المحرر موضوع: مذكرات.. اوراق من دفتر الحرب.. الورقة التاسعة صدق كولن ولسن  (زيارة 2044 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Ibrahim Golan

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 38
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة التاسعة
صدق كولن ولسن
1986
منتصف الليل! والظلمة مرقطة بومضات القصف وقنابل التنوير، وصل زحفا احد المصابين آتيا من الحجاب الذي أمامنا صاعدا السفح وهو يصرخ:
-    خذوا حذركم! احتل الإيرانيون الحجاب إنهم يتقدمون خلفي!!...
ما ان عبرنا الى الخلف قاصدا الوصول الى اقرب طبابة، حتى بدأت مدفعية العدو تدك السرية وتزرع في كل شبر قذيفة، ليس لنا من ملاذ من هذا القصف الكثيف الا هذا الشق المترامي من أقصى يسار السفح بداية الفصيل الأول حتى نهاية الفصيل الثالث في نهاية السفح على اليمين، نتبادل الإيضاحات بيننا، فصولة العدو لن تبدأ الا بعد ربع ساعة من إيقاف القصف لئلا تطال جنوده..
أنهكت السرية بالخسائر وتفجير العتاد من شدة القصف، فأخذنا نقتصد بالرمي، وهذا ما أصاب المعنويات.....
شيئان يعينان الجندي على الصمود في المعركة.... الأول هو (المعنوية) التي تأتي من خوض الجندي معركة سابقة وتصبح له خبرة في القتال، والثاني هو (العتاد) فلا تستطيع القتال بلا عتاد طبعا....
قبيل الفجر بدا العدو صولته على السرية، فقاتلت السرية قتالا شرسا ما قاتلت مثله قتالا حتى الصباح!...
 في مثل هذه اللحظات لا تستطيع ان تفكر بالخيارات، هل انت تدافع عن بلد ام حكومة ام عن نظام، هل انت تقاتل صديقا ام عدوا، لم تحارب ولماذا وما الجدوى؟! لم يعد هذا هو السؤال المطروح في تلك اللحظات، بل تصبح المعادلة هي الدفاع عن النفس فقط، ففي أتون المعركة ليس لك الخيار الا ان تقاتل! فاما ان تقتُل او تُقتًََل! ستدافع عن نفسك بصورة غريزية! فالمقابل لا يعرفك الا هدفا للقتل..
على مشارف الصباح هدأت نيران العدو، فاستبشرنا بالصباح ليكشف لنا المستور، لكن غفلنا عن وعورة الجبل التي تخفي ما تخفيه، فقد كمن خلف الصخور الهائلة، بعض جنود العدو، وغش بعض جنودنا بالأمان، فذهبوا يقلون البيض ويحضرون الفطور لبعضهم، وكانت المصيبة من تلك الفتحة التي أهملت على يسار الخندق، تسلل اثنان من جنود العدو وضربا رمانتين في المرصد واستشهد جنديين فيها، وهكذا احتلت المصدة الأولى، ثم الثانية ثم نصف الخندق....
وانتشر جنود العدو بين والملاجئ والمصدات، وأهالوا علينا بالرمانات في كل مكان، تمكن العدو مسك المخارج والمداخل والرصاص، سدت علينا طرق الهروب، اختبأت في الخندق الجانبي على اليمين، كجرذ أحاطت به الفخاخ من كل جانب، رأيت ملجأ قريبا ترددت بدخوله، فمن يقول بان جنود العدو ليسوا بداخله؟ وحتى وان كان خاليا سيطالونه بعد قليل، أتلصص متهيئا وأصبعي على الزناد لأية حركة، فجأة انفجرت رمانة يدوية قربي، فهرعت مسرعا الى الملجأ لائذا بالموت المؤجل، من الموت المحقق، دخلت الملجأ فتفاجأت بوجود أمر الفصيل، وسعدون أبو البدالة مختبئين داخله، أصابهم الهلع بدخولي ولم تلحق أصابعهم بالضغط على الزناد، لم ينبس احد منا بالكلام، ثلاثة أشباح وعيون خائفة ووجوه مصفرة محاصرين بين فكي الموت، تتساءل عيوننا، نقلب الحلول والاحتمالات بين أنصاف الكلمات وزوغان النظرات وتشنج الحركات، كل الحلول تشير الى الموت المحقق...
سقطت قلوبنا حين تناهى الى سمعنا وقع خطوات جنود العدو فوق صفيح جنكوات سقف الملجأ، يا الهي لقد انتهى كل شيء، الموت او الأسر في أفضل الأحوال، بطلت لغة الكلام، فقط عيون خائفة تدور في محاجرها بانتظار النهاية، قد تخرج من أفواهنا نتف من أنصاف الكلمات انا وسعدون، لكن آمر الفصيل خرس لسانه، لم يعد يطيق الكلام، فقط عينان مسمرتان أشبه بعيون الموتى، عرفت الآن بان الخوف يخرس الإنسان، صرنا انا وسعدون نقلب الامور بشفاه مرتجفة وحلق جاف وريق ناشف!....
-   لنخرج ثم نرمي رشقات سريعة ونهرب!
-   لكننا ثلاثة وهم بالعشرات
-   بل نسلم انفسنا! 
-   لا الأفضل ان نبقى هنا..
-   سيرمون رمانة في الملجأ ثم يدخلون كعادتهم..
تفتش نظراتنا في الملجأ علنا نستعين بشيء، هل نحفر حفرة داخل الملجا (ونطم) انفسنا فيها؟! او نسحب بعض اكياس التراب من الحائط ليسقط علينا الملجأ، ونتخلص من لحظات الفزع والهلع هذه، جمد الدم في عروقي، انظر الى يدي، انها ليست يدي، اقرصها لاحس بها، وجسدي ليس جسدي، احسبه جسدا بلا روح، قد يكون جسدا لشخص آخر، وليس لي انا، في حالة الرعب لن تستطيع ان تشعر بشيء....
أحسست إحساسا غريبا بالهدوء والسكينة، أهي لحظات الاستسلام للموت لا اعرف، سرى في الجو صمتا غير معروف، ولم اعد اسمع صوت الرصاص، أهي حالة غيبوبة لست اعرف، استسلمت لما تأتي به الأمور، لا اعرف بوعي او بغيبوبة سمعت في اللحظة، صوت سلسلة حديدية، فصرخت!
-   لقد نجونا!!!...
فانتبه سعدون مروعا ومنصعقا! 
-   لك.... خ..ر .بعر!.... تخبّل ابراهيم!
فعلا كان صراخا مجنونا، ولكن كان لجنوني مبرراته، بعد ان دار داينمو الاحتمالات في راسي منطقيا متسارعا، فعرفت في اللحظة بأنه صوت ارتطام السلسلة الحديدية (التي يقاد بها البغل) بالجليكان المحمول على ظهره، فانا لا اخطيء الأصوات التي عشت معها سنوات بلحظاتها، انها الموسيقى التي أنام وأصحو عليها، وهذه الحركة لا تحصل الا حين تضع الجليكان على ظهر البغل لتجلب الماء من العين، وهذه العادة لا تتوفر عند جنود العدو مطلقا، بل عند جنودنا، فالعدو تصله الأرزاق والماء الى حضنه بالسيارة او التراكتور او الدراجات البخارية، او تكون القناني المعبئة بالشربت معلقة في خصره أثناء الهجوم، هذا يعني ان سرية من المغاوير قامت بهجوم معاكس ناجح لاسترجاع السرية المحتلة، كالعادة في كل مرة يحتل العدو مكانا متقدما، هكذا هو تسلسل منطق الأمور... قلت لسعدون وما زال ينظر الي نظرات شك...
-   لم نعد نسمع صوت الرصاص!
-   صحيح!
-   المغاوير احتلوا المكان، اول شيء يعمله المغاوير، هو جلب الماء من العين التي في الأسفل  لعطشهم وتعبهم في طريق الصعود والهجوم...
-   فعلا
-   انه صوت سلسلة لجام البغل تضرب جليكانات الماء الفارغة!
فاحتضنني بفرح لا يوصف!
-   ظننت انك جننت بحق!
-   لنخرج اليهم
-   سيرموننا
وهنا فتحت أسار آمر الفصيل بالكلام
-   شنو؟!!
فتحت باب الملجأ وخرجت منحنيا في الشق، كل شيء هادئ، نزعت الخوذة ووضعتها فوق البندقية ورفعتها الى الأعلى، فجاءت صلية فوق رؤوسنا، تحقق ظني! كل ظنهم اننا من بقايا جنود العدو مختبئين، فصرنا نصرخ فيهم....
-   لك عراقيين!!!! لا ترمون!!!....
وجاءنا الصوت
-   لياتي أحدا منكم بلا سلاح!
تداولنا في الامر، فليذهب آمر الفصيل! وخرج كآلة تحركها أسلاك عن بعد!...
ومن بعيد رأينا آمر الفصيل يقترب اليهم ويرفع يديه الى الأعلى، ويرفع الرجل اليمنى ويستند على اليسرى، تقدم احدهم اليه يفتش جيوبه بعد ان تأكدوا بأنه ضابط عراقي، اخذوا ينادوننا... ليستقبلوننا بالشاي والبيض المقلي....
-   آآآآآآه!!!!!.... الحمد لله!!!!!
وصدق كولن ولسون حين قال (اذا كانت كل المؤشرات تشير الى الموت المحقق، فستبقى هناك ضربة الحظ في النهاية)...



..............................