المحرر موضوع: ينبوع المطر  (زيارة 7038 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Saadi Al Malih

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 64
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ينبوع المطر
« في: 14:57 06/10/2011 »
ينبوع المطر
سعدي المالح

كلما ارتفعت الرياح قليلا وبدأت الغيوم تنتشر في السماء تهرع العصافير الدورية التي تأتي إلى باحة الدار لالتقاط فتافيت خبز تتركها لها والدتي أو للعبث بأوراق شجرة الزيتون العتيقة أو دالية العنب في الحوش، إلى شباك غرفتنا المكون من درفتين خشبيتين تؤطران  صفيحتين رقيقتين من الزجاج. وتنقر تلك العصافير بمناقيرها الرفيعة على الزجاج منذرة أن تحولا ما يجري في الطقس يحمل بردا ورعدا ومطرا، فتهرع أمي إلى جمع الملابس المنشورة على الحبل أو تأخذ بعض الفرش والمطارح إلى داخل البيت وتطلب بصوت عال من هذا أو ذاك أن يدخل حصيرا أو غرضا ما إلى البيت لأن عاصفة من المطر قادمة لا محالة. أقول لها: كيف تعرفين؟ تقول: ألا ترى الطيور كيف احتمت بالشباك؟ هي تعرف أكثر منا. فأدخل إلى الغرفة وأراقب العصافير من الداخل وهي تنقر على الزجاج بخفة وقد نفشت أجنحتها المرتجفة قليلا. ثم سرعان ما تكفهر الدنيا وينهمر المطر وابلا، تهرب العصافير لتحتمي بمكان أكثر أمنا تاركة قطرات المطر تضرب بقوة على زجاج النافذة، وتجري في مسايل رفيعة على خد الشباك وتصب في المياه المتجمعة في الحوش تغسل الأرض أولا  ثم تغمرها بالماء، فاتأمل ذلك المنظر بمهابة كبيرة بينما تقول أمي: نشكر الرب ونحمده، نزل الخير في أوانه.   
وللمطر، منذ القدم، قدسية خاصة عند شعوب مابين النهرين. فهو ماء السماء الذي يلقح الأرض ويخصبها. وتزداد قدسيته لدى سكان سهل حدياب أو أربل الواقع بين الزابين الأعلى والأسفل شمالا وجنوبا، ونهر دجلة غربا، لأن هذين الزابين اللذين سمي السهل باسمهما (بين الزابين، إديابين، حدياب) لم يمنحا السهل على مر العصور، شيئا غير الاسم! ولم تصل هذا السهل منهما، ولا من دجلة الخير، قطرة ماء واحدة، وخاصة للبلدات والقرى المترامية في وسطه، التي ظلت تروي بالأمطار أو بالمياه الجوفية منذ آلاف السنين. ولذلك نشأت علاقة جدلية بين السماء وهذا السهل الذي تلتحفه، فمد بدوره خيوطا نحوها ليبقى متعلقا بها، وظل، في كل العهود، متوجسا، خائفا منها، متوسلا إليها، يطلب رحمتها، ويستنجد بها كلما واجهته مصيبة. وكأن عشتار، السيدة الجليلة، التي وضعت السماء قبعة على رأسها والأرض صندلاً في رجلها، كما تقول الأسطورة،(1) بقيت تتحكم، من على قلعة أربل، موطنها، بطبيعة هذه العلاقة وتناقضاتها منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
الوحيد الذي أدرك قوانين هذه العلاقة الجدلية ودرس ظواهرها بعمق كان الملك الآشوري سنحاريب، فحاول منذ سبعة وعشرين قرنا أن يتحدى إلهته عشتار، أو ربما يسدي لها خدمة ويرفع عنها هذا الهم، بفك هذا الارتباط المصيري بين السهل وسمائه، فحفر ثلاثة أنهر في جبال (خاني) التي في أعلى مدينة أربل، كما يقول بنفسه، ومن ثم فتح كهاريز وترعا للماء من وادي بستورا القريب تسقي السهل فترتوي الأرض ويشبع الناس، مستوحيا فكرته، على الأرجح، من أسطورة سومرية تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد تقول:
من مقره السماوي
أخرج (أوتو) المياه الحلوة من الأرض
من فوهات تنبعث منها
جعلها تصل إلى صهاريج متسعة
فاستهلكت المدينة منها كميات وافرة
   
وجلبت حقول حصاده، كميات كبيرة من الحبوب!
أصبحت بعد ذلك (دلمون) الأهراء،
الأهراء التي تمول بالحبوب بلاد سومر كلها!
بيد أن هذا المشروع الإروائي الشهير الذي كانت آثاره باقية إلى أواخر القرن العشرين تهدم بمرور الزمن، ولم يعوض عنه بأي مشروع آخر مماثل أو عصري يتوافق مع متطلبات الحياة وتطورها ليروي المدينة وسهلها. حتى أن مشاريع تزويد أربل وضواحيها بالماء الصالح للشرب ما تزال معظمها فاشلة! وهذا اكبر دليل على أن أفكار الذين حكموا المنطقة ومخططاتهم منذ ألفين وسبعمائة سنة وحتى الآن كانت محدودة وضيقة، وغير مكترثة بمصائر أهلها ومستقبلهم. في ظل هذا الواقع كانت عنكاوا تواجه، في الأزمنة القديمة، العطش مع السهل كلّما أغلق شقيق عشتار إيشكور أو أدد، إله الأمطار والعواصف باب السماء بمزلاجه المهيب، أو سدّ الأعماق كي لا تفيض المياه من الينابيع لتتحول الحقول السمر شاحبة وتربط الأرض رحمها فلا يعود الزرع ينبت ولا تنمو حبوب فيقصد الناس باب أدد ويقدمون إليه رغيفا من خبز وقربانا من الطحين فيستحي مما يُقّدم له ويكف عن الأذى. وفي الصباح ينزل الضباب وفي المساء يمطر طلا إذ يفتح أدد ثغرات الغيوم المحملة بالماء وتنسكب من الأعالي غزيرة. وتنتج الحقول الغلال خلسة (2) وتعيش عنكاوا الرخاء مع الأربليين.
وانتقلت قدسية المطر من الأساطير الوثنية إلى المعتقدات اليهودية والمسيحية فأصبح المطر يهطل بمشيئة الرب: "اُطْلُبُوا مِنَ الرَّبِّ الْمَطَرَ فِي أَوَانِ الْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ، فَيَصْنَعَ الرَّبُّ بُرُوقًا وَيُعْطِيَهُمْ مَطَرَ الْوَبْلِ. لِكُلِّ إِنْسَانٍ عُشْبًا فِي الْحَقْلِ".( سفر زكريا 10: 1) أو في بعض الأحيان "يَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ، وَيُغْلِقُ السَّمَاءَ فَلاَ يَكُونُ مَطَرٌ، وَلاَ تُعْطِي الأَرْضُ غَلَّتَهَا، فَتَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ الرَّبُّ."( سفر التثنية 11: 17) ويهدد الرب من لا يسجد له بقطع المطر عنه "وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لاَ يَصْعَدُ مِنْ قَبَائِلِ الأَرْضِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ لِلْمَلِكِ رَبِّ الْجُنُودِ، لاَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ مَطَرٌ."( سفر زكريا 14: 17) حتى أن إيليا النبي " صَلَّى صَلَاةً أَنْ لَا تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ السَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ثَمَرَهَا." (يعقوب 5:17 ) ويصف لنا الكتاب المقدس كيف "خرَّ إيليا إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه وأخذ يصلي متضرعاً إلى اللّه أن يرفع العقوبة عن الشعب بأن يُنزل المطر. وبعد وقتٍ من الصلاة أمر غلامه أن يذهب نحو البحر ليتطلَّع، لعله يرى سحاباً، فعاد الغلام يقول: إنه لم ير شيئاً. وجعل إيليا يصلي ويأمر غلامه بالذهاب للتطلُّع نحو البحر ست مرات، دون أن يرى الغلام شيئاً. وفي المرة السابعة قال الغلام للنبي إيليا: رأيت غيمة صغيرة قدر كفّ إنسان صاعدة من البحر. وسرعان ما اسودّت السماء بالغيوم، وهطل مطر عظيم." (سفر الملوك الأول18-42/44) وتعليقا على ذلك يقول مار أفرام السرياني في القرن الرابع إن "الصلاة هي التي أغلقت السماء فلم تمطر وهي التي فتحت كوة السماء فنزل المطر على الأرض"
بعد ذلك أصبح المسيح نفسه المطر النازل من السماء ليطهر العالم كله ويجعل من القلوب فردوسا خصبا. 

*   *   *

أما حديثا فشهدت الأجيال الثلاثة التي سبقتني سنوات قحط وجفاف ومجاعة بسبب انحباس المطر، أو سقوطه في غير أوانه، بينما كان جيلي، في طفولته، شاهدا على نضوب آخر مصدر للماء في القرية: الكهريز، احد المجاري الهامة لمشروع سنحاريب على الأرجح. وهذا يعني، فيما يعني، جفاف البساتين المروية وكافة المزروعات الصيفية. سيما الخضروات والبقول والأشجار المثمرة.
وأمام تساؤلاتي الطفولية الملحاحة، بل وأمام ناظري، جفت البساتين العامرة للخواجة ويردينا على الطريق القديمة المتجهة نحو نينوى (الموصل) غربي القرية، وبساتين الخواجة سبي وأولاده اليانعة المواجهة لبيتنا، وحديقة القس بولص وأرملة أخيه مينا، ذات الأشجار الدائمة الخضرة والكروم والتوت في الطرف الشرقي من عنكاوا القديمة... كما أن تجارب الآبار الارتوازية والإرواء الصناعي التي حلت محلها لم تدم إلا بضع سنين، وسرعان ما أخفقت.
وهكذا عادت القبعة الفسيحة على رأس عشتار تتحكم بهذي الأرض المنبسطة وتقرر مصير الناس الكلي مثلما كان الأمر قبل ألفين وسبعمائة سنة مما اضطر الناس الذين يئسوا من هذه العلاقة، وكفروا بآلهتهم إلى أن يشيحوا بأوجههم عن الأرض والزراعة نحو الآفاق الجديدة التي فتحها أمامهم التطور الإداري والعلمي والتكنولوجي، فاندفعوا صوب المدارس والوظائف الحكومية حتى اكتظت دوائر محافظة أربل ومدارسها ومستشفياتها بالعنكاويين منذ أواسط القرن العشرين.

ولم يعد أدد يرعد داخل الغيوم ويحرس الأعالي فأوكلت مهمة التحكم بالسماء وسقوط الأمطار وهبوب العواصف إلى القديس مار كوركيس (مار جرجس)، شفيع القرية وكنيستها. والكنيسة أولت بالفعل أهمية خاصة للمطر في سجلاتها. والهوامش التي سطرها القسس والشمامسة على المخطوطات وكتب الصلوات، تخبرنا في أية سنة وهب الله عباده مطرا غزيرا وفي أية سنة منعه عنهم، وماذا كانت نتائج ذلك وكيف تصرف الناس. ففي نهاية مخطوط كتاب " قلائد الياقوت" ليوسف بن إبراهيم العنكاوي المترجم عن العربية إلى السريانية عام 1798 الذي يعيد أحدهم استنساخه في عام 1819نجد ملاحظة تقول: "في سنة 1819 ميلادية أي سنة كتابة هذا المخطوط هطل المطر مدرارا، وسالت المياه أنهارا بحيث أتلفت محصول الحنطة الموجود في البيادر". ومن بين هوامش مخطوطة أخرى للحوذرا، وهو كتاب الصلوات على مدار السنة، كتبت في 1788 ورد أنه في 22 نيسان 1885 "سقط حالوب (بَرَد) شديد وأتلف الزروع (يقصد الحقول) والمنتجات الزراعية في القرية." والحوذرا نفسه الذي جُمع في القرن السابع الميلادي يضم في القسم الخاص بـ قالى وشوحلابي ( المقامات والتقلبات) الكثير من الصلوات الخاصة بالمطر التي ترتل على وفق انغام خاصة بها كلما انحبس المطر. تقول واحدة من تلك الصلوات بالسريانية الفصحى: "آلاها مرحمانا حوس عالزرعي دها حيرين ومسكين لرسيساخ ولنطبثاخ، وهول لهون بحنانخ مطرا درحمى ، دنتلون بيري لأكارى ،نثبسمون مث من يذ علّثهون، ونسقون تشبحتا لشماخ قديشا" والتي تعني " أيها الرب الرحيم ارأف بالحقول التي ترسل النظر وتنتظر سيولك وقطراتك، هب لهم بحنانك مطر الرحمة ، لتنضج ثمار الفلاحين ويسعدوا بمحاصيلهم ، ونرفع المجد لاسمك القدوس". 
أما الناس الذين ينتظرون المطر فنسجوا حوله مجموعة من الحكايات والخرافات والحكم والأمثال والأحداث المثيرة. واتبعوا عادات وتقاليد خاصة بهم.
من ابرز تلك التقاليد صلاة طلب المطر كلما انحبس، وترفع هذه الصلاة في البداية عادة إلى مار كوركيس شفيع القرية الجبار المعتلي صهوة جواده الأبيض شاقا عنان السماء يسوق الغيوم أمامه كقطعان الماشية ويضرب برمحه في المكان الذي انحبس فيه المطر لينهمر مدرارا على أراضينا. وان لم يشفع لهم مار كوركيس التجأ الأهالي إلى مريم العذراء، ونظموا مسيرات جماعية إلى مزارها الكائن غرب القرية بنحو ثلاثة كيلومترات عساها تطلب من ابنها يسوع أن يرحم أهل القرية ويرسل لهم المطر وما زال يتواصل هذا التقليد. يتقدم المسيرة موكب مهيب من القسس والشمامسة والمؤمنين حاملين الإيقونات والصلبان رافعين أصواتهم في ترديد صلاة طلب المطر، يتبعهم جمهور كبير يعد بالآلاف في طابور طويل يمتد من القرية وحتى قبة العذراء. عند الظهيرة تصل المسيرة إلى مزار العذراء (وهو على هيئة قبتين متلاصقتين الكبيرة للعذراء مريم والصغيرة لابنها يسوع) ويقام هناك قداس خاص بطلب المطر. ومما كان يلفت نظري في هذه المسيرات تضرعات الناس الصادقة وإيمانهم العميق وقناعتهم أن المسيح سيرسل لهم المطر لا محالة، بما فيهم أولئك المعلمين الذين كانوا يشرحون لنا في المدرسة عن دورة المياه في الطبيعة!.
أما الآن هذه المسيرات لا تنظم كما في السابق لوقوع هذا المزار داخل سياج مطار أربيل الدولي وأيضا لأن كل بيت يملك أكثر من سيارة فيخرج الناس بسياراتهم، لكن يتوجب عليهم أن يمروا عبر نقاط تفتيش تابعة للمطار ليصلوا إلى هناك. ومع ذلك يرى المرء في الطريقمن يقطع هذه المسافةعلى قدميه لكي تلبي العذراء طلبه على نحو أسرع.
وكلما تأخر المطر تنوعت أساليب الناس في طلبه وتعددت، في هذه المرة تأتي المبادرة من الكورد المسلمين، فيأتي عدد من الدراوشة من القرى القريبة يتقدمهم بيرق أخضر يعلوه هلال، يسيرون في أزقة القرية ضاربين دفوفهم رافعين أصواتهم بالصلوات والأدعية. وأحيانا يختلط الدعاء بالتهريج الشعبي فيأتي رجل ملطخ بالسخام عدا عينيه اللتين تبرقان من محجريهما وتزوغان ببلاهة، تسميه العامة "كوسه" يرافقه ضارب دف ماهر، يقوم بحركات بهلوانية. وسرعان ما يتناهى الخبر إلى مسامع الأطفال فيركضون للالتحاق بالموكب حشودا مندفعة وينشدون بالكردية: (هياران وهياران..ياخوا بنيرة باران.. بو فه قير و هه زاران) والتي ترجمتها : يا أحبة يا أحبة .. اللهم أرسل المطر.. للفقراء والمساكين .
وما أن يصل الموكب أمام باب أو شباك حتى تخرج امرأة لتسكب الماء من كوز أو إناء على رأس المهرج فيهز جسده نافضا عنه الماء كأنه طير، وأحيانا يفاجئه الماء على غفلة من فوق الأسطح. وعادة ما كان يحصل هذا المهرج على بعض الحبوب أو الثمار. ومن أشهر العنكاويين الذين أدوا هذه الأدوار يونان يلدا وقاقوس ستة وصليوا سُلي ، لكن في طفولتي كنت أرى بعض الكورد يأتون إلى عنكاوا للقيام بهذا الدور.
كان هذا المشهد يشدني إليه دائما، فأحشر نفسي بين الأجساد الصغيرة وأتدافع لرؤية المهرج، الذي أقلده فيما بعد مع أترابي في المحلة لنعود إلى أمهاتنا بملابس تنقط ماء مثل فراريج منقوعة! في الوقت الذي كان يعتبر تأخر سقوط الأمطار بالنسبة لنا نحن الصغار لهوا وتسلية، كانت وجوه الرجال تقطر حزنا وهما وقلقا على مصير مزروعاتهم وأراضيهم.
أما المطر، كعادته، لا يبالي بهذا أو ذاك، ويأتي متى شاء، معززا مكرما. أحيانا ننام في إحدى الأمسيات الدافئة متذمرين من الحر الذي طال، لكننا ننهض في صباح اليوم التالي على صوت المطر يقرع زجاج نوافذنا، وأحيانا يفاجئنا في بداية الخريف على السطوح، فتنهمر زخات منه علينا ونحن نيام تحت أغطيتنا، فنفيق بسرعة وننزل من على السطح حاملين أفرشتنا، وقد ينبئنا عن تباشيره، في بعض المرات، فنرى في الأول قزعاً بعيداً يطرز طرفا من السماء، ثم تظهر غيمة بيضاء، تقترب، وسرعان ما تجتمع مع غيرها، وتحتشد مكونة سحبا داكنة تحجب عنا السماء، ولا تغادر إلا بعد أن تسكب فوق رؤوسنا ما تحمله من ماء. وكثيرا ما كنا نحن الطلاب نحمل كتبنا المدرسية لمذاكرة دروسنا في أواخر الربيع بين الحقول البعيدة نوعا ما من القرية ويكون الجو صحوا لكننا نفاجأ بعد وقت قصير بعاصفة قوية من المطر فلا نلحق من العودة إلى بيوتنا على الرغم من أننا كنا نركض من احساسنا بسقوط القطرات الأولى فتخضل بالماء ملابسنا وتبتل كتبنا وتغوص أرجلنا في الطين بين الحقول.
ومع المطر الأول كنا نشتم رائحة الأرض الطيبة المتشوقة لقطراته فتفوح تلك الرائحة المدوخة في القرية وكأن يدا سحرية عطرت الاجواء وخضبتها. وكنا نحن الأطفال نخرج إلى الأزقة، نتقافز تحت الرذاذ الخفيف وننشد بأعلى صوتنا ما معناه:
زخ .. زخ يا مطر
وأملأ لنا العنبر
وفي هذه الأثناء نفتح أفواهنا الصغيرة لتسقط فيها قطرات المطر مباشرة أو نفرد له أيدينا ليبللها ونمسح بقطراته وجوهنا، لأن المطر الأول مقدس من ناحية، ويزيدنا صحة وعافية من ناحية أخرى، كما تقول أمهاتنا.
على أية حال، تأخر المطر أو أبكر، ثمة استعدادات تجري لاستقباله: يحرث الفلاحون أرضهم حراثة أولى، ويحضر صيادو العصافير فخاخهم أو شباكهم، ويجهز الرعاة الأعلاف لمواشيهم، وتنقل النساء الذخيرة إلى مخازنها، ويسيع الأهالي حيطان بيوتهم وأسطحها بالطين، ويعيدون تصليح ما خرب من ملحقات البيت.
ومع أن أمي كانت تسيّع الحيطان كلها، وهو تقليد موغل في القدم تذكره أسطورة كلكامش لأن منازل المنطقة ظلت تبنى منذ سبعة آلاف سنة وحتى أواسط القرن العشرين من اللبن (الطابوق غير المفخور). ثم تقوم بمساعدة من إخوتي وأنا ووالدي، وأحيانا من بعض أصدقائنا وجيراننا، بتسييع السطح، إلا أننا لم نكن نتخلص من الدلف فيما إذا واصل المطر سقوطه أياما متتالية، فنضع إناءً هنا وإناءً هناك، ينقط فيه الماء من السقف، ولما يزداد الدلف يضطر أحدنا إلى الصعود إلى السطح، فيدلك، بالمحدلة أو بيده، الأماكن التي يتسرب منها الماء لكي تمتلئ شقوقها ويتوقف، وهي ، بالطبع، مهمة شاقة تحت وابل المطر، وخاصة عندما يكون الدرج والسطح قد تحولا إلى وحل وطين. ولقد قيل " اَلْوَكْفُ الْمُتَتَابعُ فِي يَوْمٍ مُمْطِرٍ، وَالْمَرْأَةُ الْمُخَاصِمَةُ سِيَّانِ"( سفر الأمثال 27: 15).
وكل بيت كان يملك محدلة فوق السطح لأن الأسطح مصنوعة من سيقان وأغصان الأشجار أو الحصران المكسوة بالطين، ولكي يبقى السطح قويا لا تتسرب منه المياه لابد من حدله في نهاية الربيع بعد توقف الأمطار وفي الخريف قبل سقوط المطر ليتماسك ولا يسمح بتسرب الماء. 
وهناك نكتة تحكى عن احدهم: طلبت منه زوجته أن يصعد إلى السطح ليوقف الدلف، فتمدد صاحبنا فوق الشق ونادى من هناك زوجته يستوضح منها إن كان الدلف قد توقف. ولما أخبرته لا ، قال، سأحاول أن انبطح في المكان الملائم!
والمطر إذا جاء في موعده، في أواخر تشرين الثاني وأوائل كانون الأول، بكميات كافية، وارتوت الأرض كان علامة على خير وفير في تلك السنة. ولا يعرف عن ارتواء الأرض إلا الشيوخ المجربين، فبعضهم يقول إن الأرض ترتوي عندما يمتلئ كوز الفلاح بحبات المطر، وأخر يقيس مدى الارتواء بعدد أيام سقوط المطر، وثالث لا يقتنع بهذا أو ذاك فيحفر حفرة بعمق عدة أشبار ليتأكد بنفسه من أن الماء قد تسرب إلى أعماق كافية وأن الأرض ارتوت.
ومن المؤكد أن السماء هي التي تقرر ما إذا كان المطر يتأخر هذه السنة أم لا، لتنتج الأرض على ضوء ذلك غلتها، يتساقط في غير أوانه، فيكون عديم النفع، أو يزيد عن حده فيلحق أضرارا فادحة بالحقول، أما الإنسان فهو عبد للسماء، لا حول له ولا قوة، إرادته مسلوبة، لا يعرف  ماذا كتب له القدر، سنة خير مفعمة بالمسرات أم سنة قحط مليئة بالنكبات.

*   *   *

وعندما كنت صغيرا، لم يكن هذا كله يهمني، أو يشغل تفكيري، بل ما كان يأسر قلبي، فعلا، هو حال أو كيفية سقوط المطر، أو بالأحرى لحظات انهماره بقوة وسطوة أخاذة، فيأخذني بسحره الرهيب، أقف وراء الشباك أو أمام الباب وأتسمع إليه وهو يهدر بقطراته المتساقطة على الأسطح والحقول المحروثة والأرض، فيعج صوته في الآذان،وسرعان ما تسقط المزاريب شلالاتها السريعة في الأزقة، وتتراكض المياه في مسايل الطرقات سريعة مصدرة خريرا، فيختلط هذا كله ليشكل صوتا متناغما جميلا، عازفا سمفونية أزلية لم أسمع قط مثيلا لها فيما بعد.
ويزداد حبي للمطر كلما انهمر وابلا مدرارا، أو بتعبير والدتي، كلما انسكبت البرابخ (2) من السماء، وهو تعبير لم أجد أبلغ منه وأقوى ينطبق على هذه الحالة، فلا Cats & Dogs كما يقول الانكليز، ولا averse بلسان الفرنسيين ولا كأفواه القِرَب kak is vedra  بلغة الروس يمكن أن تصورها، وهي حالة ربما تكون أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع. فيكفهر الجو، وتختبئ الضواري في جحورها والماشية في زرائبها والطيور في أعشاشها، والناس ينسحبون إلى بيوتهم منكمشين على أنفسهم خائري القوى مشلولين أمام هول الطبيعة، بينما السماء تبرق ضوءاً ساطعا مدوخاً أحيانا يتبعه بعد لحظات هدير الرعد وزمجرته، فيرتفع زبد من الأرض ويستمر هطول المطر عدة أيام متواصلة وتشعر كأن الطوفان الذي تحدثت عنه أساطير ما بين النهرين قد حل مرة أخرى. وفعلا عندما يحدث ذلك يقول الأهالي (طوبانا قْمْلا) أي قام الطوفان، وكلمة طوبانا السريانية يعنى بها طوفان نوح لتشبّه هذه الحالة بتلك التي فيها "انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنَابِيعِ الْغَمْرِ الْعَظِيمِ، وَانْفَتَحَتْ طَاقَاتُ السَّمَاءِ." كما يرد في سفر التكوين وحتى أن استخدام فعل "قام" في هذا الموقف له أثر مريع لأننا نستعمله فقط مع القيامة كأن نقول قامت القيامة.
ولا يكمن الخوف في هذه الأيام التي تنفتح فيها طاقات السماء وإنما في تلك السيول الجامحة التي تتكون في الوديان العديدة غير العميقة في شرق عنكاوا وتجتمع لتصب في الوادي الرئيس الذي يمر بالبلدة كأن الإله ننورتا فتق السدود وحطم الحواجز كما تتحطم الجرة بحسب أسطورة كلكامش. فتندفع مياهه التي ترتفع بارتفاع قامة رجل أحيانا نحو الكثير من بيوت البلدة الواقعة على طريقه فتكون المأساة الحقيقية بالنسبة للأهالي الذين يتفاجأون به قبل أن يتمكنوا من إنقاذ بعض أمتعتهم ومؤونتهم.  ولقد رأيت بأم عيني مرتين أو ثلاث مثل هذا الفيضان فتدخل المياه العكرة بيتنا فجأة دون أن يكون لدينا أي استعداد لمواجهتها. لكن عندما ينخفض مستوى المياه ولا يبقى منها إلا مسايل ضعيفة نجعل منها نحن الأطفال أماكن للهو واللعب. وفي عام 1973 حدث أكبر فيضان في عنكاوا إذ اجتاحت السيول القرية بقوة كبيرة وراحت تجرف معها التخوت والفرش والأبقار والأغنام والخيول والأشجار وكل ما تتمكن منه، فهبت أهالي القرية في ذلك اليوم لمساعدة المنطقة المنكوبة وانقذوا الكثير مما تمنكوا منه. وكانت الحكومة حاولت في الستينيات إيجاد حل لهذه المشكلة فشيدت مجرى مسقفا للمياه لا يسع إلا كمية بسيطة من تلك التي تركض نحو البلدة والتي تزيد بكثير عن حجم المجرى فكان يحدث ما هو أسوأ ويؤدي ذلك إلى انسداد المجرى وحدوث فيضانات وما فيضان عام 1973 إلا بتأثيرها. ثم أقيمت في أواخر الثمانينات سدة ترابية شرق البلدة كانت إلى حد ما مانعا لحدوث فيضانات كبيرة. الآن شيدت أحياء سكنية في حوض تلك السدة لا ندري ماذا سيحدث لها فيما إذا حدث فيضان كبير. والحال نفسه كان بالنسبة لأربيل فتمر عبر القسم السفلي من المدينة عدة وديان تفيض هي الأخرى كلما هطلت أمطار كثيفة فتمتلئ الشوارع والبيوت بالمياه وتعيق حركة السير ولا تزال العديد من الأحياء تعاني من مياه السيول في الشتاء والربيع.
وأذكر كان ثمة واد يمر بين عنكاوا وأربيل جنوب منطقة كوران الحالية. كان هذا الوادي يفيض بسرعة بتأثير أقل كمية من الأمطار فيقطع الطريق بين أربيل وعنكاوا ويمنع وصول السيارات وباصات مصلحة نقل الركاب إلى عنكاوا فيرتدي الناس وخاصة الموظفون والطلاب الجزم المطاطية ليعبروا هذا الوادي مشيا. وأحيانا كنا نحن الطلاب نحمل أحذيتنا بأيدينا ونرفع بناطيلنا إلى أعلى رُكَبنا ونخوض في المياه المتراكضة لعبور الوادي مشيا على الأقدام حتى لا نغيب عن دروسنا. أما في السابق فكان أهل عنكاوا يقطعون المسافة بين أربيل وعنكاوا إما مشيا على الأقدام بواسطة الحمير فيواجهون مشكلة البقاء في الجانب الآخر من الوادي في حال فيضانه ويبقون هناك إلى أن يرسلون خبرا لأهاليهم فيأتون بالخيول ليساعدوهم في عبور الوادي.   
على العموم، عندما يهطل المطر في أوانه، وبكمياته المطلوبة، ترى السهل الممتد تحت ناظريك ينتشي فرحا لاستقباله، يرفع له ذراعيه، يعانقه ويمتصه، يتشبع به ويخزنه في أعماقه، كأنه فعلا مَني الآلهة الذي يخصب رحم الأرض. والناس المتلهفون لعملية الإخصاب المتكررة كل عام تغمرهم البهجة وهم يشاهدون هذا الحب العنيف الجامح فيقطفون ثماره غلالا وفيرة وحياة هانئة.

*   *   *

في أيلول عام 1973 حاولت أن استعيد سمفونية المطر وحبه للأرض وعناقه الأزلي لوجهها في قرية (بيشه) الكردية النائية بالقرب من سفح جبل حسن بك الذي يفصل منطقتي بهدينان وسوران في منطقة كوردستان، تلك القرية التي وصلتها، من عنكاوا، بعد مسيرة ثلاث ساعات بالسيارة، ومن ثم نحو عشر ساعات ركوبا على البغل بين طرقات الجبال المتعرجة.
بعد شهر من وصولي القرية، في تشرين الأول، سقط مطر غزير. جلست في إيوان غرفتي الطينية، مقابل المدرسة الصغيرة التي كنت معلما فيها، في أعلى مرتفع من القرية، أتأمل المطر المنهمر بجنون وأتسمع لصوته. كان المطر يعزف في تلك الجبال سمفونية أخرى غير التي كنت أسمعها في عنكاوا، وسهلها الفسيح، كان قد اختفى من تلك السمفونية خرير المياه المتراكضة في مجاري الأزقة، وصوت المزاريب، ووقع قطرات المطر المرتطمة بالأسطح، ووجه الأرض، والحقول المحروثة، وحل محلها هدير كاسح لشلالات المياه المتساقطة من سفوح الجبال يتخلله صوت ضعيف يكاد لا يسمع لقطرات المطر وهي تضرب أوراق الأشجار الكثيفة المنتشرة في كل مكان من تلك القرية الصغيرة ببيوتها العشرين. اختفى ذلك الحب العنيف والعناق الحار الذي رأيته بين المطر والسهل. توارت تلك العلاقة الأزلية، وحل محلها عدم اكتراث من الجبال للمطر المنهمر الذي سرعان ما يتحول إلى مياه متراكضة نحو الوديان. واكتشفت أنه بين تلك الجبال والمرتفعات العالية والانحدارات الشديدة للسفوح والوديان والأشجار الكثيفة ومياه الثلوج والينابيع الوفيرة، تفقد الأرض مشاعرها كليا تجاه المطر ولا تعلن عن شوقها له إذا تأخر أو غاب، وينسى الناس أيضا حبهم للمطر، بل ويحس المرء أن المطر لا يلقى هنا نفس الاهتمام الذي يلقاه عند ساكني السهول، لأنه لا يقدم ولا يؤخر شيئا في حياتهم، بل ولا يشكل لديهم حاجة مصيرية! .. رأيت الناس هناك، في ذلك اليوم، لا يكترثون بالمطر، ولا يعيرون أيه أهمية لنزوله، وتأكد لي أنه ليست لديهم أية أساطير أو حكايات حوله، خلاف ما هو لدى سكان السهول الديمية، هذا يعني أن المطر عند سكان الجبال ليس مقدسا. فانتابني شعور بالحزن لا أعرف كيف أصفه.

*   *   *

في موسكو انتظرت المطر في الخريف فلم يأت. حزنت كثيرا على فراقه في مثل هذا الوقت من السنة، لكن هذا الحزن تبدد رويدا رويدا أمام مرأى سقوط الثلج بكثافة. بصراحة كنت رأيت سقوط الثلج في عنكاوا عدة مرات في حياتي بيد أن ثلجنا كان لا يدوم طويلا وأحيانا يذوب ما أن يلامس وجه الأرض، أما في موسكو فكان يتساقط لساعات وأيام دون انقطاع تتطاير ندفه في السماء القريبة كأنها قطن أبيض منثور في كل مكان. لكن للثلج قصة أخرى. 
مرة كنت اركب الباص الذاهب إلى مسكني فتعطل في الطريق بين محطتي وقوف. اقترح علينا السائق النزول وانتظار الباص الآخر في المحطة القادمة، فنزلنا. كان المطر ينث نثيثا خفيفا. أخرج الركاب مطرياتهم (شمسياتهم!؟) وراحوا يترجلون نحو المحطة المقبلة. كنت بلا مطرية كالعادة لانزعاجي من حملها. وكانت ثمة فتاة جميلة من ركاب الحافلة تسير بموازاتي تقريبا، فعجبني أن أمازحها، قلت لها بالعربية: ناس تأكل دجاج وناس تتلكة العجاج. ضحكت وقالت: لا أفهمك؟ بأية لغة تتكلم؟  قلت: بالعربية وباللهجة العراقية. أها، ماذا قلت. شرحت لها ماذا قلت، فهمت قصدي فابتسمت ورفعت مطريتها عاليا لكي تحميني من المطر: التحق بي فمطريتي تكفي لاثنين. اقتربت منها وأخذت المطرية من يدها ورفعتها على رأسينا، ورحنا نتحدث. عندما وصلنا موقف الباص المقبل اقترحت عليها أن نمشي إلى الموقف الآخر الذي يليه، وافقت وهكذا تعارفنا وتحدثنا ونحن نعبر موقف باص تلو آخر إلى أن وصلت هي قبل محل سكناي بمحطتين، قالت: إن بيني هنا قريب سأتركك، شكرا على مرافقتي. شكرتها أنا أيضا على لطفها وأعطيتها المطرية. قالت: لا لتبقى عندك عليك أن تسير مسافة حتى بيتك. رفضت طبعا، لكنها أصرت. عندئذ رأيتها فرصة للقاء آخر معها فسألتها: لكن كيف سأعيدها إليك؟ أجابت: ستراني هنا على نفس خط الباص، فأنا أستقله يوميا إلى مقر عملي. وتوادعنا. ومنذ ذلك اليوم صرت آخذ ولفترة طويلة خط الباص نفسه وأحيانا في نفس ذلك الموعد الذي التقينا ولم ألتق بها. لكني بقيت احتفظ بمطريتها كذكرى لفترة طويلة.     
في موسكو لا يرتاح المرء كثيرا لسقوط الأمطار. لأن المطر في هذه المدينة الخضراء الجميلة يبعث على القرف أحيانا: إذا جاء في الربيع يذيب الثلج وتتحول المدينة بشوارعها وساحاتها إلى أوحال؛ خليط من الرمل الخشن الثلج، وإذا نزل في الصيف أفسد طقسها المشمس الدافئ وحولها إلى جحيم: رطوبة عالية، هواء خانق، وبرد وبعوض. ومن الغريب أن المطر يسقط في موسكو عدة مرات في اليوم الواحد زخات سريعة وقوية ومتقطعة، ولهذا يحاول كل من يتمكن أن يغادر موسكو في الصيف فيغادر ليقضى إجازته على شاطئ البحر الأسود.

*   *   *

في آب عام 1981 باغتني المطر، وأنا مستلق على شاطئ البحر الأسود في مدينة يالطا، جنوب روسيا. هرع المصطافون كل إلى حال سبيله، واختفوا بلمح البصر بعد سقوط القطرات الأولى، اما أنا، كأنني انتظر هذه الفرصة، فارتديت ملابسي على مهل وجلست على صخرة أراقب قطرات المطر وهي تنغرز في البحر الذي كان يتراقص أمامها بموج خفيف هادئ، ويحتضنها بحنان وعطف وأبوة فيثير هذا اللقاء رذاذا يرتفع في السماء كالغبار!
هذا العناق الأزلي، وربما السرمدي، بين المطر والبحر كنت أشاهده للمرة الأولى في حياتي، كان منظرا مثيرا للتأمل: بحر ازرق مترام، ينعقد فوقه، وعلى ارتفاع متلاصق به، بخار شفيف ورذاذ ناعم، والمطر يزخ وئيدا متريثا كمن يعرف أي مصير ينتظره، يلامس وجه الماء بهدوء وبشفافية مفرطة ليلعن موته عازفا موسيقى جنائزية مثيرة! تساءلت مع نفسي: هل كان موزارت يعرف عندما كتب ال ( ريكويم Requiem) لنفسه أن المطر يعزف موسيقاه الجنائزية وهو يسير إلى حتفه، إلى مثواه الأخير!؟
فاكتشفت في تلك اللحظات أن علاقة المطر مع الطبيعة تختلف من موقع إلى آخر، ولكل نوع من هذه العلاقة طبيعتها وقوانينها، حكاياتها وموسيقاها، وحتى شكلها الجمالي المستقل. مع السهل الذي لا نهر يخترقه يعيش المطر حبا عنيفا تتخلله معاناة حقيقية، وفي هذه المعاناة يواجه عتابا ورضا، جفاء وشوقا، صدودا وردودا، أحزانا وأفراحا.. في الجبل المكلل بالثلوج يلاقي الإهمال المقصود، ويواجه احتقارا وعدم اكتراث، بينما مع البحر، يكمل دورته الحياتية، فيرجع إلى أصله، منه خلق واليه يعود، ثم يركن إلى هدوئه الأبدي.
محلَّقاً مع هذه التأملات مشيت في شوارع المدينة، وملابسي تقطر ماء. كان الماء يجري في مسايل الشوارع متدافعا سريعا، شبهته بما كان يجري في مسايل عنكاوا، نزعت حذائي المبتل ورفعت بنطلوني المخضل بالمطر وبدأت امشي خائضا في برك الماء ومسايلها. فراحت مياه المطر تداعب رجلي وكأن لها معرفة قديمة بها، سررت جدا ورحت ابتسم منتشيا للسابلة الذين كانوا يركضون للاحتماء بسقف ويتلفتون نحوي بتعجب وذهول كبيرين. بيد أني كنت أعيش فعلا نشوة حقيقية، وكانت فرصتي أن أحقق من خلالها، في تلك المدينة التي لا يعرفني فيها أحد، حلما طفوليا ظل يراودني كلما هطل المطر طيلة سنوات الغربة.
على هذا الحال قطعت المسافة بين البحر ومنتجع تشيخوف للأدباء الكائن على تلة عالية من المدينة، ولم اعرف خلالها كيف مر الوقت الذي استغرق أكثر من ساعتين قضيتهما في خوض الماء والدندنة تحت مطر غزير ينهمر بلا توقف.
في باحة المنتجع، رآني أحد نزلائه أعصر ملابسي، وكان كاتبا للقصص البوليسية، ظن أن شيئا ما حصل لي، أو ربما مسا من جنون أصابني، فسألني على الفور: ماذا حدث؟ أجبته ببرودة أعصاب متناهية، ونشوة لا توصف: لاشيء، أعجبني فقط أن أخوض في مسايل الماء، إنها تشبه مسايل قريتي. ضحك الرجل، ولامني قائلا إنني أعرض نفسي للمرض من اجل نزوة. لكن المرض الحقيقي، مرض الغربة ذلك الذي كان قد أصابني حديثا بالفعل، ابتعد عني ذلك اليوم، شفيت منه، بفعل هذا الدواء السحري الذي اكتشفته لنفسي: المطر، وعشت تلك الأمسية في صحة وعافية، جسدية وروحية، لم أعشهما أبدا في تلك البقعة من الأرض.

*   *   * 
 
كنا، هي وأنا، فوق الجبل الملكي المنتصب وسط مدينة مونتريال، نتنزه ونرسل بنظراتنا إلى زجاج السيارة عندما اشتد المطر وراح ينهمر قطرات كبيرة لا تلحق معها الماسحة المشتغلة بأقصى  سرعتها أن تفسح في المجال للرؤية. أوقفنا السيارة عند منحدر يطل على المدينة نراقب قطرات المطر المرتطمة بالزجاج بسرعة شديدة.
قالت: أحب كثيرا الوقوف وراء الزجاج والمطر ينقره بقطراته.
كانت المدينة مثل عروس في ليلة زفافها تستحم بذلك المطر الدافئ فرحة منتشية بأضوائها وحركة شوارعها ومسائها المقبل على العطلة الأسبوعية. أوقفت الماسحة فتحبب سطح الزجاج بقطرات الماء وتغبش.
أضافت: وكلما هطل مطر في الخريف شعرت برائحة الأرض.
تذكرت رائحة الأرض المخضلة بالمطر الأول ولزمت الصمت. اكتفيت بالإصغاء لصوت المطر الذي كان يعزف سمفونيتي الخاصة في ذلك اليوم فغمرني شعور غريب، وفجأة باغتها وباغت نفسي:
-   احبك مثلما يحب هذا المطر وجه الأرض.
حدقت في عيني لحظة ثم فتحت باب السيارة وركضت باتجاه الخميلة المحاذية تحت المطر. كانت مفاجأة بالنسبة لي أيضا، خرجت من السيارة وتبعتها ركضا لنشارك المدينة عرسها تحت قطرات المطر الدافئ.
هذا الحب الذي ولد تحت المطر كان أطول حب عشته.

*   *   *

مرات كثيرة حاولت أن اجمع انفعالاتي ومشاعري تجاه المطر في قصة، لكني مع كل الأسف كنت اخفق دائما مع إني احتفظ بعشرات الأوراق المسودة لمشاريع قصصية من هذا النوع. وكلما أخفقت، أقول، لا بأس سأحاول مرة أخرى علني انجح في هذه المرة، ولا تبلغ تلك المحاولة نهايتها. وكأن عشتار لا تزال تتحكم بطبيعة تلك العلاقة الجدلية بين الأرض والسماء، بين الناس والمطر، بيني وبين المطر.










غير متصل أمير بولص أبراهيم

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1050
  • الجنس: ذكر
  • القاص
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #1 في: 23:07 08/10/2011 »
سرد واقعي جميل تتنقل بنا استاذي العزيز من جبال كردستان للبحر الاسود إلى روسيا و يالطا وكأنني معك أراقب قطرات المطر واشعر بجمال تناثرها فوق كل اسطح الامكنة التي ذكرتها حتى التمست شوق العصافير لحبات المطر تلك

 نص رائع مع قدوم الشتاء هنا

 تحياتي

غير متصل ابو روزا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
  • ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: ينبوع المطر
« رد #2 في: 01:16 09/10/2011 »
احسنت استاذ سعدي


  ابو روزا

غير متصل Enhaa Yousuf

  • مشرف
  • عضو مميز
  • ***
  • مشاركة: 1748
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • http://www.enhaasefo.com/
رد: ينبوع المطر
« رد #3 في: 18:09 11/10/2011 »

تحية للأستاذ سعدي


شكرا لموضوعك الجميل
ما أعذب الحديث عن المطر
سافرت معك في هذه النزهة المطرية على سهول ذاكرتك المتقدة ربيعا وحنينا لزمن محفور على جبين الدهر
احييك على براعتك في رسم الكلمة بفرشاة الواقع والوان الامل


تمر في ذاكرتي الان مكالمة هاتفية كنت قد أجريتها مع المرحوم والدي
كنت حينها في بغداد وأخبرني بأنهم في قرةقوش مواظبون على الصلاة من أجل نزول المطر
غمرتني هذا الفكرة بشوق شديد الى المطر
فكانت قصيدة " معزوفة كل البشر " صلاتي الخاصة لنزول المطر

وهي منشورة في عنكاوا
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,239910.0.html



مع فائق تقديري
انهاء


غير متصل نبيل دمان

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 896
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #4 في: 08:41 13/10/2011 »
الينبوع هو نقطة تدفّق المياه الجوفيّة خارج الأرض، حيث يقابل سطح الطبقة الجوفية السطح الأرضي. معتمد على مصدر مائي ثابت (مثل تغلغل المطر أو ذوبان الجليد تحت الأرض)، قد يكون الينبوع عابراً (متقطّعاً)، أو دائماً (مستمراً). خروج الماء من الينبوع الارتوازي قد يرتفع أعلى من قمة الطبقة الجوفية الذي يصدر منه. عندما يخرج الماء من الأرض، قد تتشكّل بركة أو تل في الجداول السطحيّة.
التعريف اعلاه مقتطع من الموسوعة ويكوبيديا......اذن ترتبط كلمة ينبوع بالمياه المتدفقة من الارض ويمكن تشبيه صفات اخرى مجازا كالقول: ينبوع الخير، ينبوع السعادة، ينبوع الاحلام. اما ربط الينبوع بالمطر، اعتقد لا يجوز، ثم المطر لا ينبع بل يهطل. بدلا من ذلك يمكن القول  مصدر المطر، قصة المطر، نشوء المطر، او كما اختتم الاستاذ سعدي المالح حكايته التراثية الجميلة: بين الناس والمطر، بيني وبين المطر. .... الخ... الخ.
نبيل يونس دمان

غير متصل سرتيب عيسى

  • ادارة الموقع
  • عضو فعال جدا
  • *
  • مشاركة: 755
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #5 في: 22:32 13/10/2011 »
استمعت اخونا سعدي بقراءة كلماتك عن المطر الذي  واكب رحلتك عبر بلاد كثيرة وكانت عنكاوا حاظرة في ثنايا ذاكرك وانت تتابع سقوط المطر في الجبل والبحر وشوارع موسكو ومونتريال. استمتعت بكلماتك لانها كانت معجونة بموسيقى شفافة استدعت من ذاكرتي عطر التراب بعد السقوط الاول لقطرات المطر على ارضنا الطيبة.  ارى وانا المتابع لكتاباتك ان هناك رقيا  وتطورا مثيرا في كتاباتك الاخيرة  وان كان اسلوبك في السرد القصصي يعجبني دائما. لست انا بناقد لكن قياس المبدع هو اصالته وصدقه. وكنت انت صادقا واصيلا لانك كنت لسان حالنا . شكرا لانك تجعلنا ان نحب ارضنا  الطيبة اكثر.

مع مودتي  سرتيب عيسى

غير متصل قيس جبرائيل شكري

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 7150
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: ينبوع المطر
« رد #6 في: 20:14 19/10/2011 »
جميل جدا هذا السرد ورائع .. مع خالص تحياتي ......

       قيس جبرائيل شكري
              هولندا

غير متصل azizyousif

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 5628
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: ينبوع المطر
« رد #7 في: 01:21 21/10/2011 »



          أبدعت استاذ / سعدي  ...... نص رائع
          وشكرا لموضوعك الجميل ...... ما أعذب الحديث عن المطر



              عزيز بطرس يروكا  /  النمسا

غير متصل Ameal Habash

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 140
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #8 في: 01:47 31/10/2011 »
شكرا للسيد سعدي المالح على هذه الرحلة الجميلة التي اصطحبنا معه وسافر بنا برحلة نحو السحاب والمطر وها اني اتذكر رائحة المطر العتيقة تلك التي ما زالت عالقة في ذاكرتي وهي تنساب على حائطنا ... شكرا على هذه الكلمات 

غير متصل منذر حبيب كله

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 114
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #9 في: 15:17 04/11/2011 »
اخي العزيز
تذكرني مقالتك بالجفاف الذي يهدد العراق والمناطق شبه مضمونة الامطار وكذلك المضمونة منها . ونحتاج في هذه الظروف الى افكار الملكة شميران و المهندس الاشوري الملك  سنحاريب ، الذي شق الترع واقام السدود ومد السواقي وحفر الارض ووصل الكَومل بالخوصر والكَومل بدجلة والنهيرات بالوديان العميقه مثلما فعلت الملكة شميران فحولت مياه نهير  بيندوايا بوادي الملح الذي يشق قلب آلاف الدونمات قبل ان يصب بدجلة ،وحفر الخنادق ولايزال آثارها قائمة وتسمى في القوش ( اراضي خنداقي ) تلك هي شميران راقدة على صدر جبل نوهدرا ببيندوايا وروحها السامية تذرع الى السماء   داعية اياها  لتمطرها  فتسقي زروع ارض نينوى العطشى الى الماء والخيروالسلام والامان والبقاء ، ارض نينوى تذرف الدموع الى شعبها الاصيل ، انها انشودة المطر وصرخة حق بوجه القائمين على ادارة وادي الرافدين وسهل نينوى وخورسباد ودور شروكين وتلكيف وبخديدا والقوش ، في ترك الخلاف والسلاح جانباً ورفع راية العمل المتمثلة بالمسحاه والمنجل عالياً لارجاع الربيع الرافديني الاصيل الى سابق عهده ودمتم .
منذر حبيب كَله / القوش في 4/تشرين الثاني /2011


غير متصل نادر البغـــدادي

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 12144
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: ينبوع المطر
« رد #10 في: 12:49 06/11/2011 »


    سردٌ واقع عراقنـــا الغالي !
     تسلم اياديكم استاذنا العزيز
           سعدي المالح
             خالص تقديرنـا .