ابونا فرج
صغارا كنا والدنيا كانت في اعيننا كبيرة, نلهو وملعب في حوش بيعة ومدرسة كانت كل عالمنا, تحت انظار ام المعونة الدائمة , لم يكن يتجاوز اكبرنا الخامسة عشرة, بنين وبنات , وكلنا نسكن في جوار ام المعونة. لم يكن لنا انذاك من تسلية بعد يوم المدرسة الطويل الا من قضاء بعض الوقت البريء في حوش البيعة قبل ان تظهر ( مَغت الشماس) مزمجرة فيركض كل منا الى بيته.
كانت ايام الحرب الاولى اوائل الثمانينات او ربما قبلها حين سمعنا من الكبار اهلنا ان اتانا قس جديد كان يدرس في روما , وجاء ليخدم في كنيستنا . رجل في اواسط العمر , ذو لحية و نظارات كبيرة , سمحا بشوشا يكلم الكبير والصغير. احببناه والتففنا حوله,احسسنا ان البيعة صارت (بيت ابونا), و الذين لم يكونوا يلعبو معنا صاروا يجيئون ويشتركون معنا, تعلمنا اشياء كثيرة . كثيرا ما كان يقتطع الوقت اثناء الصلاة ليشرح لنا ويبين معنى تلك الصلاة واقسام القداس واهمية كل قسم . شكلنا اول جوق للترانيم وما كان احلى واروع من انتظار قداس ليلة العيد لنسرع في منتصف الليل البارد الدافئ, الى الكنيسة متحلقين حول الماسير ماجدولين فوق في (الكاغولتا ) مشاركين في القداس والتراتيل. تعلما منهما الكثير. كانما تغير ت صورة البيعة على يديه, بداءنا نشارك في القراءات ولا فرق بين بنت وولد الا من يجيد القراءة افضل,كنا كلنا نقراء الرسائل والطلبات ونشارك في الصلوات في وقت كان حرام على البنات الصعود الى المذبح للقراءة.
كانت الكنيسة تغص بالموْمنين , بل يضطر البعض الكثير من الوقوف عند الباب ايام الاعياد لسماع القداس والمشاركة, وما اروعها من مشاركة, حتى لتخال وانت تسمع ابونا يصلي انك واقف بُعد خطوات قليلة عن باب السماء ,حين يستدير ويقبل الارض امام المذبح, وعرقه يتصبب وهو يردد الكلام الجوهري بلغة كلدانية فصيحة, وبعد انتهاء قداس العيد كان يغلق باب الكنيسة الحلفي ويقف عند الباب الامامي مصافحا الناس ومهنئا بالعيد. لن انسى ابدا حين كنت اسرع _ و غيري الكثير_ للكنيسة صباحات الاحاد والجمع , لحضور القداس, وايظا لاحجز قراءة الرسالة, وحين يحل فصل الربيع ومااروعه في ام الربيعين, احمل من حديقتنا بعض ورود الجنبد العطر فاقدم له احداها ليقول( لي ورد شايل ورد).
وكبرنا و كبرتنا الايام والاحداث,و ذهب كل منا في اتجاه, وراء زرق او حياة افضل او امان, منا من تغرب خارج البلد و منا من تغرب داخله, لكن داخل كل منا شعلة حب لا تنطفئ للكنيسة وامنا ماجدولين وابونا, كما ظل داخلنا هاجس وحنين وامل وحلم العودة للبلد, ولو لسويعات قليلة , تطوف فيها شوارع الموصل , نزور (ام المعونة) و(الطهرة) و (ام العجوبي) و ( مسكنتا ) ولابد ايضا قبل هذا او بعده من زيارة ابونا واخذ بركته.
كنا نسمع ونرى ما يحل ببلادنا قلبنا على البعد ينزف حزنا, وكلما المت مصيبة جديدة ننتظر لنرى ما يقول سيدنا, فيائتينا الجواب على البعد , هذا البلد تحت حماية امنا العذرا ولن تتخلى عنه.
وجاء يوم من ايام درب الصليب , والاخبار تنقل لنا خبر اختطاف سيدنا, صلينا انرنا الشموع . لكن, وما هي الا ايام وياتي الخبر , لقد قتلوه, لم يحسبوا حسابا لعمره, قدره ولا لوجع قلبه, ولا للناس التي احبته من كل الاديان والطوائف. عاد محمولا على الاكتاف وسط هلاهل النسوة ودموع الرجال , بكاه الصغار والكبار والكل يتذكر احدى عِظاته الاخيرة " يقتلونا ونحن نغفر لهم لانهم لايدرون ما يفعلون , اما نحن فباقون هنا " مهما ذهب من ذهب اتى من اتى ومهما ضاقت الدنيا باهلها. هذا هو ابونا فرج.
سيرين بهنام حبابة