الحوار والراي الحر > المنبر الحر

التاريخ الديني لأميركا

(1/1)

رحيم العراقي:
ساهم في تأليف كتاب : التاريخ الديني لأميركا كل من الباحثين إدوين س. غوستاد وليف شميدت. والأول هو أستاذ في جامعة كاليفورنيا، وأما الثاني فهو أستاذ في جامعة برنستون. وبالتالي فهما من كبار الأكاديميين الأميركان. وفي هذا الكتاب الذي أصبح كلاسيكياً من كثرة أهميته يقدم الباحثان صورة متكاملة عن التاريخ الديني للولايات المتحدة الأميركية منذ بداية استعمارها من قبل الانجليز في القرن السابع عشر وحتى اليوم.
من المعلوم أن تدين الشعب الأميركي أو قل شرائح واسعة منه يدهش الأوروبيين العلمانيين بشكل كامل وبخاصة في فرنسا. ففي أميركا قد يجتمع آلاف الأشخاص في ملعب ضخم لكرة القدم من أجل إعلان إيمانهم أو إقامة شعائرهم وصلواتهم في الهواء الطلق. وفي أميركا يؤدي الرئيس المنتخب اليمين على الكتاب المقدس (أي التوراة والإنجيل). وهذا شيء مستحيل في فرنسا. وفي أميركا تجد مكتوباً على العملة الوطنية (أي الدولار) العبارة التالية: بالله نثق، أو نؤمن ... الخ.
ولكن هذا لا يعني أن أميركا بلد أصولي على عكس ما نظن. فالواقع أن الدستور ينص على علمانيتها وفصل الدين عن الدولة. ولكن الشعب الأميركي يظل متعلقاً بالدين أكثر من الشعوب الأوروبية. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وهو تعلق ليس له بالضرورة أي انعكاس سياسي.ولكن هناك نقاط مشتركة مع المجتمعات الأوروبية. وهي بالإضافة إلى العلمانية عدم وجود دين رسمي للدولة. صحيح أن المسيحية في مذهبها البروتستانتي هي المذهب الغالب هناك.
ولكن البروتستانتية ليست دين الدولة. وهذا يريح الكاثوليك الذين يشكلون المذهب المنافس وإن كانوا أقلية، ولكن أقلية كبيرة. وبالتالي فجميع المواطنين متساوون أمام القانون سواء أكانوا ينتمون إلى مذهب الأقلية أم مذهب الأكثرية.
يضاف إلى ذلك أن أميركا بلد تعددي من الناحية الدينية. وهناك تسامح كبير ضمن مقياس أنه لا يحق لدين الأغلبية أن يفرض نفسه على الآخرين، وضمن مقياس أن كل الأديان والمذاهب لها حرية الوجود والتعبير عن نفسها. فهناك بالإضافة إلى المسيحية في مذهبيها الكاثوليكي والبروتستانتي، اليهودية، والإسلام، والبوذية، والهندوسية، وبقية الأديان الأخرى.
وبما أن الدولة علمانية فإنها لا تغلّب ديناً على دين، ولا مذهباً على مذهب وإنما تحترم كل الأديان والمذاهب. فلا يوجد دين واحد صحيح وبقية الأديان خطأ. وأما فيما يخص الأصول الدينية الأولى لأميركا فيقول المؤلفان ما معناه: إن التعددية الدينية تجد جذورها في فتح أميركا ذاته. فهذا الفتح أدى إلى تعايش، وتجابه ثلاثة أديان أو ثقافات: ثقافة الهنود الحمر، أي السكان الأصليين للبلاد، وثقافة الأوروبيين الغزاة، وثقافة الأفارقة السود الذين نقلوا إلى هناك كعبيد للاشتغال في الحقول.
ثم يردف المؤلفان قائلين: وأما تعددية المذاهب المسيحية فتقود إلى تعددية المهاجرين الأوروبيين أنفسهم. فالانجليز حملوا معهم المذهب البروتستانتي، والأيرلنديون المذهب الكاثوليكي ... الخ. ويمكن القول بأن المذهب البروتستانتي هو أول من وصل إلى البلاد مع المستعمرين الانجليز. وكان ذلك في بداية القرن السابع عشر. والكثيرون منهم فروا من انجلترا أو سواها خوفاً من الاضطهاد الطائفي الذي كان الكاثوليك يمارسونه عليهم. وقد وصلوا إلى العالم الجديد عام 1620 لكي يجدوا ملجأ وملاذاً.
وقد وصل هؤلاء على دفعات ليس فقط من انجلترا، وإنما أيضاً من هولندا. هل نعلم بأن نيويورك كانت تدعى في البداية: أمستردام الجديدة؟ وذلك لأن الهولنديين هم الذين استعمروها. بالطبع فلم تكن الدوافع الدينية هي وحدها سبب هجرة كل هؤلاء إلى أميركا. وإنما كانت هناك دوافع اقتصادية أيضاً. فالجميع سمعوا بغنى تلك البلاد الجديدة وكانوا يرغبون في تحصيل الثروة فيها وتحقيق أحلامهم في حياة رغيدة.
وعلى هذا النحو أصبح البروتستانتيون هم السكان الأوائل للولايات المتحدة وهم الذين يشكلون مذهب الأغلبية. بعدئذ سوف تصل الهجرات الأوروبية إلى أميركا وستكون في أغلبيتها كاثوليكية. ولكن قبل أن نصل إلى ذلك ينبغي القول بأن الكنيسة البروتستانتية انقسمت إلى قسمين كبيرين بدءاً من عام 1845: قسم ليبرالي مضاد لاستعباد السود، وقسم محافظ يؤيد هذا الاستعباد بالذات. وقد ساد الأول في الولايات الشمالية، في حين أن الثاني ساد في جنوبها. وهو الذي أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الرهيبة التي حصدت مئات الآلاف من كلا الطرفين وانتهت باغتيال الزعيم الكبير ابراهام لنكولين الذي كان من ألد أعداء نظام الرق والعبودية. فقد اغتاله أميركي متعصب من الولايات الجنوبية. ثم يردف المؤلفان قائلين بما معناه: لقد تعرض المجتمع الأميركي لتحولات ضخمة بعد انتهاء الحرب الأهلية وحتى بداية الحرب العالمية الأولى. فقد أصبح مجتمعاً صناعياً، حضرياً، متعدد الأعراق والمذاهب والأديان.
وأصبح علمانياً أكثر فأكثر بسبب ضغط الصناعة والعلم الحديث عليه. وما عاد بالإمكان أن تبقى جبهة البروتستانتيين موحدة خلف التقليد والكتاب المقدس والقساوسة. فأفكار التنوير الأوروبي كانت قد وصلت إلى أميركا وانتشرت في أوساط المثقفين والطبقات العليا من المجتمع. وشكل ذلك تحدياً كبيراً للبروتستانتية، أي دين الأغلبية، على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي.
فقد اندلعت معركة كبيرة عندئذ بين الأصولية البروتستانتية والعلم الحديث وبخاصة نظرية داروين. ويمكن القول بأن هذه المعركة لا تزال مستمرة حتى الآن بشكل من الأشكال. فالأصوليون ظلوا متشبثين بالرواية التي قدمتها التوراة عن نشأة الكون وأصل الإنسان في سفر التكوين الشهير.
أما الليبراليون والعلمانيون والحداثيون عموماً فقد صدقوا رواية داروين والعلم الحديث. وهي الرواية التي صدمت المتدينين كثيراً لأنها تقول بأن الإنسان ما هو إلا عبارة عن حيوان متطور (أو قرد مزود بعقل وذكاء متطور ويمشي على قدمين بدلاً من أربع قوائم)!!
والواقع أن أصل الصدام أعمق من ذلك. فالمتدينون يصدقون كل ما يقوله الكتاب المقدس ويأخذونه على حرفيته. وأما الليبراليون فلا يصدقون إلا ما يقوله العقل التجريبي والعلمي الحديث.
وبالتالي فهناك صدام بين مشروعية الوحي المسيحي من جهة، ومشروعية العلم الحديث ومنهجيته الاستنباطية من جهة أخرى. وهذا الصدام انتقل إلى أميركا من أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما وانتقل إلى العالم العربي أيضاً وبقية أنحاء العالم.
ثم انقسم المسيحيون أنفسهم إلى قسمين: قسم أصولي متزمت، وقسم ليبرالي. ما الذي نقصده بالتيار الليبرالي المسيحي؟ إنه التيار الذي لا يقرأ النصوص المقدسة قراءة حرفية وإنما مجازية. فهو لا يعتقد بأن التوراة أو الإنجيل هما كتابان في علم الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو الفلك.
وبالتالي فكل ما يقوله الكتاب المقدس عن نشأة الكون والإنسان ينبغي أن نأخذه على سبيل المجاز: أي كقصة شعرية جميلة ليس إلا. وحده العلم يقدم معلومات دقيقة ومبرهناً عليها عقلياً وتجريبياً عن ظواهر الكون. وبالتالي فلنأخذ بالعلم فيما يخص معرفة الكون والظواهر والطبيعة. ولنعتبر الدين فقط عبارة عن تعاليم روحية وأخلاقية ترشدنا إلى الطريق المستقيم في الحياة والسلوك اليومي.
ولكنه لا يقدم لنا أي معلومات موثوقة عن ظواهر الطبيعة. فليست هذه وظيفته. فهذا الشيء من اختصاص العلم فقط. وبالتالي فالدين إذا ما فهمناه على حقيقته لا يتعارض مع العلم وإنما يكمله. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين يأخذون النص الديني على حرفيته، وعندئذ يحصل تناقض إجباري بينه وبين علم الفيزياء أو الكيمياء.
فالنصوص المسيحية تفسر سقوط الأمطار أو هبوب الرياح أو سواها من الظواهر الطبيعية عن طريق قوى غيبية أو خارقة للعادة. أما العلم فيفسرها عن طريق قوانين طبيعية لا علاقة لها بالغيب أو بالأساطير أو بالمعجزات ... وقس على ذلك.يضاف إلى ذلك أن التيار الليبرالي المسيحي يعتقد بأن مملكة الله يمكن تحقيقها على الأرض عن طريق التقدم العلمي وتحقيق الرفاهية والسعادة لكل أبناء المجتمع.
أما التيار الأصولي فيعتقد بأن مملكة الله لن تتحقق إلا بعد يوم الحساب وفي العالم الآخر فقط وليس في هذا العالم. هكذا نلاحظ أنه يوجد تناقض بين التيار الأصولي والتيار الليبرالي في أميركا. ولكن على عكس ما نتوهم فإن التيار الليبرالي هو الذي يشكل الأغلبية وليس التيار الأصولي وإن كان هذا الأخير قد انتعش كثيراً في الآونة الأخيرة بعد ضربة (11) سبتمبر.
أما المذهب الكاثوليكي فقد دخل متأخراً إلى أميركا بالقياس إلى المذهب البروتستانتي. ويكفي أن نذكر الأرقام الإحصائية لكي تتوضح كيفية دخول هذا المذهب. فأول دفعة وصلت عام 1800 إلى الأرض الأميركية. وكانت تضم خمسة وثلاثين ألف شخص. وقد وصلوا من أيرلندا وألمانيا بالدرجة الأولى.
ثم أصبح عدد الكاثوليك مليونين عام 1860، وفي عام 1926 أصبحوا ثمانية عشر مليوناً. وأما اليوم فيتجاوز عددهم السبعين مليون نسمة. وبالتالي فهم يشكلون المذهب الثاني في أميركا بعد البروتستانتيين الذين يتجاوز عددهم المئتي مليون نسمة.
وبعدئذ تجيء الأقليات العربية والإسلامية واليهودية والبوذية والصينية الكونفوشيوسية ... الخ. هكذا نلاحظ أن الولايات المتحدة بلد مليء بالأديان والمذاهب. ولكن الجميع يعتبرون مواطنين من الدرجة الأولى أمام القانون. فلا يوجد أي تمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو ديني.

تصفح

[0] فهرس الرسائل

الذهاب الى النسخة الكاملة