المحرر موضوع: تذكار الشهيدة أناهيذ  (زيارة 1593 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل nori mando

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 174
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
تذكار الشهيدة أناهيذ
« في: 21:03 16/06/2011 »
تذكار الشهيدة أناهيذ
الشماس نوري إيشوع مندو
   الشهيدة أناهيذ: كان أذورهرمزد عامل منطقة لاشبار المسؤول المدني عن إدارتها أي أميرها. وكان مستقيماً عادلاً. وقد رزق بابنة رائعة الجمال اسماها أناهيذ وتعني بالفارسية " الزهرة ". وكانت موضع فرحه ومحط آماله، فبذل أقصى الجهود من أجل تربيتها. وهي بدورها بقدر ما كانت تنمو بالعمر والقامة، كانت تزداد حكمةً وجمالاً وأدباً. وقد أعترى الفتاة الروح النجس فقاست الأمرين، ولم يفدها نطس الأطباء ولا تعاويذ الكهان. فاقترح أحدهم على أبيها أن يأخذها إلى الناسك بثيون، الذي نال كثيرون الشفاء من يده. فأمر الحاكم بأخذ الشابة إلى صومعة بثيون، فصلى من أجلها ووضع يده على هامتها فقامت لا عيب فيها. ولم يكلمها في أمور الدين، لكن عند حضور والدها ليشكره، طلب منه أن يساعد الفقراء، وأن يمتنع عن الارتشاء، فوعده أن يعمل بمشورته. ثم أخذ ابنته وعاد بها إلى قصره فرحاً.
   وبعد سنتين من ذلك ابتليت أناهيذ بمرض جلدي، فعالجها الأطباء فلم تستفد شيئاً، وتلا عليها الكهان أدعيتهم وتعاويذهم فلم تطهر من جربها، بل ازدادت حالتها سوءاً. فتذكر أبوها الراهب بثيون الذي شفاها سابقاً، فمضت إلى قلايته فاستراحت وشفيت. عندئذ فاتحها بثيون بقبول الإيمان، لأن مصدر الشفاء الروحي والجسدي هو المسيح، وما هو إلا خادمه. فاقتنعت وقبلت دعوته، وطلبت منه أن يعمدها. فنزل عند رغبتها، وأخذها مع نفر قليل إلى مجرى ماء، فصلى عليها وأتم مراسيم نحها العماد المقدس.
   فلم علما أبوها بما حدث غضب جداً، وذهب إلى بثيون فاسمعه كلاماً قاسياً، وأمر بحبسه وتعذيبه. لكن وداعة بثيون غلبت تعنت الحاكم الجبار. فظهرت للحاكم رؤيا في حلمه قلبت أفكاره رأساً على عقب. فدعا بثيون من سجنه، وأخذ يستفسر منه عن أمور المسيحية. ففهم بثيون بحدسه أن الأرض قد تهيأت للزرع الجيد. فشرع يحدثه عن حياة المسيح ورسالته وتعاليمه، فإذا بالبذرة التي زرعها في قلب الحاكم أينعت عن إيمان وعماد والتزام بالمسيحية.
   وانتشر خبر تنصره في الولاية، حتى بلغ مسامع الملك يزدجرد فغضب جداً، وأرسل في الحال ممثلاً عنه آذورفرزجرد. وكان معروفاً بعلمه ودهائه وقدرته على الإقناع. فذهب لينصحه فإذا ارعوى وعاد إلى المجوسية نجا من الذل والموت، وإن أبى وعاند فليكن مصيره الموت الزؤام. وبعد أن قابله حاول معه بكل الطرق، تارة بالكلام الهادي المعسول والوعود الطيبة، وتارة بالتهديد والوعيد. ففشل في مسعاه. أما أذورهرمزد فقد بقي صامداً مردداً في داخله قول المعلم السماوي: " ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ".
   فصدر الحكم عليه بالموت بحد السيف، فقبل الحكم برباطة جأش، ومشى إلى مكان الاستشهاد شامخ الرأس. ولما انحنى ليلقي مصيره ويواجه ربه بعد لحظات، ردد في قلبه ما قاله بكر الشهداء مار إسطيفانوس: " ربِ يسوع تقبل روحي ". وحز السيف رأسه. وكان استشهاده في موقع يقال له " يثري " في منطقة لاشبار، وذلك في 25 نيسان سنة 447. ولما خيم الظلام ذهب بعض المؤمنين والتقطوا جثمانه المبارك، وحملوه إلى قلاية مار بثيون فدفن بالقرب منها بالإكرام اللائق بالشهداء الأبرار.
   بعد أن انتهى الجلادون من قتل أذورهرمزد تذكروا ابنته الشابة أناهيذ. فشرعوا يصفون للحاكم في مجلسه حسنها الرائع وأدبها الرفيع، وما تملكه من أموال طائلة. فهي الوريثة الوحيدة لأبها. وكيف نبذت الديانة المجوسية واعتنقت المسيحية. فأمر الحاكم بإحضارها إلى المجلس، وكانت قد تركت القصر ونبذت العالم، وأقامت قي صومعة قرب معلمها بثيون. فخرج طهمين أحد رجال السلطة في أثرها يرافقه ثمانون فارساً، فألقوا القبض عليها واحضروها إلى المدينة. فلما مثلت أمام المحكمة حثها المجوسي على نبذ المسيحية والعودة إلى المجوسية، واعداً إياها بالعز والجاه والغنى. وكان الحاضرون يصغون إلى كلامه الهادي المقنع، واعتقد كثيرون أنها ستهتز أمام الأغراء والوعود. لكنها تذكرت قول المعلم الإلهي: " من أعترف بي قدام الناس، أعترف به قدام أبي الذي في السماوات. ومن أنكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات ". فتمالكت نفسها، ولملمت قواها، وجاهرت بعقيدتها، مفتخرة بإيمانها بجرأة منقطعة النظير. 
   ثم عرض عليها الحاكم الزواج قائلاً: " إن أردتِ جعلتكِ أكرم السيدات في المملكة. وإذا لا تريدني فها إن ابني أذورسروشاي يمكنك أن تتزوجي منه، فهو عزيز ومكرم عند الملك ".
   فردت عليه بشجاعة عجيبة: " إني مخطوبة للمسيح، فمن المستحيل أن أكون زوجة لغيره ".
   فصاح الحاكم غاضباً: " من هو خطيبك القوي الذي ما من أحد يقدر أن يقوى عليه. إن ملك الملوك الجبار القوي لقد أخضع اليابسة حتى البحر، فتذلل له الأقوياء والجبابرة. فكيف لا يقوى على خطيبك الضعيف ".
   فردت عليه أناهيذ: " لو كان خطيبي من أهل الأرض لإنقاذ لسيد مثلما قلت، غير أنه في السماء، وهو متسلط على الأرض والسماء. فلا يقوى عليه ملكك الجبار ".
   فاستشاط الحاكم غضباً وقال لها: " أراكِ تحذين أنتِ أيضاً يا جاهلة حذو أبيكِ المنافق الشرير. أرجعي عن ضلالة أبيكِ واسجدي للشمس والنار فتفوزي   بالنجاة ".
   فقالت له أناهيذ: " إن الشمس والقمر والنار ليست إلا خلائق كونها الله لخدمتنا ".
   فاشتعل القاضي غيظاً وأمر أن تضرب بقساوة شديدة، حتى تتساقط جميع أسنانها على الأرض. فهجموا عليها وضربوها على رأسها بوحشية، فتورم رأسها ووجهها، واشتد الورم حتى إنه غطى عينيها، وتساقطت جميع أسنانها، واصطبغ كل جسمها بالدم الذي كان يجري من فمها وخديها. ثم أمر أن يشدوا يديها تحت ركبتيها، ويودعوها السجن. وألا يقدموا لها طعاماً حتى يأتي إله المسيحيين فينقذها كما أدعت هي. أما هي فكانت تسبح الله وتمجده.
   وفي الصباح اجتمع الأعيان عند الحاكم وأمروا بإحضار أناهيذ، ولم تقدر أن تمشي، فحملوها وأتوهم بها. فألحوا عليها أن تتراجع عن المسيحية، فلم تزداد إلا ثباتاً. فدنا واحد منهم وهو من أقاربها وقال لها: " يا ابنتي أناهيذ قولي لي ما هذا الجنون الذي اعتراكِ. إذا كان المسيحيين قد دهوروا أباكِ في أعماق ضلالتهم. فأنت ماذا أصابكِ؟ قولي فقط إنني لست مسيحية وأنا أخلصك ".
   فقالت له أناهيذ: " كيف يطاوعني قلبي على إنكار ذاك الذي به نحيا وبه نتحرك نحن وجميع الخلائق. وهو الذي قال: من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السماوات. فلست أنكره أبداً ". فاشتد غضب القاضي وأمر بالعودة بها إلى السجن وتعذيبها أشنع العذابات.
   وفي الغد عادوا إلى تعذيبها، فأوثقوا يديها تحت ركبتيها، وأدخلوا خشبة تحت أبطيها، فعلقوها منكسة الرأس. وبقيت على تلك الحالة الليل كله. وفي الصباح أمر بإحضارها والإسراع في قتلها، لأن كثيرين كانوا يعتنقوا المسيحية بسببها. وكانت جميع عظام ذراعيها قد تكسرت، فلم تكن تقدر على تحريكها. فأوعز إلى نيهورمزد بن أذرماهان الذي كان حاكماً على تلك البلاد كلها أن يأخذ طهمين آينبد معه وكثيراً من الخيالة. فينطلقوا بأناهيذ إلى الجبل الذي كانت تسكن فيه، ويطلوا جسمها بالعسل، ويضجعوها على الأرض رابطين يديها ورجليها بأربعة أوتاد حديدية غليظة. ففعلوا كما أمروا. أما هي فكانت فرحة مسرورة تسبح الله وتشكره، لأنه أخلها أن تقتفي آثار أبيها.
   ورجع نيهورمزد ورفقاؤه من الجبل قاصدين آذورفرزجرد ليخبروه أنهم نفذوا أوامره. وما أن وصلوا لحف الجبل قاصدين آذورفرزجرد حتى اكتظ الجبل بالزنابير. وكانت هائجة مانعة أحداً من الناس والحيوانات والطيور أن يدنوا من ذلك الجبل. ولم تقترب الزنابير من جسم أناهيذ. بل احتاطت به وسترته حتى من أشعة الشمس. وبقيت الزنابير في تلك الحالة سبعة أيام. وكان بالقرب من هناك الكثير من الأسرى الرومان، فحملتهم الغيرة أن ينطلقوا فيأتوا بجثة القديسة ويدفنوها بإكرام. فقام الكهنة وأخذوا الإنجيل ومصابيح ومباخر وأنواع الطيوب وأنسجة كتانية وكل ما يلزم للدفن، وصحبهم كثير من المؤمنين، وساروا بالأبهة والجلال إلى الجبل حيث كانت القديسة وهم يرتلون المزامير. فلما قرب الموكب من مكان أناهيذ تنحت عنه الزنابير وتكومت بعضها على بعض يمنة ويسرة، فعبر الموكب السبيل المفتوح، وسار حتى انتهى إلى موضع أناهيذ. وكانت قد طارت نفسها إلى الملكوت، فلفوا جسدها بأنسجة كتانية، وعطروه بأنواع الطيوب. وصلى عليها الكهنة، ثم ذهبوا بجثتها الطاهرة ودفنوها في قبر أبيها أذورهرمزد والقديس يازدين. وكان ختام جهادها في 18 حزيران سنة 448.     
   وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار الشهيدة أناهيذ في 18 حزيران من كل سنة.