المرأة والمكونات الصغيرة (الاقليات) ضحايا الديمقراطية المشوهة
سامي المالحفي اطار نشاطاتها الدورية نظمت الجمعية السويدية العراقية، قبل فترة سيمنار حواري عن العراق (العراق الى أين؟)، شارك فيه السفير السويدي الاسبق في العراق و النائبة في البرلمان السويدي العراقية عبير السهلاني وصحفي سويدي مختص بشؤن الشرق الاوسط . الموضوعة الرئيسية في السيمنار تمثلت في تقييم الاوضاع في العراق، ومحاولة للخروج بأستنتاج حول ما اذا كان في العراق عملية ديمقراطية بالمقاييس العلمية والمعاصرة، وان كانت للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تدير البلد، ولسياساتها في بناء المؤسسات والبنى التحتية وتوفير حياة لائقة للمواطن وضمان الحريات الاساسية وأدارة الصراعات غيرها، شرعية ديمقراطية.
وبعد عرض موضوعي للاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية للعراق والمواطن العراقي، اتفق المتحاورون على استنتاج جامع مفاده: نعم ثمة عملية ديمقراطية ناشئة في العراق، من تجلياتها اجراء عدد من الانتخابات (مع الاشارة بوضوح الى التجاوزات والنواقص والتزوير والخلل في القوانين)، والتوافق والتآلف ونوع من الحوار بين القوى السياسية (رغم استخدام العنف والارهاب والاسقاط والتخوين واستخدام مؤسسات الدولة والمال العام لحسم الصراعات). كما اتفق المتحاورون، ايضا، على ان العملية هذه تجري ببطئ شديد، وتتعثر في الكثير من جوانبها ، وان ثمة عوائق جدية ومخاطر حقيقية تحدق بنموها وتطويرها وترسيخها، وأن ثمة قوى متغلغلة في مؤسسات الدولة وقيادات القوى التي تقود البلد عن طريق الانتخابات، تتوفر لديها امكانات مالية واعلامية واجتماعية ودينية كبيرة من مصلحتها أجهاض هذه العملية الناشئة. وجرى الاتفاق في الوقت نفسه على ان القوى الديمقراطية الحقيقىة في المجتمع العراقي، والمتمثلة ببعض التيارات السياسية وشرائح المثقفين والمتعلمين وأبناء الطبقات الكادحة والوسطى، متشتتة وضعيفة. وفي معرض تقييم الافاق ومستقبل العملية الديمقراطية في العراق، عبروا عن قلقهم رغم ابداء تفاؤل حذر، مؤكدين ان البديل امام العراقيين، في حالة التراجع والفشل وتغليب الصراعات، هو بديل كارثي، لن يكون فيه، على المدى البعيد، من سيربح، ولن يفلح في النهاية، اي طرف او قوى في تحقق مصالحها القومية او الطائفية، وأن كانت تلك المصالح مشروعة.
خلال الاشهر المنصرمة التي تلت تنظيم تلك الفعالية والخروج بتلك الاستنتاجات، دخلت العملية السياسية في العراق، برمتها، في ازمة مستفحلة. الازمة التي تجسد، فيما تجسده، غياب مشروع وطني عقلاني جامع للقوى المهيمنة على العملية السياسية، والتي تتبجح، في كل مناسبة، بأن لها شرعيتها الديمقراطية. وتجسد الازمة ايضا، الفهم المشوه للديمقراطية التي يريدون من خلالها الاستئثار بالسلطة والثروات فحسب. ويبدو واضحا، لمن يراقب ويدرس البرامج والنهج والتحركات وتشكيل التحالفات واعادة تشكيلها وغيرها من المواقف السياسية، بأن هذه القوى عاجزة عن فهم العلاقة الجدلية بين تحقيق مصالح من يمثلونها في المجتمع وبين تحمل المسؤولية المشتركة والنجاح في بناء وطن عامر معافي للجميع. وطن المواطنة، وطن يزدهر بالمؤسسات الكفوءة وبالخيرات والخدمات للمواطن، وطن آمن يستقر ويتطور بتوفير الحريات وخلق بيئة للعمل والانتاج والتعلم والتربية الصحيحة والابداع والتعايش بتكافؤ ومساوات.
وفي مثل هذه الظروف القلقة والغير مستقرة من الطبيعي ان تكون المرأة والاطفال و المكونات الصغيرة (الاقليات)، صاحبة المصلحة الحقيقية في بناء البلد وترسيخ الديمقراطية، ان تكون الضحية الاولى، ضحية صراعات القوى المهيمنة: صراعات لصناعة ديمقراطية مشوهة، يريدونها على مقاسات مصالحهم الضيقة والانانية، صراعات تغذي الارهاب الذي يحصد المزيد من الابرياء، وتغذي الفساد الذي بات اخطر من الارهاب نفسه، صراعات تنتج الاحقاد وتدمر القيم وتضعف الامل في قلوب الناس التي تعيش منذ عقود محرومة مظلومة مهانة ومستعبدة.
فالمرأة والاطفال والمسيحيين والتركمان والايزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم من المجموعات الاثنية والدينية الصغيرة، يعيشون، اليوم، مآسي وتراجيديا تنتجها ديمقراطية القوى المهيمنة التي تتقاسم البرلمان والحكومة والثروات ومؤسسات الدولة. فالارهاب يطالهم يوميا، والقتل والتهجير وطردهم من ديارهم لم ينتهي، وبات الخوف والقلق زادهم اليومي، يهرب منهم الالاف بحثا عن الامان والكرامة المفقودين، تاركين ورائهم اعز ما لديهم. بالاضافة الى كل ذلك جرى ومنذ انطلاق العملية السياسية، منذ صراع الاقوياء على صياغة دستور التوافق الملغوم، والتحكم من خلال مؤسسات المحاصصة بالانتخابات وباصدار القوانين وبنهب شرعي للمال العام، جرى تغييبهم وتهميشهم والتقليل من مكانتهم واعتبارهم، باشكال وطرق ملتوية مختلفة، ثانويين، مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة.
وما يؤلم اليوم، ان تصل الامور الى ان يجري، وتحت قبة البرلمان، وبأسم ديمقراطية مشوهة، زرع فتنة حقيقية، غير وطنية، بين الضحايا. فالاقوياء وبعد ان نالوا حصصهم، فرشوا حلبة الصراع، التي يجيدون بنائها وتجميلها، ليركلوا بشكل ديمقراطي زائف ومقزز، المرأة والتركمان والمسيحيين ليتصارعوا من اجل الفتاة، من اجل مقعد شكلي. وهذه طبعا ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة. ففي الامس، افلحوا في التأثير على الوعي العام للاخوة التركمان، ونجحوا في استمالة قادتهم القوميين، لكي يوجهوا طاقاتهم من اجل اعتبارهم قومية ثالثة في الوطن. ولقد بلع الاخوة التركمان الطعم. فالدستور يعتبر العرب والاكراد من القوميات الرئيسية، وكل الاخريين هم من الثانويين. وبدلا من رفض هذا الواقع، والغاء هذا النص، والنضال ضد هذا التمييز والتعصب، وبدلا من العودة الى جوهر الديمقراطية والمواطنة، اصبح هم الضحايا ان يرفعوا من مكانتهم ليكونوا من الاساسيين. هذه مـأساة وطن حقيقية، ورائها علة تاريخية كبيرة تكمن في الفلسفة، في الفكر، في النهج المنافي لجوهر الديمقراطية ومفهوم المواطنة والتكافؤ والتعددية والمشاركة.
ان محنة الاخوة التركمان، والمسيحيين، ومئات الالاف من الارامل واليتامى، ومعهم طبعا الملايين من الفقراء والمحرومين والمهجرين، من الشيعة او السنة او الاكراد، تكمن في فشل النخب السياسية والقوى المتنفذة في صياغة مشروع بناء دولة مؤسسات، دولة كرامة للمواطن، بغض النظر عن دينه او انتمائه القومي والطائفي وعن لونه وجنسه وانتمائه السياسي والفكري. ومن المؤكد ان عدم التوصل الى تبني هكذا مشروع، يعني استمرار المحن والمآسي واستفحال الصراعات والازمات. فالتركمان كشعب لن يغيروا من واقعهم في حصر همهم وعملهم لرفع مكانتهم لقومية ثالثة. هذا قد يفيد السياسيين للحصول عل بعض الحقائب والامتيازات، ولكنه لن يحل المشكلة الاساسية، مشكلة ضمان الامن والاستقرار والمساواة والتكافؤ ومعالجة الملفات العالقة في كركوك وغيرها من المناطق الاخرى، مشكلة ترسيخ الثقة المتبادلة والتأسيس للسلام والمعايشة وبناء وطن جامع ومشترك للجميع دون تمييز.
وكذا الحال بالنسبة للمسيحيين. مقعد في المفوضية الذي هو حق يجب العمل للحصول عليه، ليس لب المعضلة. هذا المقعد لن يغير واقع المسيحيين ولن يقلل من معاناتهم او يوقف الارهاب بحقهم، ولن يمنحهم الامان والضمان في حياة حرة متكافئة، او يوقف تراجيديا الهروب والهجرة. نعم قد تكون هذه نضالات يومية ومكاسب لها دلالاتها ومغزاها، وقد تؤثر على المزاج العام والوضع النفسي، غير ان المحنة، المشكلة، هي اكبر من ذلك بكثير. فالقوى السياسية لشعبنا الكلداني السرياني الاشوري تهلهل وتشيد بالديمقراطية المشوهة عندما تحقق انجازا او مكسبا حزبيا. ولكنها سرعان ما تضطر للعودة للانتقاد والاحتجاج على التهميش والتمييز والاجحاف. غير انها للاسف، لا تتوقف بوضوح وبجرأة لتمس جوهر المشكلة، ولا تهيئ شعبنا للعمل من اجل مواجهتها، معتقدة ان الانسجام والتأقلم وقبول الامر الواقع هو ما يحقق مصالحها وربما مصالح شعبنا.
ثمة خلل في الدستور، وثمة اجحاف مخل بحق المرأة والاقليات في صياغة القوانين، وثمة تمييز ممنهج ومنظم في بناء المؤسسات. على المرأة العراقية ومنظماتها المناضلة، على الشعب التركماني، وعلى الشعب الكلداني السرياني الاشوري المسيحي، على اليزيديين والمندائيين، ان ان لاينجروا الى هذه الفتنة. عليهم جميعا تعبئة كل قواهم ضد التمييز والتهميش وتشويه الديمقراطية. عليهم عدم الدخول في صراعات تسهل تحقق المصالح الطائفية والقومية والعنصرية للقوى التي تتقاسم كل شيْ في وطننا النازف. من حق هذه المكونات المطالبة باحترامها كمكونات متساوية ومتكافئة مع الاخرين، عليها رفض منطق الاساسي والثانوي، منطق الاكثرية والاقلية في تحقيق المواطنة في الوطن المشترك. على هذه الشعوب والشرائح الاجتماعية ان تتضامن وان تكون حذرة جدا من التصعيد والتشدد في دعوات بعض القادة والمزايدين القوميين من اي طرف كانوا. فلا مصلحة لهم البتة في الدخول في معارك وصراعات غبية، تضعفها وتجعلها رحمة لشهية الاقوياء، الذين وكما تثبت التطورات، لاتتجاوز مشاريعهم واحلامهم وممارسة مسؤولياتهم مصالحهم الحزبية والعشائرية الضيقة والانانية.
والسؤال هو: هل ستكون هذه المكونات الصغيرة على مستوى وعي خلفيات الفتنة التي يزرعها الاقوياء بطرق ديمقراطية مشوهة؟ هل ستكون بمستوى التحديات التي تواجهها؟ هل بأمكانها التضامن والتنسيق والضغط موحدين ضد التمييز والتهميش؟ هل سيكون صوت العقل والحكمة أعلى من صوت المزايدين والقوميين المتعصبين والمرتبطين غالبا بمشاريع ومصالح الاقوياء؟ هل تدرك القوى السياسية ونخب هذه الشعوب والشرائح ان لاخلاص، ولا امان، ولاحقوق دستورية مضمونة، ولا تقدم وازدهار، الا بالعمل والنضال الدؤوب من اجل المواطنة المتكافئة و بالعمل والاخلاص ونبذ الفساد وبالديمقراطية الحقيقية التي لا تميز بين الناس في الوطن الواحد؟