المحرر موضوع: يوميات ايرانية ( 19 ) الإندماج بمجتمع السجناء  (زيارة 1113 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Adel Habba

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 30
    • مشاهدة الملف الشخصي
يوميات ايرانية
( 19 )
عادل حبه
الإندماج بمجتمع السجناء
مرت بسرعة الايام الثلاثة من الوجوم والحزن التي طغت على السجن إثر إعدام حسين قبادي. وعاد السجناء من جديد الى مزاولة حياتهم الروتينية المعتادة. وبدأت تسمع من جديد صوت "علي باباخ" الجهوري وهو يتهادى بهيكله الضخم وبشاربه المتميز المتهدل وهو يحمل الامتعة والاغذية التي يجلبها أهالي السجناء يوم المواجهة. أن علي باباخ هو الآخر كان سجيناً ممن عاد من الاتحاد السوفييتي، حيث هاجر اليها بعد انهيار جمهورية الحكم الذاتي في آذربايجان ايران عام 1946، وحكم عليه بالسجن المؤبد. وأصبحت مهمته في السجن هو جمع الامتعة التي تجلب في يوم المواجهة وتسليمها الى السجناء لقاء مبلغ بسيط يجمع من السجناء ممن لديهم أمتعة في يومي المواجهة من كل اسبوع. كما عاد أؤلئك الذين يمارسون لعبة الشطرنج او النرد او الدومينو أو كرة المنضدة وهم "يناكدون" و "يستفزون" و "يقشبون" على خصومهم في اللعبة كجزء من "الحروب النفسية" التي يمارسها طرفا اللعب من أجل الغلبة على الطرف الآخر، ثم التفاخر بقدرتهم ومهارتهم في هذه اللعب وسط التهليل من قبل بعض السجناء.
وكان هناك فريق آخر منكباً على القراءة في ما تيسر من كتب عندهم، وعلى قلتها، بسبب التضييقات التي تفرضها الإدارة على جلب الكتب الى داخل السجن. ولاحظنا عدداً قليلاً من السجناء ممن سمحت لهم إدارة السجن في إستكمال دراستهم من أجل الحصول على شهادة دراسية تعينهم عند إطلاق سراحهم. فضابط الصف رحيم بغدادي من أهالي سنندج، والمتهم في النشاط ضمن صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني، كان يدرس بجد وولع الهندسة المدنية بالمراسلة مع المدرسة العالمية بالمراسلة ومقرها لندن (International Correspondence School)، ويشاركه في الدراسة بالمراسلة كل من سيد سقايت ومحمود والضابط محمود تمدن وآخرون. وقد تسنى لبعض السجناء ممارسة الدراسة بفعل قدر من الانفراج السياسي والتخفيف من الضغط على السجناء في ظل حكومة علي أميني والتي لم تستمر الا لفترة محدودة.
ويطالعك في السجن أيضاً نفر آخر قليل من السجناء وهم منهمكون في الترجمة من لغات مختلفة الى الفارسية. فقد كان العزيز مجيد أمين مؤيد، وهو محكوم بالسجن المؤبد لنشاطه ضمن الفرقة الديمقراطية الآذربايجانية، ومن مواليد عام 1931 في تبريز وحاصل على شهادة الليسانس في الادارة، ضليعاً في اللغة الفرنسية إضافة الى أنه كان يجيد اللغة الانجليزية، وبالطبع اللغة الفارسية ولغته الام الآذرية. إنه وحتى الآن يعد أحد أهم المترجمين والنقاد المعروفين على الساحة الإيرانية.
 
مجيد أمين مؤيد – نوروز عام 1967
سجن قصر – طهران – إيران
فقد ألف مجيد أمين مؤيد العديد من المؤلفات والتراجم مثل كتاب "مرور بأفكار برتولد بريخت"، كما ترجم بعض إبداعات الكاتب الأمريكي آرثر ميلر مثل " نظرة من الجسر" و"سحرة مدينة سالم"، وقصة "موسى" لهوارد فاست، و"العلاقة بين الفن والواقعية من وجهة نظر علم الجمال" للفليسوف الروسي تشرنيشيفسكي، و"التاريخ الاجتماعي للفن" لآرنولد هاوز، و"الثورة الفرنسية العظمى وآثارها العالمية". وقد قضى مجيد أمين مؤيد في السجن مدة 18 عاماً. أما أحمد قاضي، وهو من عائلة الشهيد محمد قاضي ومن أهالي مهاباد والمتهم بنشاطه في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني ومحكوم بمدة خمس سنوات، فقد كان ضليعاً في الترجمة من اللغة الإنجليزية الى اللغتين الفارسية والكردية.
كما لاحظنا ان هناك بعض السجناء قد إختار زاوية في باحة السجن المثلثية وهو منهمك في حياكة السجاد. لقد تحولت هذه الزاوية الصغيرة الى ورشة حقيقية صغيرة لصناعة السجاد الايراني الجميل والشهير. وقد تصدر هذه الورشة الفنان البارع مشيري، وهو من أهالي مرند ومحكوم عليه بالسجن لمدة 15 سنة، إضافة الى آقا زاده من أهالي تبريز والمحكوم هو الآخر بنفس المدة لمشاركتهم في نشاط الفرقة الديمقراطية الآذربايجانية. إن كل معدات هذه الورشة البسيطة المتنقلة لا تتعدى "الجومة" التي تشد بها الخيوط لحياكة السجاد إضافة الى قدر وسخّان ليتم تلوين الخيوط الصوفية المستخدمة في الحياكة. وفي بعض الاحيان كان آقا زاده يذهب الى مصنع السجاد الملحق بالسجن للعمل والحصول على بضعة "تومانات" تساعده على امرار معاش العائلة وتسد ما يحتاج إليه هو في السجن أيضاً. أما مشيري فكان هو الاكثر مهارة وفناً وفضل العمل في السجن وبيع ما ينسجه من سجاد الى شركة السجاد الايرانية التي تحتكر بيع وتصدير السجاد الايراني الى الخارج. لقد سحرني مشيري في إختياره الوان خيوط السجاد، وهي الوان تستخرج عادة من الاعشاب الطبيعية، ثم قدرته الفائقة على مزج الالوان وإستخراج الألوان مما يعبر عن مهارة وذوق رفيع وفن هذا الرجل الكريم. لقد تسنى لي في وقت لاحق أن اقدم له خدمة كي ينسج سجادات صغيرة في غاية الجمال. فقد رسمت له صورة العالم المشهور ألبرت أنشتين، وشرع بحياكتها على مساحة متر×متر ونصف، وبألوان متدرجة من الابيض إلى الاسود. أما حاشية السجاد فقد زينت بمعادلة آنشتين المعروفة باللغة اللاتينية ( الطاقة = الكتلة × مربع السرعة) مع محاور الذرة. وقد أبدع العزيز مشيري غاية الابداع في حياكتها، وباعها بسعر متواضع الى شركة السجاد الايراني، التي باعتها بدورها بمبلغ كبير يصل الى آلاف الدولارات كما سمعنا لاحقاً الى أحد الزبائن الالمان. ورسمت لمشيري صورة أخرى ملونة للفنان تشارلي شابلن والتي حاكها بالقطع الكبير وباعها عبر نفس الطريق، وكانت تحفة فنية بحق.
وكان هناك فريق آخر من السجناء منهمكاً في التطريز وآخر في صنع السلال النايلونية او صنع الشالات الجميلة أو الشنط الصغيرة المطعمة بالخرز والنمنم من أجل بيعها خارج السجن، وتوفير بعض النقود لسد حاجتهم في السجن وحتى لسد قوت عائلاتهم في الخارج. لقد انبهرنا في الايام الاولى السجنية بتلك الانامل الايرانية المبدعة للسجناء التي تصنع كل ما هو جميل رغم ظروف السجن. البعض منا، وخاصة العزيز أبو جواد- كاظم المالكي-، الذي كان هو الآخر مغرماً بالاعمال الحرفية وراح يتابع بولع هذه الفنون ومهارات وابداع السجناء فيها، وشرع هو الآخر بعد فترة وجيزة بصناعة السلال من خيوط النايلون أو الشالات الجميلة وقد أبدع حقاً في صناعتها، وقد أرسلنا بعضاً منها كهدايا الى العراق. وقام كل من سعيد ومحمد الحمداني أيضاً بحياكة السلال النايلونية وكانوا يرسلونها الى الخارج، حالهم حال السجناء الايرانيين، لبيعها عبر شرطة السجن ليحصلوا على بضعة تومانات قد تساعدهم في تحسين ظروفهم المعيشية.
وتولى أحد السجناء وهو ولي الله غفوري ممارسة حرفة النجارة التي أبدع فيها. إن هذا الانسان البسيط والورع قد حكم عليه لمدة عشر سنوات عندما بادر الى قذف موكب الشاه وضيفه الجنرال ديغول في أحد شوارع طهران قادمين من مطار مهراباد ببقطعة خزفية، يبدو أن الدفع ديني إذ كان متأثراً لما حصل للخميني بعد نفيه الى تركيا. وقد حكمت عليه المحكمة العكرية بالسجن لمدة 15 عاماً بعد أن تعرض الى تعذيب رهيب وأصيب بعوارض عصبية سلبية.
 
السجين النجار ولي الله غفوري
نوروز عام 1967 – سجن قصر رقم 4 - طهران
إنشغل غفوري، الى جانب مثابرته الدؤوبة على القراءة والكتابة، بصناعة كراسي جميلة وعملية ويمكن جمعها خاصة للكتابة والمطالعة، وباع البعض منها الى السجناء وارسل مجموعة أخرى منها الى الخارج لبيعها. وقد أشتريت لاحقاً واحداً من هذه الكراسي وارسلته الى العراق كهدية الى إبن أختي الصبي الحبيب علي الوردي.

بالطبع لم تخلو ساحة السجن رقم 3 على الرغم من صغرها من فرصة لبعض السجناء في ممارسة الرياضة ككرة المنضدة والزورخانه ورفع الاثقال والتي كان لمحمد حسن عيدان باع في ممارستها.
في الحقيقة كان السجن خلية إجتماعية صغيرة للمجتمع الايراني بإيجابياته وسلبياته. ولذا كان من الممكن العثور في السجن أيضاً على البصاصين من ضعاف النفوس والذين كان جل "إبداعهم" وهمهم هو التلصلص والتنصت والتجسس على الآخرين بهدف كتابة التقارير كنمط من أنماط التزلف، أو كما يطلق عليه الايرانيون صفة "خوش رقصي"، لادارة السجن والجهات الامنية الايرانية. وقد ركز هؤلاء البصاصين على المجموعة العراقية يشكل خاص لانهم كانوا جدداً على مجتمع السجن أولاً، كما أنهم لم يبدو أي تراجع أو تزلف وضعف أمام إدارة السجن، إضافة الى أن المجموعة العراقية بدأت بالحديث مع السجناء حول ضرورة رفع معنويات السجناء والتصدي لمظاهر الإذلال التي يسعى حكام البلاد الى فرضها على السجناء وكسر معنوياتهم عبر "الشامكاه" الذي مر الحديث عنه، أو كتابة "البراءات" التي قطعت شوطاً قبيل وبعيد وصولنا الى سجن قصر.
 
صورة فريدة أهديت لكاتب السطور من محمد علي عموئي، تبين السجناء في قلعة برازجان والتي ضمت سجناء حزب توده ايران والفرقة الديمقراطية الآذربايجانية والحزب الديمقراطي الكردستاني، وبضمنهم سجناء ضباط حزب توده والذين قضوا قرابة 30 عاماً في السجن الى ان تم إزهاق أرواحهم على يد الحكم الديني الحالي المتطرف في إيران في عام 1988ضمن حملة ما يعرف"تنظيف السجون"والتي طالت الالاف من منتسبي الحركات السياسية بما فيها الدينية. ويبدو ان الوحيدين على قيد الحياة هما غني بلوريان الواقف في اقصى يمين الصورة ومحمد علي عموئي الخامس من الواقفين على اليميــــــن
ويعود السبب في تدهور معنويات السجناء الى حملة التبعيد التي طالت العشرات من السجناء السياسيين اليساريين في الشهور التي سبقت وصولنا الى السجن والتي شملت تحديداً بقايا السجناء من نخبة الضباط أعضاء التنظيم العسكري لحزب توده إيران وأعضاء الفرقة الآذربايجانية وكوادر الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني والذين كانوا مثلاً في التصدي للحكم وعدم الانصياع لارادتهم في كسر معنويات السجناء السياسيين. وقد جرى تبعيد غالبية هؤلاء السجناء الى قلعة برازجان في قصبة برازجان في أقصى الجنوب الايراني المحاذي للخليج، وهي قلعة مشابهة من حيث الظروف لقلعة نقرة السلمان في العراق والتي جهزها الحكم الملكي عام 1949 بعد إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي، ثم البعثي لاحقاً بعد كارثة شباط عام 1963، لحشر المئات من الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين والقوميين الكورد العراقيين.
إن كسر معنويات السجناء طالت حتى السجناء العراقيين من ضحايا جريمة 8 شباط، والذين سبقونا في سجن قصر ثم رحلوا الى العراق بسبب من مواقفهم وثباتهم في سجن قصر ومساهمتهم في رفع معنويات السجناء الى قيامهم بالاضرابات لتحقيق بعض مطالبهم وحقوقهم.
ولا يسعني في هذا الاطار الا ان اقتبس شذرات مما كتبه الصديق العزيز محمد علي عموئي، أحد كوادر تنظيم الضباط التابع لحزب توده ايران، والذي كان محكوماً بالاعدام ثم قضى مدة 30 سنة في سجون الشاه وسجون حمهورية العدالة "الاسلامية" الحالية. ففي مذكراته التي تحمل عنوان "دردنامة"؛ أي "رسالة الآلام"، يشير عموئي بجمال ورقة وتعاطف الى معاناة هذه المجموعة العراقية الباسلة في سجن بلاد الغربة ويقول:"كنا مجتمعين حول سفرة العشاء عندما سمعنا همهمة مالبثت ان تعالت لنسمع صيحات السجناء وهم يرددون"لقد جلبوا العراقيين!!". خرجنا من الغرفة ووجدنا حوالي أربعين عراقياً وهم في حالة من الوهن وبملابس رثة أثارت لدينا مشاعر من الغضب والتعاطف. تجمع السجناء حولهم محاولين السؤال والاستفسار منهم. أجاب نفر من العراقين على الاسئلة ببعض الكلمات الفارسية وبحركات اليد، اضافة الى جمل عربية لم نفهمها. طلبنا من السجناء الايرانيين إخلاء المكان لكي نستطيع ان نوفر مكان للقادمين الجدد. أنبرى شخص أسمه علي وصاحب كراج في بغداد بالتحدث بلغة فارسية "مكسرة"، وأوضح انهم عراقيون تهددهم خطر الموت في العراق وأضطروا الى اللجوء الى ايران. وامضوا بعض الوقت في معسكر في اطراف طهران ثم نقلوا الى سجن قصر. أخلينا أحد الغرف لهم وهيئنا لهم اولويات ما يحتاجون. وفي اول مواجهة لنا مع الاهل طلبنا شراء الاجبان والتمر والصابون وبعض الملابس الضرورية. كان أكثر القادمين اعضاء في الحزب الشيوعي العراقي. وتم تقسيم البعض في غرف السجناء الايرانيين الآخرين. لقد حلت لغة الاشارة "اللغة العالمية" مشكلة التفاهم مع العراقيين. وتطوع أثنان وهما رؤوف ووهاب بالقدوم الى غرفتنا والتحدث بلغة انجليزية مفهومة للطرفين. كان رؤوف خريج موسكو، اما وهاب فقد تخرج من دورة مهنية في المانيا الديمقراطية. وكلاهما اعضاء في الحزب الشيوعي العراقي ومن اهالي بغداد. لقد تعرضت بيتهم الى هجوم الحرس القومي واستطاعا بالكاد الافلات والوصول الى خانقين. ومن أجل العبور الى الحدود الايرانية والوصول الى الى حدود الاتحاد السوفييتي، فقد سلكا طريق كرمنشاه – طهران - سرخس بمعونة خريطة اصطحبوها معهم. وفضلا أثناء ذلك الاستراحة في النهار على قارعة الطرق والتحرك ليلا لتفادي رجال الشرطة والجندرمة. كان رؤوف مصاباً بعمى الليل ويعاني من مشاكل في النظر. وفقد وهاب حاسة السمع اثناء فترة الاعتقال. ولا أدري كيف استطاع الاطرش والمصاب بعمى الليل الوصول الى الحدود السوفييتية حيث اعتقلوا بسبب خطأ ارتكبه الاثنان عند الحدود. ومن بين العراقيين تعرفنا على عزيز وابوعلي من الكورد ويتسمان بالدفئ. تحدثا معي باللغة الكوردية التي لا تختلف كثيراً عن الكوردية الكرمنشاهية. اما جاسم فكان ضابط صف ويتمتع بقدر من الثقافة ولكنه شديد الحساسية والعصبية بسبب لجوء الحكومة الايرانية الى إعتقال لاجئين فارين من بلادهم جراء الارهاب. وقد ارسل رسالة سلجها الى مدير السجن يحتج فيها على اجراء الحكومة الايرانية، مهدداً الحكومة الاضراب عن الطعام في حالة عدم الاستجابة لمطاليبه خلال اسبوع. حاولنا اقناعه بماهية الحمومة الايرانية ، وانه ليس هناك اختلاف كبير بين حكومة الانقلاب الايرانية وبين حكومة الانقلاب البعثية في العراق. إنهم استلموا السلطمة عبر القمع والقتل وهم يحكمون بهذه الطريقة. كنا نخشى ان تعمد الحكومة العراقية الى تسليم اللاجئين العراقيين الى العراق، على الرغم من ان حبس اللاجئين السياسيين مخالف لاتفاقية جنيف وخرق صريح لاعلان حقوق الانسان. ان تحويل العراقيين الى العراق لا يعني الا تسليمهم الى جلاديهم الذين ما زالوا يقومون بمطاردة معارضيهم من بيت الى بيت ويقومون بأعمال القتل الجماعي. وقد طلب العراقيون منا اقناع جاسم بالتراجع عن الاضراب... كان العراقيون يتمتعون بالدفئ والصميمية وسريعي الانفعال وهو ما كان يشدنا اليهم".
يتبع[/b][/size][/font]