المحرر موضوع: رسالة الى الشاعر سامي العامري  (زيارة 1288 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الستار نورعلي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 182
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رسالة الى الشاعر سامي العامري
عبد الستار نورعلي


( الرسالة هذه في الأساس كتبتها تعليقاً على قصيدة الشاعر القدير سامي العامري الهجائية في الردّ على نونية الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:
دَمعٌ لبغداد .... دَمعٌ بالمَلايينِ
مَنْ لي ببغدادَ أبكيها وتبكيني؟

 وعندما طالت آثرت أنْ أنشرها منفصلة . رابط القصيدتين:
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=54273&catid=35&Itemid=55 )

عزيزي سامي ،

ومن باب المحبة والميانة ادعوك باسمك دون القاب ،

أما بعدُ ،

إنّ الفنان عموماً يُقيّم بدءً بالنظر الى منتجه الابداعي ومدى نجاحه وتأثيره من خلال جودته وقيمته الفنية بمحافظته وحرصه على الشروط والعناصر الواجب توفرها فيه . وفي الأدب عامة كنوع فنيّ والشعر خاصة كلون أدبيّ  أنت أدرى بهذه الشروط والعناصر . ثم يُنظر الى المضمون ، وهنا تأتي المخالفة والمواقف المتضادة والمتضاربة وفق ما يحمله المتناول أو المتعاطي أو المتلقي للمنتج الشعري من رأي وموقف من الحياة والفكر  والغاية من الفن . لذا تشكلت كما تعرف نظريات مختلفة منْ مثل (الفن للحياة) و (الفن للفن ) وما ترتب عليهما من تطورات في المناحي والاتجاهات الفنية وبروز مدارس مختلفة أغنت الحركة الفنية والثقافية والفكرية والجمالية الانسانية بتنوعها اللوني ومعاركها الحوارية الفكرية من أجل تطور الفن بتطور الحياة خدمةً للانسانية ، دون تحوِّل هذه المعارك الى مصادمات كلامية حادّة وحوارات متشنجة تتعكز على العاطفة والهوى في الرفض والطعن والانتقاص والتصغير .

وبعيداً عن المواقف الذاتية الخاصة المُسبَقة يتم هذا التقييم . قد أكون مخالفاً في الرأي والقناعات مع فنانٍ ما أو بالضدِّ تماماً منه لكنْ عليَّ  أن أتناول نصوصه بالعين الفنية الموضوعية المجردة عن الذاتية والموقف الشخصي في التوجه والنظر والتقييم . أشير الى مواقفه وتوجهاته ومضامين منتجه والغاية منها أو الكوامن الحسية التي تقف خلف خلقها إنْ رأيتُ فيها مالا يعجب أو ما هو بالضد مما أرى أو من تجاوز على حقوق الانسان وذلك باحداث ضرر أو تثبيت لحالة ضارّة أو العمل على نشر القبيح والمؤذي من القيم والأفكار والأفعال اللاانسانية . وهنا يكون المضمون هدفي بالنقد والرفض والطعن ، أما الشكل الفني فهذه مسألة أخرى مقياسها القواعد والشروط الفنية . وظني انك في قصيدتك رميْت الموقف ولم ترمِ الشِعرية مثلما قرأتُها .  سُئِل يوماً في ستينات القرن المنصرم الشاعر المصري صالح جودت عمّنْ هو أكبر شعراء العرب اليوم فأجاب أنه الجواهري لولا لونه القرمزي (وقالها القرمزي بالحرف) . اي أنه اعترف بشاعريته الكبرى لكنه رفض بالمقابل لونه السياسي الذي كان يُنعت به عند البعض ، فلم ينفِ أنه الأكبر لأنه يختلف معه سياسياً .

في جلسة لي مع الجواهري الكبير في بيته باليرموك في أوائل السبعينات مع ابنه الدكتور فلاح ومحاميه رشيد بكتاش والشاعر د. علي الحلي وكان حينها مسؤول القسم الثقافي في صحيفة الثورة ، اضافة الى صهر الجواهري الكبير أبي رائد الصديق المرحوم (عيسى رؤوف الجواهري) تحدثنا عن الشعراء وعرجنا على عبد الرزاق عبد الواحد فأثنى الجواهري عليه شاعراً عمودياً كبيراً لو ترك الشعر الحرّ ، لقد كان يحبه . فلم نسمعْ على حد علمنا أنه هاجمه أو انتقده أو رفضه شاعراً كبيراً لأنه مجّد صدام حسين وحروبه .
 
هذا جانب الشِعرية في عبد الرزاق . أما الجانب الثاني في العلاقة بينه وبين الحاكم المستبدّ فهو المُستنكر والمرفوض مبدئياً وانسانياً وقيمياً ، وذلك بسبب ما عاناه شعبنا وبطوائفه لعقود من حكم الحديد والنار والمآسي الدموية من اضطهاد وحروب داخلية وخارجية عبثية ، واعدامات واعتقالات وقتل تعرّض لها . لكننا حين ننظر بعين موضوعية أدبية فنية الى قصائده المدحية والتمجيدية الفخمة لا يمكن لنا أن نقول أنها ليست من الشعر لأنها تخالف في مضامينها موقفنا وما نرى في أن يكون الشعر ذا غاية انسانية لنشر الفضيلة والخير والجمال ومحاربة الظلم والاضطهاد ! وهنا أعود الى قول الشاعر الاسباني الخالد لوركا الذي أعتنقه شخصياً هدياً لي في مسيرة حياتي الابداعية  " على الشاعر أن يضحك ويبكي مع شعبه ."
فهل بكى عبد الرزاق عبد الواحد مع شعبه فيما تعرّض له ؟ وهل ضحك معه ؟
هنا يأتي تقييمنا لموقفه الشخصيّ ومضامين قصائده نقداً ورفضاً ، أما شعره فننظر اليه بعين فنية ابداعية بعيداً عن العواطف الغاضبة والرافضة والنافية لشاعريته على خلفية ما نحمل في نفوسنا من غيظ كبير وفي قلوبنا من جراح غزيرة لا تزال تنزف الى اليوم .

المعضلة الاساس في قضية عبد الرزاق عبد الواحد أنّ اسمه اقترن في الذاكرة العراقية برئيس ذاق شعبه منه الأمرين . والرجل لم ينكر  هذا الاقتران ولا يخجل منه أو يتوجس أو يندم عليه كي يعتذر عنه ، بل العكس لا يزال يعترف به معتزاً ومفتخراً بعلاقته بأبي عدي كما يسميه في لقاءاته  وبما كتب عنه مؤكِّداً محبته وتبجيله له . لربما هذه نابعة من محبة صادقة يكنّها له وقناعة به وبسياساته تشبيهاً بالعلاقة بين المتنبي وسيف الدولة الحمداني ، أو انّ الرجل بمعرفته بتاريخ الشعر العربي القديم والتاريخ عموماً يدرك أنّ الشهرة والصيت والصعود والتخليد تكون بالعلاقة بين الحاكم والشاعر وقرب الشاعر من الحاكم ليُكتب عنه في التاريخ مقترناً اسمه بالحاكم ، وذلك بالنظرة الكلاسيكية التقليدية الماضوية للشعر  والشعراء .

فالقرب من الحكام في الماضي كالقرب من وسائل الاعلام ووزاراتها في الحاضر انتشاراً وتوسعاً وذكراً وتناولاً وحضوراً أمام الجمهور . فبقدر القرب يكون الانتشار وتُكتسَب الشهرة واللمعان ، وبقدر البُعد يكون الانحسار والجهل والانطفاء . فكم من قصير طوّلوه ، وكم من طويلٍ قصّروه ، وكم من نكرةٍ عرّفوهُ ، وكم من معرفةٍ نكّروهُ . وقد قرأنا وعشنا ونقرأ ونعيش اللحظة الراهنة كلَّ هذا عياناً بياناً وعلى الهواء ورغم الانوف ، فكيف الحال في تلك الأزمنة وكلّ شيءٍ حتى الناسُ كان ملكاً للحاكم الفذّ والقائد الضرورة الأوحد ؟!

وبالعودة الى التاريخ لو عشنا في العصور القديمة وعايشنا الحياة اليومية والناس في تلك العصور وفي انظمة الحكم الأموية والعباسية وما بعدهما بالتأكيد كنا نجد استياءً شعبياً ومن مثقفين ايضاً على قصائد المدح والتمجيد في الحكام وعلى وقوف الشعراء على ابوابهم طمعاً في التكسب والتقريب والاحتضان ، وذلك لما كان يلقاه الناس على ايديهم من اضطهاد وظلم وما كانوا يعانونه من فقر واهمال وتهميش وفساد منتشر وصراعات وحروب . لكنّ قصائد الشعراء تلك بقيت مسجلةً في بطون دواوينهم وفي كتب التاريخ الأدبي نقرأها لحد اليوم ونعجب ببعضها لما فيها من متانة شعرية وصور مبدعة وبلاغة عالية مع أنها قيلت في طغاة وبغاة ولصوص وقتلة ، وهذا من عجب الدنيا ومن ثقافة وإرث القول الشهير "الشعر ديوان العرب" . وبعض هذه القصائد بُدئت بغزل رقيق جميل كما قال المتنبي : إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدّمُ . أو احتوت حِكماً وأقوالاً مأثورةً وآراء قيمة نحفظها ونتداولها ونستشهد بها ، منْ مثل قول المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني في احدى حروبه وهو الذي لم بكنْ يختلف عن أيٍّ من طغاة العصر الحديث وسُرّاق الحكم  :

على قدرِ اهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارِمُ

وتعظمُ في عين الصغير صغارُها
وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ

فتكون القصيدة ضمن منهج النصوص الأدبية للدراسة الاعدادية في مدارسنا ليحفظها الطلبة بما فيها من صورٍ ومعانٍ . وقد يأتي يوم في قابل قرون تكون فيه قصائد عبد الرزاق عبد الواحد في الحرب وفي قائدها متداولة فخراً وتباهياً بفترة تاريخية مرّ بها العراق نحن ندينها لفظاعتها لأنّ نارها أحرقتنا ، لكنّ لغيرنا من محبيه ومناصريه ومريديه موقفاً مغايراً ، كما أنّ للتاريخ والأحداث والتطور وتغيُّر النفس البشرية ومزاجها رأياً آخر بحسب سيادة نظام بدل نظام آخر أو تغيّر حال فتكون كتابة التاريخ بعيون مختلفة ، فلكلّ زمانٍ دولةٌ ورجال كما قالوا . وهذا ديدن التاريخ والزمن والناس . فلننظرْ بموضوعية متجردة عن الذاتية كيف كان مزاج الناس في الحقب السابقة للاحتلال وكيف أضحى اليوم ! وكيف سيكون في الغد يا تُرى ؟ هذا علمه عند الله والعصور القادمة والناس الذين سيحيونها .

منْ كان يتصوّر أنّ الألوفَ المؤلفة التي كانت تخرج لتهتف وتغني وترقص على أنغام الاناشيد والقصائد وتسبّح باسم القائد المنصور تنبري اليومَ لتلعنه وتسبه وتسبّح باسم غيره من أعدائه ومعارضيه ومحاربيه السابقين ، ومثله في دول ما يُسمى بالربيع العربي ، وملك ملوك افريقيا وقائد الثورة العالمية الهارب المتخفي خير شاهدٍ أمام ابصارنا اليوم !

إنّه التاريخُ والعيون والأقلامُ والنفوس ترتدي رداءً مختلفاً بحسب المزاج العام السائد . فالمقبول بالأمس أمسى مرفوضاَ ومكروهاً اليوم ، والمقبولُ اليوم قد يصبح مرفوضاً ومنبوذاً غداً ، مَنْ يعلم ؟ ويقيني انّ البعض سيرفض قولي هذا بل قد يتهمني بما ليس فيّ ، لكنها بالنظر العلمي الموضوعي هي الحقيقة التاريخية الانسانية المُجرّدة عن التزويق والتأويل القسري أو الباسها لباسنا الذي نرتدي رغماً عنها ليتمزّق مع أول ريحٍ صرصر عاتية تعصف . وخير مثال نابض وشاهد ناطق أيضاً هو المعسكر الاشتراكي السابق بجبروته وعظمته وقوته الكبرى وتاريخه وشعوبه كيف كان وإلامَ استحال ؟!

أما محاولة المساس بشاعريتك والتقليل منها فهو أمر غير مقبول لأنّها لا تحتاج الى صكٍّ بالاعتراف من أحد ولا الى قاضٍ يمنح جواز مرور ، لأنّ قصائدك هي الصكّ وهي الجواز وهي الشاهد الناطق . الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد يُقلّل من شاعرية عبد الوهاب البياتي ، فهل سُحب من البياتي جواز شعره ومُزّق صكُّ الاعتراف به . والبياتي نفسه في أواسط سبعينات القرن المنصرم وفي لقاء له مع مجلة (الوطن العربي) على ما أذكر قلّلَ ونال من شاعرية الجواهري ونزار قباني ومحمود درويش ، بل ذهب أبعد من ذلك بأنْ نفى عنهم الشاعرية إذ قال بأنهم ليسوا بشعراء ! فهل قُطعتْ عنهم صكوك الشاعرية لموقف البياتي ذاك ؟! 
وقد قيل أنّ قصيدة الجواهري (أزحْ عن صدرك الزبدا ) عام 1976 وما ورد فيها من غضب عارم وهجوم لاذع كان عبد الوهاب البياتي هو المقصود بالاشارة بسبب تصريحه ذاك . كان الجواهري لا يحبه ، وهذا بشهادتي الشخصية ففي الجلسة التي أشرتُ اليها في بداية رسالتي جرى نقاش عن البياتي بعد أنْ فتحتُ أنا الحديث عن قصيدة نشرها حينها في مجلة (آفاق عريية) التي كانت تصدرها وزارة الاعلام ، فهاجمه الجواهري بعنف ونعته بنعتٍ قاسٍ ما زالت ذاكرتي تحفظه الى اليوم . يقول الجواهري في قصيدته المذكورة:

أزحْ عنْ صدركَ الزبدا ، وهلهلْ مشرقاً غرِدا
وخلِّ البومَ ناعبةً ،  تقيء الحقدَ والحسدا
مخنثةً فإنْ ولدتْ ،  على سَقَطٍ فلنْ تلدا

عزيزي الشاعر القدير ،

فكما تعلم أنّ الأمزجة والأذواق والرؤية تختلف منْ انسانٍ الى انسان ، لكنّ الأطعمة الطيبة الشهية بألوانها المتعددة تبقى أطباقها مستلذّةً ، وكلُّ ذائق يختار الطبق الذي يحبّه بحسب ذوقه ، ولا أحد بقادرٍ أنْ يفرض أو يلغي أو يحجب .

لكننا مع كلِّ ما ذكرنا نظلّ  نُقدّس الشعر الذي يُطلّ علينا مصباحاً يضيء زوايا الروح ويفتح اشرعة العيون على الكونِ الفسيح وعلى حقول الجمال والحلاوة والألق البهيج والبصر في الظلام مستهدين بقوله تعالى :
" فأمّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ماينفع الناسَ فيمكثُ في الأرض ." الرعد 17
وباستثنائه عزّ وجلّ :
"والشعراء يتبعهمْ الغاوون ، ألم ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يهيمون ، وأنّهم يقولون مالا يفعلون ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللهَ كثيرا وانتصروا منْ بعد ما ظُلموا وسيعلمُ الذين ظَلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون." الشعراء  224 – 227   
وكما تعرف قيل في تفسير الآية الكريمة باتهام الشعراء بالغواية والهَيَمان والكذب لأنهم كانوا يمدحون قوماً بالباطل ويشتمون بالباطل . لكنّه سبحانه لم ينفِ عنهم الشاعرية وهذا في الاشارة اليهم بالشعراء ، وانما وصمهم بوصمة الغواية والباطل . وبالاستثناء شرّعَ تعالى غاية خيرة ونبيلة للشعر تنبع من روح الاسلام وقيمه وروح الانسان ، بمعنى ما نطلق عليه اليوم (الالتزام في الشعر) . وعلينا النظر والتقدير والتقييم !
ويقول ايليا حاوي :
" قداسة الشعر هي من قداسة الانسان والله والوجود ."

وهنا أيضاً يتعرض المقدّس الشعريّ للتأويل ، فما هو مقدّس شعرياً عندي ليس كذلك عند الآخر والعكس .  والغاية منْ قبلُ ومنْ بعدُ هو الشعرُ والانسان .

فهل سنصل الى مستوى قول المفكر العربي الكبير الراحل سلامة موسى بأننا إذا أردنا أنْ يكون لنا عباقرة ومبدعون كبار كغيرنا من الأمم فعلينا أنْ نقبلهم  بما هم عليه .

وفي الختام السلام والمحبة ،

عبد الستار نورعلي
الأحد 11 سبتمبر 2011