المحرر موضوع: صولة الكهرباء، ماذا تقول لنا عن مستقبل العراق؟  (زيارة 766 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صائب خليل

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 162
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
صولة الكهرباء، ماذا تقول لنا عن مستقبل العراق؟

صائب خليل
15 آب 2011

اتصل السيد رئيس الوزراء بوزير الكهرباء وطلب رؤيته لأمر هام، فسأله الوزير:
الوزير - هل الأمر عاجل يا سيادة الرئيس؟ اليوم لدي موعد للقاء طويل مع السفير الصيني، لا استطيع أن أقدر متى ينتهي، هل الغيه؟
الرئيس – لا ليس الأمر عاجلاً كما أظن، إنه يتعلق بالشركتين الكندية والألمانية، وصلتنا معلومات أثارت لدينا شكوك حولهما. هل دفعنا لأي منهما أية مبالغ، أو إننا بصدد تسليمها أية مبالغ حالياً؟
الوزير – لا، العقود بالآجل، وهناك اتفاق على تسليم داون بيمنت 5% ولكن بعد أن تقدم الشركة إئتماناً من بنك التجارة العراقي أو بنك تعترف به الحكومة العراقية، وهذا لم يحدث حتى الآن.
الرئيس – إذا كان الأمر كذلك فليس هناك مبرر للعجلة، أكمل موعدك مع السفير وتفضل عندي غداً صباحاً لنناقش الموضوع.

(في مكتب رئيس الوزراء صباح اليوم التالي)

الرئيس – هذه معلومات تؤكد أن الشركتين ليستا موضع ثقة، وربما تكون أحدهما أو كلتيهما وهميتان...أو لديهما مشاكل مالية.
الوزير – سيادة رئيس الوزراء، لجنة الطاقة وقعت معهما عقداً على أساس مراجعة و توصيات اعتبرناها موثوقة، لكن لا بأس أن نراجع ذلك على ضوء المعطيات الجديدة.
الرئيس – لكن لماذا نطيل الأمر؟ ألم نتخذ في مجلس الوزراء قراراً بعدم التعاقد مع شركات وسيطة؟ هل حاولت أن تتصل بالشركات الأصلية المصنعة؟
الوزير – نعم سيادة الرئيس، اتصلنا بخمسة من أكبر الشركات التي نتعامل معها، وأجابونا بالرفض، وهاتين الشركتين هما الوحيدتان التان قبلتا.
الرئيس – هل طلبت الشركات المصنعة مبالغ ضخمة أم رفضوا؟
الوزير – رفضوا، ولدينا كتب مخاطبة الشركات وأجابتنا بكتب رسمية رفضت فيها التعاقد بالآجل، إن أحببت أرسلها لكم.
الرئيس – لا داعي لذلك، لكن إن لم تنفذ الشركتان العقد، ماذا يحدث؟
الوزير – نكون في حل من أية التزامات، ولا نخسر أية مبالغ..
الرئيس – لكننا سنخسر الوقت، اليس كذلك؟ سيمر عام 2012 دون تحسن في الكهرباء..وانا وعدت الناس بذلك بنفسي.
الوزير – صحيح. الناس تريد كهرباء بسرعة ، وأنت وعدتهم بذلك وهذا شجع قبولنا بالتعاقد مع الشركتين.
الرئيس – لماذا لا نلغي العقد من جانبنا ونخلص، خاصة أنه ضد تعليماتنا بعدم التعاقد مع شركات وسيطة؟
الوزير – كما تشاء، لكن في هذه الحالة سوف يكون التأخير أكيداً ، وأننا لن نحصل على تحسن في الكهرباء عام 2012، وهو أسوأ ما يمكن ان يحدث لو أبقينا العقدين.
الرئيس – هممم... دعنا نفكر بالموضوع إذن ، اتصل بلجنة الطاقة وأكتبوا لي تقريراً بالأمر رجاءاً، تفضل هذه اوراق التشكيك بالشركتين لكي تدرسوها جيداً..لكن لا تقوموا بأي خطوة في تنفيذ العقد أو تسليم مبالغ في الوقت الحاضر..
الوزير – بأمرك سيادة الوزير...

هذا الحوار، لم يحدث للأسف! ولو أنه حدث، ورأيناه على التلفزيون، لما وجد فيه أحد غرابة ولما استشاط الناس غضباً، ولما صرخنا بالفساد والويل والثبور، بل لرأيناه حواراً معقولاً وحضارياً، بين رئيس حكومة وأحد وزرائه، فلماذا لم يحدث هذا الحوار، ولماذا حدث ما حدث بدلاً منه؟ ولماذ ثار الناس غضباً وهم لم يحصلوا إلا على نفس المعلومات التي في هذا الحوار، ولم يختلف شيء سوى أسلوبه؟ هل الحقائق هي التي تقرر غضبنا أم أسلوب طرحها في الإعلام؟ سؤال جدير بأن يطرحه كل فرد على نفسه.

بدأت الحكومة، بدلاً من مناقشة وزيرها بهدوء، بحملة تشهير ساحقة وبدون تقديم أية معلومات واضحة للناس، (المالكي يقيل وزير الكهرباء بسبب العقود الوهمية) (1) مستغلة الهياج الجاهز للجماهير بسبب كثرة الفساد السابق في الكهرباء وانعدام الإنجاز لسنين عديدة وشدة الحر . وبدلاً من الحديث مع الوزير المعني، بدأت بخبر صاعق يمثل إقالته الفورية، متصنعة موقف "الحسم". وتبجح البعض من الحكومة بأنها تفادت خسارة المليارات من هذه العقود الفاسدة لأنها سارعت بوقفها في اللحظة الأخيرة، وكأن الحكومة كانت على وشك تسليم الشركتين صك الـ مليار وسبعمئة مليون دولار، لولا أن لحقته تلك الإجراءات "الحاسمة". وصاحب تلك الحملة الإعلامية السياسية مقاطعة تامة للوزير فلم يكن يعرف المعلومات إلا عن طريق الإعلام، ولم يعط فرصة لشرح موقفه ولم يصله أي موقف رسمي من رئيسه أو حكومته، ليتمكن من اتخاذ موقفه بنفسه، إلا بعد أكثر من أسبوع من التشهير الإعلامي! لماذا بدأت الحكومة المناقشة بعد تهييج الشارع وتلقينه كلمات "الفساد" والضرب بيد من حديد، وتأسيس زخم إعلامي سلبي مندفع يستحيل تعديله بعد ذلك؟ لماذا بدت الحكومة رافضة لرؤية وجهة نظر "المتهم" وانشغلت بالتشهير به وكأنها استبدلت سياسة البعث "نفذ ثم ناقش" بسياسة "شهّر ثم ناقش"؟

بالنسبة لموقف الحكومة وردود فعل الناس، يبدو لي أن العراقيين مولعين بـ "الصولات" والحلول البطولية، أكثر بكثير من حل المشاكل بالنقاش وطرق الأبواب السلمية والدبلوماسية أولاً، فهذه الحملة التي لم تسبقها أية محاولات لفهم الموقف أو حله بالتحقيق والكلام، تشبه تماماً "صولة الفرسان" التي لمت السيد المالكي عليها لأنه لم يحاول إطلاقاً أن يحل المشكلة دبلوماسياً، وكان واجبه أن يفعل، ولو من اجل أن يقول "حاولت".
لم يفعل المالكي بل لجأ إلى الطريقة "الأمريكية" في حل الأمور، فدفع ثمنها لاحقاً حين تعامل الصدريون معه بنفور شديد قبل وخلال وبعد الإنتخابات الأخيرة، وتبين ان الشق الذي أحدثته تلك "الصولات" ليس سهل الردم، وأنه مازال يدفع ثمن ذلك اليوم.
لقد تقلبت مواقفي من المالكي كثيراً حسب ما يتخذ من قرارات وما يصرح به من تصريحات، لكني لم أضع أملي عليه بقدر اليوم الذي اشتكى فيه بصدق مؤثر بأنه "غير قادر على تحريك سرية" ولم أفقد أملي منه بقدر اليوم الذي كان يفتخر فيه بـ "صولته"، لكني للأسف على ما يبدو ضمن أقلية نادرة في هذا الموقف.

اليوم يتكرر المشهد، فرفعت الحكومة شعارات "إضرب ثم ناقش" و "شهّر ثم ناقش" ليجدوا أنفسهم في موقف حرج في قضية "فساد" الكهرباء. فبعد حين من بدء "صولة الكهرباء"، وحين لم تستطع الحكومة أن تجمع الأدلة على ادعاءتها، وجاءتها بعض اجوبة الوزير من خلال الإعلام تفند إحكامها الأولى، أحتارت كيف تتصرف. بدلاً من أن يعتذر رئيس الوزراء ويجد عبارات للتراجع بكرامة، بحث عن "أسباب أخرى" لإكمال هجومه، فحول الحديث وهو يمازح الصحفيين، ويلقي بالنكات، وكأنه يتحدث عن أمر جميل أو طبيعي، وليس قضية مصير وشرف لأحد وزرائه، وبالتالي وزارته، فاشار إلى أن الوزراة لم تقدم الإنجاز اللازم خلال المئة يوم!! ثم قال أن الوزير "أصر" على إبقاء العقود!! وأن الوزير وقع عقوداً مع شركات وسيطة خلافاً للتعليمات؟
وماذا عن تهم الفساد التي ملأت البلاد والإعلام؟ ولماذا تذكر السيد رئيس الوزراء إنجاز المئة يوم الآن؟ كيف يمكن للوزير أن يصر على عقد ترفضه الحكومة؟ ما هي الكارثة في "الشركات الوسيطة" ومعظم عقود العالم من خلال شركات وسيطة؟ ولماذ قبلت لجنة الطاقة كلها توقيع تلك العقود؟ ولماذا لا يتم الحديث عن تجاوز لجنة الطاقة كلها للتعليمات، بدلاً من الوزير؟ أسئلة لا بد أن تكون قد مرت بالكثير ممن شاهد رئيس الوزراء في لقائه الصحفي السريع.

هذه الأسباب "الإحتياطية" تذكرني بحكومة جورج بوش الإبن حين بحثت عن تفسير لشعبها لهجومها على العراق، فقالت أنه درء لخطر الأسلحة النووية التي يوشك صدام أن يضرب بها الغرب خلال 40 دقيقة! وحين لم يجدوا تلك الأسلحة، أنتقلوا إلى "السبب الإحتياط": علاقة صدام بالقاعدة وبن لادن. وحين لم يثتبوا تلك العلاقة كان السبب: حبهم الذي لا يسيطرون عليه، للديمقراطية!

ينقل جورج كنان، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم في محاضرات عن التجربة الدبلوماسية الأمريكية في النصف الأول من القرن العشرين حكمة تقول: "حين تقدم تفسيرات عديدة لحدث ما، فعلى الأغلب أن أي منها ليس التفسير الحقيقي له". ومثلما لم يصدّق أحد تفسيرات بوش لحرب العراق، لا اتصور أن يصدق الكثيرين قصة المالكي في الأسباب المتقلبة للأقالة. لا مفر إذن أن يبحث كل متابع عن سبب يراه الأكثر معقولاً.

التفسيرات الممكنة كثيرة، والإستفادات الممكنة كثيرة لمختلف الجهات. وإذا بدأنا "تحقيقنا" بالبحث عن المستفيد، أو "أين تجري النقود" فيمكن أن يكون المتضررين من الغاء عقود الإستثمار اللصوصية هم وراء تحويل قضية بسيطة كان يمكن أن تحل بالحديث الذي بدأنا المقالة به، إلى ازمة حكومية عارمة. فلقد فقدت جماعات قوية ، 14 مليار دولار مرة واحدة، كانت ستلطشها من الحكومة بعقد واحد يمتد ربع قرن. وفقدت شركات غربية عقوداً كبيرة، وسارت وزارة الكهرباء بعكس ما تأمله الإدارة الأمريكية، التي تعمل جاهدة وبصراحة، على تمكين القطاع الخاص من السيطرة على الإقتصاد في البلاد. سياسة وزارة الكهرباء أعادت تلك السياسة خطوة إلى الوراء بالغاء عقود الإستثمار اللصوصية المجحفة.
كذلك لمست سياسة الوزير رعد شلال خطاً أحمر آخر أمريكياً أكثر خطراً، وهو خط التعامل الإقتصادي الإستراتيجي مع إيران.
كل هذا يؤشر لنا المتضررين من سياسة الكهرباء في فترة رعد شلال القصيرة، ويؤيد شكوكنا هذه، قيام محتال دولي مطلوب للعدالة في عدة دول بأمور تتعلق بالفساد، بنشاط كبير في الموضوع، يقول أن دافعه له "حبه الطاغي للعراق" ومطالباً بضرب "الفساد" بيد من حديد.

ولعب الإعلام دوره بإتقان، فكانت الأخبار تكتب بشكل مثير، فيضاف في نهاية الخبر تذييل لا علاقة له بالوزير، مثل أن الكهرباء تعاني من الفساد منذ سنوات، أو تشير إلى إدانة قيادي في الكتلة التي رشحته بجرائم خطيرة، وطرق أخرى مختلفة، لعل أكثرها فضائحية جاء في جريدة "المدى"، وهي جريدة تروج للسياسة الأمريكية والخصخصة، وتعتمد على التضليل بشأن اهدافها معتمدة على الماضي الشيوعي لصاحبها. كتبت المدى ضمن ما كتبت، أن مكتب إحدى الشركتين يدار من قبل "مكتب في عمان متخصص بقضايا الهجرة والإقامة"، لتضيف " أي انه يمارس نوعا من التجارة بالبشر!" وهي مغالطة رهيبة تكشف إلى أي "مدى" يمكن أن تهبط "المدى"، فحتى إن صح موضوع "مكتب الهجرة والإقامة" فأي أبله يعلم أنه ليست لهذا العمل الرسمي أية علاقة بجريمة الإتجار بالبشر! (2)
كذلك هيأت "المدى" الجو لإستثارة الناس بتأكيدها عن "مصادر حكومية عراقية موثوقة" بأن الوزير يخفي أسرار فساد كثيرة ليساوم بها، وهي ادعاءات رددتها وسائل الإعلام بعد ذلك كثيراً، دون أي دليل أو أي تصريح من الوزير يشير بأي شكل حتى هذه اللحظة إلى مثل هذا الأمر. كذلك فأن الصفقات الفاسدة السابقة معروفة ومكشوفة، ولا تصلح للتهديد بكشفها ومنها صفقة الشركة التي ارسلت لعب اطفال بدلاً من المكائن في وقت كان الشهرستاني يتولى فيه شؤون الوزارة.(*)

وربما يشرح دور الصحيفة وعلاقاتها بالإستثمارات الأجنبية وموقفها العام ما كتبته سابقاً من امتداح الخصخصة وضرورة الإستثمار في قطاع الكهرباء، فتؤكد أن الحاجة الفعلية في العراق "لا تستطيع الكوادر المتوفرة في العراق تأمينها دون الاستعانة بالاستثمارات الأجنبية" وهو ما فندته وزارة رعد شلال خلال بضعة أشهر، فليس هناك أي نقص في الكادر، لتنحدر إلى المدح المباشر لأية عملية خصخة، بشكل معاكس للواقع تماماً فتقول "ويرى الخبراء إن خصخصة اي قطاع تعني تقديم خدمات أفضل للمستهلك الذي سيدفع ثمنها، بدلا من الخدمات الرديئة التي تقدمها له الدولة بشكل مجانٍ. وان دافع الربح سيفرض على الشركات المستثمرة تقديم خدمات جيدة"، لتؤكد عن لسان مستشار وزير الاقتصاد الأميركي بـ "ان أزمة الكهرباء في العراق لن تحل قبل عام 2015". (3) وهو موعد تسبقه خطة وزارة الكهرباء بعام كامل.
ومن الصعب ان تجد مقولة أشد تطرفاً في رأسماليتها من هذه المقولة عن الخصخصة في هذه الجريدة المحسوبة على الشيوعيين، والتي لا نستغرب انطلاقاً من موقفها هذا أن نقرأ الأكاذيب الرخيصة عن "الإتجار بالبشر"، فمن يكتب عن الخصخصة بهذا الشكل ينزعج بالتأكيد ويسعى لتشويه من يحرم الخصخصة من سرقاتها، وهذا وذاك مؤشر في تقديري إلى علاقة الجانب الأمريكي بما حدث. هذا مثال لتعاطي الإعلام مع الموضوع من خلال صحيفة "محترمة".

تداعت الأحداث متوالية، ووصلت أخيراً إلى استبدال اتهام رعد شلال بالفساد، باتهامه بالتواطؤ مع الحكومة على إخفاء فساد متبادل بينهما. لعل أهم محاولات إثبات هذه التهمة قام بها صباح الساعدي الذي سارع إلى عرض وثيقة كتاب ارسله الوزير رعد شلال إلى الشهرستاني يذكره فيه بأنه هو من زكى الشركتين وامتدح عملهما. واعتبر الساعدي ذلك دليل على تواطؤ الوزير مع الشهرستاني لطمس الموضوع وأن هذا الكتاب كان تهديد من الوزير إلى الشهرستاني بأنه سيكشف ذلك إن لم يتراجع الأخير عن موقفه. (4)
والحقيقة أنه ليس سوى استعراض فارغ، فالكتاب ليس سراً يمكن التهديد بكشفه، فقد كشفه الوزير من خلال مقالة كنت قد كتبتها عن الموضوع ونشرت في النت والإعلام، فكيف يهدد الوزير بكشف ما كان قد كشفه بالفعل؟ (5)

قائمة "العراقية" سارعت في البداية قبل غيرها إلى التنصل من وزيرها على غير العادة، مما أثار دهشة الشارع العراقي، وربما دفعها هذا إلى التراجع ومحاولة دعم الوزير لتمرر التمثيلية. كما أنها قد تكون تراجعت رغبة منها في توجيه ضربة إلى شريكها اللدود وحكومته وتظاهرت بالدفاع عن الوزير، لكنها ركزت بدلاً من ذلك على دور بقية أعضاء الحكومة في الأزمة، وكل أزمة هي ورقة رابحة ثمينة لدى العراقية تساعدها في فرض شروطها، مثل تسليم وزارة الدفاع إلى بعثي صدامي، كما يريد الأمريكان والإسرائيليين. ويساعد "العراقية" على مرونة الحركة أن رعد شلال ليس عضو فيها أو في أي من مكوناتها، وأنها اختارته كتكنوقراط مستقل يسهل التضحية به دون ان تخسر شيئاً تقريباً. لذلك لا أستبعد إطلاقاً أن العراقية ومن يقف وراءها من جهات دولية هي وراء الموضوع أصلاً وأن موقفها كان الهجوم المبادر وليس فقط الإمتناع عن الدفاع عن "وزيرها".

فوزير العراقية هذا لا يشبه هذا الفريق في شيء. ففي هذه القائمة التي خرج بعض أعضائها إثر كشفهم تورطها برشاوي مالية من السعودية، ووصولها المشبوه بمساعدة تزوير الإنتخابات، والدكتاتورية الشديدة في إدارتها، وهرب الأعضاء المستمر منها لهذا السبب وغيره. في هذه القائمة، يحاول اللصوص أن يتخلصوا من التهم الموجهة لهم دائماً بالقول بأنه تم استهدافهم لأنهم وقفوا ضد إيران. ففي هذا النادي يقاس إخلاص الشخص ووطنيته ليس بتبيان إخلاصه للوطن، بل بمقدار عرضه لعدائه لإيران، تماماً كما تأمل أميركا وإسرائيل. وتبلغ مزايدات الأعضاء من أجل نيل الحظوة بهذه الطريقة، حداً مثيراً للإشمئزاز او الضحك أحياناً، خاصة حين يحاول أحدهم أن يبرهن وطنيته ونقاءه، فلا يجد له فضلاً يفخر به إلإ أنه "لم يزر إيران ابداً!"، فيزايد عليه متملق أخر أشد، بالمطالبة بمحاسبة رئيس القائمة ومطالبته بالإعتذار للشعب العراقي لأنه "زار إيران"!.

قد تبدو هذه الحركات كأنها تصدر من مستشفى مجانين، لكن الحقيقة أن لا جنون في الموضوع، ولا جنون في السياسة عموماً. فهذه ليست سوى النغمة المفضلة التي يريد الأمريكان والسعوديين سماعها من أعضاء العراقية، وليس نغمة وزير يتحدث عن تغيير العقود من فرنسا والمانيا إلى إيران، ويشتري المواد الإحتياطية الأرخص من إيران، ويطالب بنك التجارة العراقي بإيجاد آلية لتحويل أموال العقود إليها رغم المقاطعة الأمريكية، ويطرح على مجلس الوزراء ضرورة إيجاد بديل عن بنك التجارة العراقي لتسيير أمور التحويل مع إيران إن لم يرضخ البنك العراقي والبنك المتعلق به في أميركا، للطلب العراقي.

بالنسبة لرعد شلال، كوزير عراقي، وجد العقود الإيرانية أفضل وأقل كلفة، فلم تكن تعنيه مصالح أميركا وأجندتها ومقاطعتها لإيران، وبادر بالتفاوض مع الأخيرة على عقود رأى أنها تفيد وزارته وبلاده. فأي عضو في العراقية هذا، وكيف يأمل أن يحوز رضا اربابها؟

من الحقائق الخطيرة التي كشفها صراع الديكة هذا، أن الإحتلال رتب الأمور في العراق بحيث يكون اقتصاده تابعاً بشكل مباشر للأجندة السياسية الأميركية، ليس فقط من خلال ضغط العسكر و "المدربين" و الأسلحة والطائرات الأمريكية، وإنما أغلق الباب تماماً لأي احتمال لقرار إقتصادي متحرر من الإرادة الأمريكية، وذلك من خلال كشف الوزير لحقيقة عدم قدرة العراق على أن يفرض على ما يسمى "البنك التجري العراقي" (TBI) - وأشدد على "العراقي" - على تحويل المبالغ المتعلقة بعقود مع جهات تتعرض إلى مقاطعة أمريكية، لأن البنك الذي يرتبط بها هذا البنك "العراقي" هو بنك أمريكي، وهو مهدد بالعقوبة من الحكومة الأمريكية إن هو أجرى أية معاملات قررت أميركا أن تعرضها للمقاطعة والتجويع كما فعلت مع العراق الذي عاقبت شعبه بالجوع وتركت دكتاتوره يسرح فيه لحين.
وحتى اليوم لم يستطع العراق تحويل مبلغ 200 مليون دولار أشترى بها الكهرباء من إيران بسبب ذلك التحديد الأمريكي عليه.(6)

لذلك فإننا وعلى هامش هذا الموضوع، نسأل حكومة السيد المالكي سؤالاً محدداً واضحاً: هل تستطيع الحكومة العراقية في مثل هذا الوضع من المؤسسات المالية، أن تتعامل بحرية، مع مختلف دول العالم كأية دولة مستقلة، أم أنها مرتبطة بموافقة الحكومة الأمريكية على اية صفقة أو عقد ذو حجم معين يمكن أن تعقدها مع تلك الدول؟ هل حكومة العراق ملزمة عملياً بأن لا تتعامل إلا مع الدول التي تسمح أميركا بالتعامل معها؟ هل نحن دولة مستقلة في قراراتها الإقتصادية أم لا؟ إنني أرجو أن يتابع الوطنيون هذا الأمر وأن لا يضيع هذا السؤال الخطير، مثلما ضاع الكثير غيره!

لقد تسبب رعد شلال العاني بسياسته هذه في وضع الإحتلال الأمريكي وتوابعه من العراقية في مشكلة كشفت تلك الثغرة الخطيرة في إستقلال القرار الإقتصادي العراقي عن الأجندة الأمريكية، وأن الإحتلال ليس عسكريا فقط، إنما يمتد إلى جسد الإقتصاد وشرايينه، وهو اكتشاف لا يسر الأمريكان و "أصدقاءهم" أن يطرح في ضوء النهار بهذا الشكل، وقد تم إخفاؤه بنجاح تام منذ سنين وحتى الآن، فليس لي علم بأن أحداً قد طرح هذه المشكلة من قبل، وأن شيئاً قد كتب عنها قبل كتابة هذه السطور.

لقد توجب التخلص من هذا الرجل المشكلة على ما يبدو، لكن المشكلة الإضافية التي يضعهم هذا الوزير فيها، هي حقيقة أنه رجل "سني"، مما يجعل من المضحك أتهامه بالولاء لإيران، وأن يعزى ذلك لأسباب طائفية مثلاً، وهو التهديد الذي يشعر به كل سياسي شيعي يفكر أن يجعل العلاقة بين العراق وإيران أكثر طبيعية وأكثر تحرراُ من الأجندة الأمريكية. لهذا كله كان رعد شلال يمثل "ورطة" للعراقية وأربابها، لم يكونوا قد تحسبوا لها، وأتصور أنهم لن يكرروها. أما التصدي لها فكان بتحريك المحتال الدولي المدان جواد هاشم المحكوم بما مجموعه 425 سنة سجن عن الفساد، واستغلال كونه وزير سابق في العراق لإعطاء قيمة مزيفة لشهادته، والضغط عليه بالإبتزاز (لأن لا مصلحة له بفضيحته) للتحرك، وابتزاز رجل في موقف جواد هاشم الضعيف، أمر يسير جداً.

 في البداية هاجمت العراقية مع المهاجمين، ثم اتخذت موقف دفاع مزيف لم يشكك بالأدلة ويطالب بالتحقيق العادل، أكثر مما ركز على محاولة إشراك خصومهم السياسيين في "الجريمة"! ثم عادت العراقية إلى الهجوم في أول فرصة على لسان ميسون الدملوجي (7) التي لم تكلف نفسها الإتيان بأي دليل على قصة إدانتها لـ "وزير كتلتها" - وغيرها، بعد أن قاد الهجوم الأول سيء الصيت حيدر الملا، الذي لم يكن يتردد في الدفاع حتى عن المجرمين المدانين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إن اعتبرهم من جماعته.
وهكذا وجد رعد شلال نفسه وحيداً، بعد أن خسر رضا العراقية، دون أن يكسب رضا خصومها أو دعمهم. وهكذا يبدو أن الشعب العراقي يوشك أن يخسر من وضع وزارة الكهرباء على سكة حل المشكلة، فلم يتح له أن يكمل، فمثلما لا يريد الأمريكان أن تتم حل مشكلة الأمن إلا على يد علاوي أو من يرشحهم من بقايا الصداميين المخلصين لكل من يدفع لهم، فإنهم لا يريدون ان يحل مشكلة الكهرباء إلا القطاع الخاص، أسوة بكل النشاطات الإقتصادية العراقية. إننا نعلم جميعاً ما تتعرض له الحكومة والقطاع العام من ضغط شديد لبيع مؤسساتها ومعاملها إلى القطاع الخاص الذي بدأ يحطم المعارضة الشعبية لإستيلائه على مقدرات البلاد، ونجح مؤخراً في فرض بيع عدد من معامل القطاع الخاص له، وفي الوقت الذي  فهذه ستراتيجية أمريكية أساسية بالنسبة لأجندتها في العراق، ولن تسمح لشخص ما بعرقلتها لأي سبب. وفي الوقت الذي تكشف فيه اليونسيف عن "معاناة اربعة ملايين طفل عراقي لفقر مدقع"(8) فأن الحكومة تقيس نجاحاتها بالمقاييس الأمريكية، فتدعونا لأن نكون سعداء بأن " العراق يتصدر لائحة الاسواق المالية العربية بالتداول"! فإلى أين يسير العراق وأي مصير يعد الإقتصاد الموجه امريكياً، فقراءه؟(9)

إننا نجد ارتباطاً منطقياً قوياً بين الحملة غير المبررة ضد وزير الكهرباء، والتي تراجعت عنها الحكومة بشكل شبه تام، وهذه الخطط والمصالح والأجندات. نعم هذه مجرد افتراضات، وليست بحثاً علمياً متكاملاً عن الحقيقة، لكن الإفتراضات المنطقية وإيجاد المستفيد من أي حدث، هي المؤشرات الأولى التي تقود التحقيق العلمي وتساعد على ربط الخيوط وتشير على الباحث أين يجب أن يركز بحثه وأين يحتمل أن يجد أداة الجريمة. ما نطالب به ويطالب به جميع افراد الشعب العراقي، هو مساءلة علنية مكشوفة وبالبث المباشر، للوزير رعد شلال، بعد إصدار قرار بتأمين حمايته من الإغتيال واستمرار تجهيزه بحماية كافية لعدة سنوات بعد خروجه من الوزارة، لكي لا يكون معرضاً للتهديد بالقتل هو وأفراد عائلته، من أجل ان يستطيع أن يقول لنا الحقيقة التي تهمنا.

كما يبدو، لقد نجحوا بأن يجعلوا من قصة رعد شلال عبرة لمن اعتبر ممن قد يفكر بالخروج عن الخط الأمريكي وتحدي إرادته من اجل ما يراه في صالح وطنه، وحولوا قضية اعتيادية كان يمكن أن تنتهي بحديث بسيط كالسيناريو الذي بدأنا به المقالة، وهو السيناريو المنطقي العاقل لمثل هذه الإشكالات والشكوك، حولوها إلى سيل من الغضب الشعبي الباحث عن الإنتقام والضرب، يمتنع عن المراجعة والنظر إلى الأدلة ويرى أية دعوة لذلك بمثابة اعتداء عليه، قبل البدء بأي تحقيق.

يبدو أن الرجل قدم استقالته، وهو أمر طبيعي، فما الذي سيفعله من يأتي بعده؟ هل سيعيد عقود الإستثمار اللصوصية، ويلغي العقود الأقل كلفة مع الشرق – تركيا وإيران والصين، ليعيد الشركات الكبرى وأسعارها الفاحشة ويعيد لـ "المستثمرين" فريستهم التي سلبهم إياها رعد شلال؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
وما الذي ترسله هذه التجربة ايضاً من رسائل عن الحكومة وطريقة عملها؟ عن استعدادها لتدمير وزير تدميراً تاماً، لتقول فيما بعد أنه تبين أنه بريء من الفساد؟ ما هو إحساس وزراءها الآن، وكيف يفكرون بحماية نفسهم من احتمال هذا التشويه للسمعة؟ وكيف سيكون رد فعل الناس حين تتهم الحكومة وبمثل هذه الثقة، مسؤولاً آخر بالفساد؟ أي مدخل ادخلت فيه نفسها، حكومة المالكي بهذه "الصولات"؟

لم يعد بالإمكان إنقاذ تلك التجربة التي تشير مختلف المؤشرات إلى انها ربما كانت محاولة رائعة للدفاع عن مصالح الشعب والفقراء، وتجاوز الأجندة الأمريكية الهادفة إلى إثراء الأثرياء بخصخصتها اللصوصية، وربما كانت وزرارة رعد شلال أيضاً فرصة لتوجيه ضربة إلى الإنقسام الطائفي بموقفه النظيف من تلك المشاعر ووقوفه إلى جانب الوطن والعمل بإخلاص لحكومته بلا تأثر بالتوترات والمشاعر السلبية التي تحكم أطرافها الطائفية، ولا موقف سلبي من دول الجوار مؤسس على الطائفية.

لقد خسرنا على ما يبدو تلك التجربة، لكن لعله مازال ممكناً إنقاذ بعض الحقائق من الضياع في هذا الهياج، حقائق قد يتمكن الشعب من مراجعتها بعد أن تهدأ العاصفة، ويتعلم منها شيئاً، ولو متأخراً بعض الشيء. لذلك نطالب ثانية وثالثة ورابعة، بالتحقيق غير المجامل والشفاف والعلني، ولن يقتنع الشعب بأية عملية تحقيق تجري خلف الكواليس، وبيان يصدر عن نتائجها.


(1) http://taakhinews.org/?p=91398
(2) http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=46414
(*) http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=46146
(3) http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=2375
(4)http://www.ikhnews.com/news.php?action=view&id=18311
(5)http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=53104
(6) http://www.aknews.com/ar/aknews/2/252370/
(7)http://www.ikhnews.com/news.php?action=view&id=18341
(8)http://www.yanabeealiraq.com/news0511/n02071108.html
(9)http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5784