و الاخر يدخن الغليون و يجر الحسرات بين نفس و آخر، شاهدت اطفال المرحوم و هم متلاصقين مع بعضهم في احدى زوايا الإيوان يذرفون الدموع و يرتجفون من الخوف، اردت التقرب اليهم بدافع الفضول لعلني اعرف ما الذي حدث، لكن كثرة الواقفين حالت بيني و بينهم. سمعت النساء يصرخن" لقد ماتت المسكينة" ، كانت زوجة الفقيد قد غابت عن وعيها من شدة الحزن على زوجها.
رجعت الى البيت مسرعا لأسأل جدتي التي كانت قد فقدت بصرها منذ اكثر من عشرة سنوات و منذ ان هاجرها ابنها الاصغر هربا من المعتدين.
سالت جدتي " توتو ما الذي حدث ؟  لماذا تجتمع الناس امام دار العم ياقو ؟ "
اجابت بمرارة " توتو لقد قتل ياقو " ، قلت لها " من الذي قتله ؟" ، اجابت " العصابات الكردية ، وهل هناك غيرهم ؟ " قلت " لماذا قتلوه ؟ " قالت " ليسلبوا منه بندقيته و حصانه " .
و بما انني كنت اسمع بين فترة و اخرى عن اعتداءات تقوم بها هذه العصابات على سكان القرية، سألت جدتي مرة اخرى " توتو لماذا يقتلون السورايي ؟ " اجابت جدتي و قد نفذ صبرها من كثرة الاسئلة و قالت " كفى اسئلة توتو ( سورايي قيسا تويرا ايلي ) ". بمعنى ان المسيحيين ( السورايي ) هم خشبة مكسورة . اردت ان اعرف المزيد من جدتي لكنها اجهشت بالبكاء، فخرجت لأعاين المشهد من بعيد.

مرت الايام و السنين ، و في عام 1950 رشحني كاهن القرية كي اكون احد تلاميذ المعهد الكهنوتي البطريركي في مدينة الموصل. انتهت السنة الدراسية 50-51  و رجعت الى اهلي لقضاء العطلة الصيفية، إذ انهم كانوا قد هاجروا من سناط و سكنوا في قرية إشكفت مارا القريبة من زاخو مسافة كيلومترين فقط. كان عدد عوائل القرية 33 عائلة ، جميعهم مهاجرون ناجين من مذابح سفربرلك السيئة الصيت، و كان لا زال الكثير منهم ممن عايشوا تلك الاحداث المريبة احياء يرزقون. وكان لكل واحد منهم قصته الحزينة التي تركت بصماتها على حياته ، فكانت الكآبة و الحزن قد سيطرت على عقولهم و على قلوبهم، وهم يتذكرون اهلهم الذين افتقدوهم، بالاضافة الى قراهم و ممتلكاتهم التي سلبها عنهم الآخرين بعد تصفيتهم عرقيا. و كانوا جميعهم من قرى مختلفة و من مناطق بعيدة عن بعضها ، يجمع بينهم الدين و اللغة .
إلتقيت بعضا من هؤلاء المنكوبين ، كنت أسألهم عما جرى لهم ، و كانوا قليلي الكلام ، يجرون الحسرات قبل ان يجيبوا على اي سؤال ، و كانت اجوبتهم في اكثر الاحيان" ماذا نقول لك يا بني ( سورايي قيسا تويريلاي )" .
كنت كلما اسمع هذه الجملة اتذكر قول جدتي عندما قتل المرحوم ياقو. و كنت اقول بيني و بين نفسي " ما معنى هذه الجملة يا ترى ، و ما هي جذورها ؟ ".

بدأت السنة الدراسية 51-52  مع نهاية شهر ايلول. في العطلة الربيعية التي تبدأ في الشهر الثالث، اختارت ادارة المعهد دير الربان هرمزد العريق لقضاء العطلة فيه و هي 15 يوما . اختلطنا مع الرهبان القدامى بعد ان استضافتنا ادارة الدير و خصصت لنا محل الاقامة في الدير الاسفل ( دير السيدة ) الذي يقع عند اسفل جبل القوش. كان من بين رهبان الدير ، راهب قد بلغ من العمر زهاء الثمانين سنة، متوسط القامة ، قوي البنية، يتمتع بصحة جيدة، كان هذا الرجل شيخا وقورا يضيف على وقاره شعر لحيته الابيض, وكان بريئا براءة الاطفال، وهو من قرية تل قبّن ( بتشديد الباء ) الواقعة في سهل سلوبيا في تركيا. و كان قد ابيد سكان هذه القرية مع ثلاثة عشر قرية مسيحية اخرى في عام 1915 على يد اكراد ناحية شرناخ، شاركهم في هذه الجرائم اكراد منطقة سلوبيا ، و كان قد نجا من هذه المذابح الراهب مرقس مع نفر قليل من ابناء قريته لا يتجاوز عددهم عدد اصابع اليدين معا!

اجتمعنا في المساء في ديوان الدير . كانت هناك بعض الصور معلقة على الجدران لفتت نظري كانت هذه الصور تشير الى مأساة حدثت لرهبان هذا الدير في الماضي ، فمنها ما كان يشير الى راهب راكع مادا يديه نحو السماء مناجيا ربه ، و فوق رأسه يقف رجل بلباس كردي مستلا خنجره لكي يطعن به الراهب المسكين . و صور اخرى تشير الى رهبان قتلى تجري دمائهم و جماعة من الاكراد واقفين قرب جثثهم يتمسخرون منهم . في اليوم الثاني ذهبت الى الاخ مرقس ( الراهب المذكور ) و سألته عن مخزى هذه الصور  بإعتباره اكبر سنا من الاخرين، جلست جواره فإبتسم بابتسامته البريئة و قال ، " ماذا تريد يا خوشابا ؟ " قلت له " لقد شاهذت اليارحة الصور المعلقة في الديوان ، و جئت لأسألك عنها" أجاب الاخ مرقس " هؤلاء الرهبان يا خوشابا قتلهم احد الاكراد اسمه ( ميري كورا ) " بمعنى الامير الاعور ، و قد حدث ذلك قبل اكثر من مائة سنة ، عندما جاء المذكور بعساكره و قتل الكثير من المسيحيين و سبى النساء و البنات " .
قلت " لماذا يقتلون المسيحيين يا اخ مرقس ؟ ولماذا المسيحيين لا يحمون انفسهم في مثل هذه الحالات ؟ " ضحك الرجل وقال " هو- هو  .. لماذا ! لأن ( السورايا قيسا تويريلاي ) " . قلت له " اخونا مرقس ان هذه الجملة سمعتها قبلك من جدتي و من آخرين ، هل لا قلت لي من الذي كسر هذه الخشبة ؟ " ضحك الراهب مرة اخرى و قال " انها ارادة الله ".
فكرت كثيرا في قول الاخ مرقس. و اخيرا قلت بيني و بين نفسي، ان الله سبحانه و تعالى هو ينبوع الخير و المحبة و العدل و لا يمكن ان يكون مصدر لهذه الشرور . انها من قعل الشيطان و هو مصدرها .
انتهت فترة الخمسينات بخيرها و شرها ، وبدأ النصف الثاني من القرن العشرين ، الذي جلب معه الويلات و المظالم و الهجرة و التهجير، و القتل و سلب الممتلكات ، شمل ذلك المنطقة الشمالية عامة ، و القرى المسيحية على وجه الخصوص و قد اخذنا كفايتنا من هذه الحوادث المؤلمة و لا مجال لسردها او حصرها في عدة مقالات .
في منتصف السبعينيات هاجرت برفقة عائلتي الى بغداد طلبا للأمان و راحة البال ، وهناك سنحت لي الفرصة لكي اطالع الكثير من كتب التاريخ التي لها صلة بشعبنا ( الكلداني السرياني الاشوري ) و هو الشعب الذي تكلمنا عنه و سميناه ( سورايي ) كتسمية موحدة.



قرأت عن نشوء المسيحية في اجبالها الاولى و كيف ان الكنائس الشرق اوسطية كانت موحدة عقائديا و فكريا ، و قد بلغت من القوة و الصمود حدا إستطاعت من خلاله ان تسيطر على اعظم امبراطورية آنذاك  و هي الامبراطورية الرومانية و ان تحولها الى دولة مسيحية . وصلت في مطالعاتي الى النصف الثاني من القرن الخامس، و قرأت عن الاختلافات الفلسفية –اللاهوتية التي حدثت بين زعماء الكنائس الشرقية و كيف ان تلك الاختلافات تسببت في تمزيق الشعوب المسيحية ( رعايا تلك الكنائس ) و خلقت مشاكل و اضطرابات في الشرق المسيحي ادت الى انهاك حتى الامبراطورية الرومانية نفسها. بهذه الروح البعيدة عن تعاليم السيد المسيح . اتجهت كل فرقة من هذه الفرق نحو كسب صداقة الحاكم او الامير على حساب الفرق الاخرى .
استمرت هذه الصراعات دون انقطاع، الى ان حل القرن السابع الميلادي . عندما توجه العرب الغزاة صوب مناطق الشرق الاوسط، بغية نشر تعاليم الدين الجديد بين الناس فكانت النتيجة ان سارعت كل فرقة من الفرق المتصارعة لاستقبال الغزاة الجدد، و بذلك فتحت ابواب المدن و الدساكر المسيحية امام هؤلاء ، فاستطاعوا و بمساعدة المسيحيين سكان البلد الاصليين ، من ان يسيطروا على مناطق شاسعة من الشرق الاوسط في زمن قصير . لم تكتمل قناعتي بعد حول حل لغز الخشبة المكسورة التي سمعتها مرارا، عدت للتحري في طيات الكتب لعلني اصل الى نقطة النهاية.
فعلمت من بعض المصادر التاريخية ان احدعشر مليون إنسان كان يسكن في بلاد ما بين النهرين و بلاد الشام ، قبل بداية الحملة العربية على المنطقة و كيف ان الغالبية العظمى من هذه الملايين كانوا مسيحيين ، و النسبة الاكبر من هؤلاء كانوا من رعايا كنيسة المشرق . و كيف ان عدة آلاف من العرب استطاعوا ان يسيطروا على هذه الملايين في هذه المدة القصيرة . هنا توقفت عن البحث في معنى ( سورايي قيسا تويرا ) بعد ان اقتنعت بأن هذه الجملة لم تكن من اختراع جدتي و الاخرين ، انما هي قديمة قدم الانشقاقات المذهبية التي تسببت في كسر العامود الفقري للمسيحية الشرق اوسطية . بعد ان كانت الكنيسة بشعبها موحدة في القرون الاولى لقيامة السيد المسيح و لم تكن تقوى عليها ابواب الجحيم.
فهل هناك من يحاول جمع قطع الخشبة المكسورة هذه و تلحيمها مع بعضها كي تبقى تقاوم رياح الزمن العاتية ؟؟؟
         
                                           خوشابا هوزايا-ملبورن
                           
 

تصفح

[0] فهرس الرسائل

الذهاب الى النسخة الكاملة