كتاب علوم البابليين لمرغريت روثن : ت . د . يوسف حبي
حبيب تومي / اوسلو
علوم البابليين كتاب من تأليف مرغريت روثن وتعريب وأيضاحات الأب الدكتور يوسف حبي ، يقع الكتاب في 140 صفحة ، دار الرشيد للنشر بغداد 1980م .
عنوان الكتاب باللغة الفرنسية هو ( علوم الكلدانيين : La science des chaldeens ) لكن الأب المرحوم حبي يقول : وضعت العنوان علوم البابليين في الترجمة بدلا من العنوان الأصلي .
تقول الكاتبة مرغريت روثن في الفصل الأول :
لقد كان الكلدانيون حقاً ارباب العلم المقدس او علم الهيئة والعرافة ، حيث يمتزج العلم بالسحر .
لقد تمكن العلماء المعاصرون في بحوثهم من الكشف عن المبادئ التي اعتمدها البابليون ، بحيث اصبح بمقدورنا اليوم ان نميز بين النتائج ( العلمية ) التي توصلوا ايها ... لقد تسنى لنا ان نعتبر الكلدانيين آخر ممثلين للعلماء البابليين ، بل ورثتهم الشرعيين [ فلا نقيم فرقاً بينهم ، انما تمييزاً طفيفاً ليس الا : المعرب ، يوسف حبي ] .
وبهذا الصدد ايضاً نقرأ :
يذكر سفر التكوين 11 : 28 وكذلك سفر اعمال الرسل 7 : 4 بأن ابراهيم الخليل رجل من مدينة اور الكلدانيين . ومعروف ان بلاد كلدو كانت تمثل في الحقبة المتأخرة ، المنطقة الجنوبية من بابل .. وعلى حد تعبير سترابون : فقد كان ثمة قبيلة كلدانية تسكن رقعة من بابل متاخمة لعرب البادية والخليج ويفيدنا كتيسياس بدوره قائلا :
ان الكلدان هم قدامى البابليين .
في الفصل الثاني في التعبير عن الفكر وذلك بواسطة اللغة والكتابة ، وهذه الكتابة تجري في مناطق اخرى على الخشب والجلد والبردي ، نرى شعوب وادي الرافدين تستخدم الصلصال .. فكانوا يصبون قطعاً صغيرة على شكل قالب صابون ثم يرسمون على الطين الطري علامات كتابتهم ثم يجففون المادة الطرية ، ومكثت هذه الوثائق الطينية آلاف السنين لتصل الينا فنفسر رموزها ومنها نعلم ان هناك كانت حضارة انسانية قد شيدت وازدهرت .
لقد كان هناك كتبة يختصون في هذه الكتابة وقد ثمن ديودوروس تعليم الكتبة الكلدانيين بقوله :
غير ان هذه المعارف لم تكن تعلم بالطريقة عينها لدى الأغريق . بينما فلسفة الكلدان تقليد عائلي يرثها الأبن عن ابيه كوظيفة عامة . وبما ان مدربيهم هم اهاليهم فهم ينعمون سواء بتعليم المعارف كلها دونما تحفظ او قيد ....
يمثل شخصية الكاتب القديم بشكل بديع شخصية الكاهن الكلداني بيروسوس... الذي خدم في هيكل مردوخ في ايام انطيوخوس سوتيرس (281 ـ 261 ق . م ) ووضع باليونانية ثلاث مجلدات في المعتقدات البابلية [ البابليات ] ولم يصلنا منها سوى شذرات جمعها المؤرخ اوسابيوس القيصري ومؤرخون وكتاب اخرون ..
في فصل عن المعتقدات تقول الكاتبة :
ان ممارسات العرافين والمنجمين الكلدانيين تمثل الجانب الوضعي للعلم ، لقد حاول البابلي فض معضلات وضعتها المعتقدات القديمة ، وتمثلت في شدة معاناة البشرية المبتلاة انذاك بالجوع والخوف ، واليأئسة لعدم مقدرتها على مقارعة المصير المحتوم .
ان تفكير البابليين كان يتم بالمقارنة اولا وبنوع ثانوي بطريقة الأستدلال ، او او بالأستقراء والأستدلال معاً .. بينما نزعة الغرب كانت بطريقة الأستدلال قبل كل شئ . لقد طبق مبدأ المقارنة في تعاليم البابليين وطبق في العرافة والسحر وبنوع ثانوي في الطب ، فحين يقوم الساحر بفعل ما ، يكون في حالة القيام بفعل سماوي لاستحصال رد فعل يولد انعكاساً لذلك الفعل على الأرض .
وهذا ما عبرت عنه الكاتبة بالمراسلات او الأتصالات بين السماء والأرض وأفرز هذا الأعتقاد الولادة للرمزية ، وهذا كان ايضاً حافزاً لتبلور فكرة مجمع الآلهة بانتثيون ( Pantheon) .
علم الأسم
لقد كان في المعتقدات البابلية تعلق اهمية كبيرة على الأسم ، فالشئ لا يتخذ وجوداً حقيقياً له الا اذا اتخذ اسماً فبوسع الشئ ان يتخذ له وجوداً مادياً ، لكنه لن يصبح موضوع معرفة الا بعد ان يحمل اسماً .
ان ملحمة الخليقة التي نظمها كهنة بابل على شرف الأله مردوخ في مطلع الألف الثاني ق . م . واستنسخت في العهد الآشوري ، وقام الكاهن الكلداني بيروس بشرحها ، تقول الملحمة :
عندما لم يكن للسماء اسم بعد
عندما لم يكن للأرض تحت السماء اسم بعد ...
فالمثل الشائع كان : الأسماء نتيجة الأشياء ...
في الفكر البابلي هناك ايضاً معضلات الضمير البشري الكبرى ومصير الأنسان بعد الموت والعالم السفلي ، والأعتراف بالخطايا ...
واذا انتقلنا الى موضوع المعرفة ونشوء العلوم ، نلاحظ الكلدانيين يضعون الطب من ضمن الصراع ضد القدر كالسحر والفال والحلم والرقي والتعاويد ، ان الكاتبة تضع قول هيرودتس حول الطب عند البابليين موضع شك حينما يقول :
ان للأوائل عادة اخرى ايضاً .. انهم يحملون المرضى الى الساحة العامة إذ لا اطباء لهم ، فيأتي المارة ويدنون من المريض ، ويستفسرون عن مرضه ، فإذا كانوا قد ابتلوا به هم او احد معارفهم ، يشيرون عليه بالعلاج الذي شفاهم . وغير مسموح ان يمر احدهم بالمريض دون ان يسأله عن علته .
اما عن الصيدلة فإن تحديد 250 نوعاً من الحشائش المستعملة من قبل الأطباء البابليين ـ كما صرح الدكتور كونتينو ـ ليس امراً هيناً .
تنظيم الوقت والتقويم
التقويم البابلي
الشهور
كانت الأشهر تمثل النشاطات الحياتية والأقتصادية في حياة الأنسان العراقي القديم : الشهر الذي تأخذ فيه الزروع بالأصفرار ، الشهر الذي تحصد فيه القمح ويسمى شهر المطامير وفيه يجمع القمح ، والشهر الذي تحفظ فيه المحاصيل للحيوانات ، وهناك اعياد طقسية كالشهر الذي يأكلون الحنطة على شرف الآلهة او الشهر الذي يأكلون المولت ـ وهي حبوب الشعير ومنها تصنع البيرة ـ وهناك شهر جز صوف الخراف .
لقد ادخلت بابل وبشكل نهائي تاريخ العام الجديد في شهر نيسان اي في الأعتدال الربيعي ، والسنة المثالية 360 يوماً مقسمة الى 12 شهراً وفي كل شهر 30 يوماً ، وطبيعي ان تكون هذه السنة ناقصة فأضاف البابليون اشهراً اضافية ، اما الشهر السادس او الشهر الثاني عشر لكي تناسب وموسم الحصاد ايار ـ حزيران .
كان اليوم مقسماً الى 12 ساعة ( بيرو Berou ) وهي ضعف ساعتنا الحالية ، ورغم تقسيمنا اليوم الى 24 ساعة ، لكننا احتفظنا في عقارب الساعة بالرقم 12 فبقينا هكذا ورثاء الكلدانيين .
الشهر القمري
استخدم القمر كمرجع مهم لتحديد الزمن :
ان الأله مردوخ :
... سلط القمر على الليل
وجعله زينة في الليل
به يعرف الناس موعد الأيام
في بدء الشهر يطل القمر
يحدد الأسبوع
وبعد اسبوعين ، في نصف الشهر
يواجه الشمس ، يكون بدراً
يدركه المحاق ، يعود ثانية الى الأرض .
يقول بطليموس في كتابه الرابع :
ان الكلدانيين اكتشفوا ان القمر يدور في 6585 يوماً و8ساعات 223 مرة حول الشمس ، و 239 مرة حول مداه الأقصى ، و242 مرة حول محوره ...
وقال جيميونوس : ان الكلدانيين حددوا الحركة الوسطى اليومية للقمر ب 13 درجة و10 دقائق و35 ثانية ، ولا يقل الرقم دقة عن الصحيح الأبـ 1 ثانية
رأس السنة البابلية
لقد كان راس السنة او الفاتح من نيسان له اهميته الدينية ، ولقد كان اليوم الأول من السنة محدداً منذ السلالة البابلية الولى ، وهي لحظة الظهور الأول لشروق الشمس عبر كوكب الجدي فكانت السنة المثالية تبدأ في الأعتدال الربيعي عادة . ان الفلكي الألماني فاينر حدد الفاتح من نيسان سنة 2100 في يوم يسبق الأعتدال الربيعي بتسعة ايام ، بينما يقع في الفترة البابلية تسعة ايام بعد الأعتدال .....
علم الفلك
تنقسم الأجرام السماوية الى مجموعتين : السفى ، وهي عطارد وعشتار ، والعليا وهي المريخ والمشتري وزحل ، وترسم جميعها مدارات تقديرية حول الشمس .
ان الفلكيين الكلدانيين كانت بحوثهم حول هذه الكواكب يقول سترابون عن الفلكيين الكلدانيين :
في بابل طبقة او فئة فلاسفة محليين يسمون [ كلداناً ] ، شغلهم الرئيسي علم الفلك ، يمارس بعضهم ضرب الفال ، ولكنهم لا يلقون تأييد البقية .
تدل الأشارة على انه الى جانب المنجمين ـ العرافين ـ كانة ثمة فلكيون حقيقيون ، بالمعنى العلمي الحديث .
كان ابيجينوس كما يقول سينيكا قد درس علم الفلك لدى الكلدان وأفاد : ان العمل الذي قام به الفلكيون البابليون ، وهو يفوق بكثير ما قام به الأغريق .
ويفيدنا ديودورس عن نظريات الكلدانيين عن الكواكب حيث ان الكلدانيين يعرفون عن مداراتها بدقة ، وكذلك عن مدار الفلك او الأبراج ، ومعلوماتهم عن دورة الشمس والقمر ، ومعلوماتهم عن النجوم ، وحددوا مواقع 24 نجمة نصفها شمالاً ونصفها جنوباً ن وتكلموا عن الأرض وعن الخسوف والكسوف ..
المسافات بين النجوم
تقول الكاتبة مرغريت روثن :
تقدم لنا ابحاث الفلكيين البابليين التي تخص حتى النجوم الثابتة الدليل القاطع على ان علم الفلك رغم اتخاذه طابعاً مقدساً ، كانت تسيره روح علمية بحتة .. لقد كانت الدروب السماوية الكبرى تسمى بدرب آنو وهو خط الأستواء ودرب انليل وهو برج السرطان ، ودرب آيا وهو برج الجدي وكانت العنزة بجسم السمكة رمزاً لهذا الأله .
لقد كان الرصد يتم بأدوات استخدمها البابليون والكلدانيون وهي الساعة المائية والساعة الشمسية او المزولة ، لقد كانت الساعة المائية والشمسية مستخمة من قبل الصينيين والمصريين ايضاً اما القطب المغناطيسي فقد كان خاص بالكلدانيين وحدهم ...
تضيف الكاتبة ان الدقة العالية وصلت لحسابات الكلدانيين فيما يخص الكواكب الى نتائج ملحوظة اشار اليها بطليموس الذي تسلمها من هيبارخوس :
فإن 57 فترة لزحل تعادل 59 سنة .
و65 فترة للمشتري تعادل 71 سنة
و37 فترة للمريخ تعادل 79 سنة
و5 فترات للزهرة تعادل 8 سنوات
145 فترة لعطارد تعادل 46 سنة .
الرياضيات والهندسة
لقد احتفظ البابليون بالنظام الستيني في النصوص الرياضية فهو نظام من اختراعهم وعن هذا يكتب تورو ـ دانجن :
لقد كانت الأداة العجيبة للعد التي يمتلكها الرياضيون البابليون ذات طبيعة تسمح لهم بتسهيل الطريق بنوع خاص .. ويضيف سيظل التساؤل : كيق توصل البابليون الى مفهوم تجريدي للعد كهذا ؟
اما الهندسة في بلاد بابل فقد اعتمدت على مبادئ ثلاثة وهي جمع الطول ووجود الخط العمودي ،ووجود السطح . لقد توصل البابليون الى احتساب قاعدة الهرم المربع ، والى ايجاد حجم
الدائرة . لقد عرف البابليون العلاقة الفيثاغورية منذ مطلع الألف الثاني ق. م .
وجد توروـ دانجن على لوح بابلي مسألة ، وهي وجود وتد طوله 30 ( نيندا وهي تقالبل 12 بوصة ) موضوع عممودياً ضد الحائط ، والوتد نازل 6 والمطلوب ايجاد مدى بعده عن اسفل الحائط .
ان هذه القضية هي اقدم مثال لنا في تطبيق نظرية فيثاغورس لانها تعود الى عهد السلالة البابلية الأولى .
ان الرأي الذي طرحه داسو سنة 1945 م والذي يقول ، ان الكلدانيين هم البادئون الأوائل ، بل ومعلمو اليونان ، الأمر الدال على ان الكلدانيين توصلوا منذ عهد ذاك الى مستوى لم يتخطاه غيرهم الا خطوة خطوة عبر عصور طويلة .
اننا نرى بطليموس يستشهد دوماً بالكلدانيين ، ولكن دون تسمية علمائهم باسمائهم ، ويبدو اننا ازاء عمل جماعي بما قام به الكلدانيون ، بينما نجدها عمل انفرادي لدى اليونان .
لقد كانت الأبراج ذات الطوابق ، ونائن بابل المعلقة ، هي خير انجازات تشهد بمهارة المهندسين البابليين ، لقد كان اليونان يقفون مندهشين حيالها .
نحن في عصرنا الحاضر نقف ايضاً مندهشين امام تلك المنجزات من التشييد والعمران والأرواء وسن الشرائع والقوانين والكتابة والرياضيات المجردة والهندسة والطب ....
ان هذه المنجزات تدعونا ان نفتخر بماضينا العريق ، وان نقول للعالم ان في هذه الديار كان يقطن انسان عراقي صنع حضارة انسانية راقية بقيت نجماً ساطعاً في تاريخ الحضارات الأنسانية عموماً .
عرض : حبيب تومي / اوسلو
