الكنيسة الكلدانية والبطريرك والفاتيكان
أبرم شبيرا توطئة:بمجرد أعلان قداسة مار عمانوئيل دلي الثاني إستقالته من كرسي بطريركية الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، أمتلئت مواقعنا الألكترونية بعشرات المقالات والبحوث من قبل خيرة مثقفينا وكتابنا الكلدان معبيرين عن عمق وسعة إهتمامهم بهذا الحدث والحدث الذي سيليه في إنعقاد المجمع السينودي للكنيسة في نهاية هذا الشهر (كانون الثاني 2013) في الفاتيكان لإنتخاب بطريرك جديد للكنيسة والتي ظهرت بأنها كتبت من دون دراية تاريخية عميقة بطبيعة الكنيسة الكلدانية ككنيسة كاثوليكية، والأهم ككنيسة غير دولتيه – أي ليست كنيسة أو مذهب أو معتقد لدولة معينة رغم كاثولوكيتها كما هو الحال للكثير من الكنائس القومية الكاثوليكية لبعض دول العالم. وقبل الغوص أكثر عمقاً في هذا الموضوع الحساس فأنه من الضروري التأكيد بأننا نحن وغيرنا من القوميين الذين يؤمنون بوحدة أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية بأن لكنيستنا المشرقية وبجميع فروعها كان لها ولا يزال الفضل الأول والمطلق في ضمان وحماية مقوماتنا القومية والتراثية. فبغنى عن الجوانب الإيمانية والمعتقدات والطقوس الروحية لكل فرع من فروع كنيسة المشرق والتي نجل لها إجلالاً كبيرا فأنها كانت وعبر قرون طويلة المؤسسة الرئيسية لمجتمعنا والتي من خلالها كانت تعبر الهوية القومية لشعبنا ويشع منها مقومات وجودنا القومي والتاريخي من لغة وتاريخ وتقاليد. فلا أحد في هذا العالم يستطيع أن يبرهن بأن وضع أمتنا الكلدانية السريانية الآشورية كان من الممكن أن يكون أحسن من الوضع الحالي بدون كنيسة المشرق. ففي القرون الماضية وحتى إلى وقت قريب لم تكن هويتنا القومية معروفة إلا من خلال هوية الكنيسة، خاصة في مرحلة غياب المؤسسة الرئيسية للمجمتع وأقصد الكيان القومي وتحديداً الدولة أو مؤسسات وأحزاب قومية قادرة على حمل صفات المؤسسة القومية الرئيسية ولها مقومات التعبير عن الهوية القومية من لغة وتاريخ وتقاليد وأماني مشتركة. هذا هو إيماننا كلعمانيين نحترم جلً إحترام جميع فروع كنيستنا المشرقية ورجالاتها الأجلاء ومن هذا المنطلق ومن حرسنا الشديد في أن تكون جميع فروع كنيستنا المشرقية بما فيها الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في أحسن أحوالها وأكثرها تقدماً يأتي كتابة هذا الموضوع.
الكنيسة الكلدانية والفاتيكان: بخصوص موضوعنا هذا عن الكنيسة المشرقية الكلدانية الكاثوليكية، فكما ذكرنا في أعلاه بأنها كغيرها من فروع كنيسة المشرق، فهي كنيسة لا دولتية فهذه الصفة اللادولتيه للكنيسة تجعلها فاقدة للدعم السياسي والإقتصادي وبالتالي تكون عرضة للتأثيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المحيطة بها. ولما كانت الكنيسة الكلدانية في إتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية في روما فأن تأثير الفاتيكان على مثل هذه الكنيسة يكون على الدوام تاثيراً عميقاً ومؤثراً في طبيعتها ومسيرتها، إن لم يكن هذا التأثير في مسألة المعتقد والإيمان والتراث فأنه بالتأكيد هو تأثير في المسألة التنظيمية والإدارية للكنيسة وضمان بقاءها في إتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية وخضوعها لقوانينها، وهو الذي يهمنها هنا كعلمانيين، ومنها إنتخاب أو إختيار البطريرك وغيره من المطارنة والأساقفة و كذلك المسألة الحساسة والتاريخية للكنيسة وهي سلطة البطريرك على أتباعه خارج بلاد مابين النهرين (العراق حاليا). هذا الموضوع ينبع أساسه التاريخي من مسألة ملبار- جنوب الهند ومن المجمع الفاتيكاني الأول (1869 – 1870) والذي بموجبه تقرر نزع سلطات البطريرك الكلداني على أتباعه في الهند بعد سلسلة مأساوية من الإضطهادات التي تعرض لها رجال الدين الكلدان من قبل الكنيسة اللاتينية وفرض معتقدها وأساليبها وبالقوة على أتباع الكنيسة الكلدانية من دون أي وازع إخلاقي أو ديني فكان التعذيب والقتل لرجال الكنيسة الكلدانية المبعوثين إلى الهند من أساليب كنيسة اللاتين في القضاء على الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في الهند وكان القتل حينذاك قد طال حتى مار يوسف شقيق مار يوحنان سولاقا، وبالتالي إنتهاء وجود الكنيسة الكلدانية من الهند. ضمن هذه الظروف العصيبة لم يكن أمام مثلث الرحمات مار يوسف أودو (1798 – 1878)، الذي عرف بمواقفه الشجاعة في الدفاع عن كنيسته الكلدانيه وإستقلاليتها والحق الشرعي للبطريرك في إشرافه وإدارته لجميع أبرشيات الكنيسة الكلدانية خارج بلاد مابين النهرين، إلا الخضوع لقرارات المجمع بعد التوبيخ والزجر الذي تلقاه من البابا بيوس التاسع الذي جرده من سلطته على أتباع كنيسته في الهند، وهي المسألة التي ترتبت عليها نتائج ممثالة في السنوات التي خلت المجمع الفاتيكاني الأول وأنسحب جوانب منه إلى يومنا هذا بحيث وأن بقيت الأبرشيات الكلدانية خارج بلاد ما بين النهرين تابعة للطقس الكلداني إلا أن الأمور الإدارية والتنظيمة بقيت تحت تأثير مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان خاصة في مسألة إنتخاب البطريرك والموافقة على إختيار المطارنة لإبرشيات الكلدان في الخارج. وهنا أتذكر عندما شغر كرسي المطرانية للكنيسة الكلدانية في لبنان عقب إنتخاب مثلث الرحمات مار روفائيل الأول بيداويد بطريركاً على الكنيسة وأنتقل إلى بغداد عام 1989، بقى كرسي مطرانية لبنان فارغا لسنوات إلى حين تم رسامة الأب الفاضل جبرائيل كساب راعي كنيسة القلب الأقدس في منطقة تل محمد في بغداد مطراناً وإختياره لكرسي مطرانية الكلدان في بيروت غير أن الفاتيكان رفض هذا الإختيار، ويقال بأنه كان بسبب الشكوى التي قدمها أبناء رعية الكنيسة الكلدانية في لبنان ضد هذا الإختيار ربما لكونه غير لبنانيا. ثم عين مطراناً للبصرة ومنها لإستراليا. أما كرسي مطرانية لبناب فبقى شاغراً فترة طويلة إلى أن عين المطران ميشال قصارجي عام 2001 مطراناً للبنان وهو لبناني المولد والمنشأ.
ومن الجدير بالذكر بأن البقية الباقية من أتباع الكنيسة الكلدانية في الهند الذين بقوا معتزين ومتمسكين بطقوس كنيستهم المشرقية الكلدانية ولم يقبلوا بفرض الكنيسة اللاتينية وطقوسها عليهم فما كان منهم إلا أن ينتموا إلى بقية الفروع الشقيقة لكنيسة المشرق. واليوم في الهند رغم كون الكنيسة التي يرعاها نيافة المطروبوليت مار أبرم موكن وتابعة لكنيسة المشرق الآشورية وبطريركها قداسة مار دنخا الرابع لكن الكنيسة هناك لها تسمية "الكنيسة الكلدانية السريانية" والتي مؤمنيها أيضاً من البقية الباقية من الكنيسة الكلدانية وأيضا الكنيسة الجاثيليقية القديمة التي كانت تعتمد التقوم اليوليالي. ومن المعروف عن نيافة المطروبوليت مار أبرم روحه المرحة وأسلوبه الفكاهي، فقبل أكثر من سنة سألته شخصياُ: "ياسيدنا المطران كيف تمكنت من توحيد جميع مؤمني فروع كنيسة المشرق في كنيسة واحده"؟؟ فقال "لأنه ليس لدينا تيارايه ولا جلوايه ولا نوجيايه ولا ألقوشنايه ولا تلكبنايه ولا عنكاوايه... فكلنا هندوايه".!!
إنتخاب بطريرك الكلدان: أستقر المقام بالكنيسة الكلدانية في منتصف القرن التاسع عشر وتحدد المعالم الرئيسية للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية واستقرت أمورها القانونية والرسمية وتحديداً في شهر كانون أول من عام 1847 عندما ثبت الفاتيكان مار يوسف أودو بطريركاً على الكنيسة وأطلق عليه ولأول مرة أسم بطريرك الكلدان في بابل، بعد أن كان يطلق عليه بطريرك النساطرة في آشور أو في الموصل، وبفعل التأثير الفرنسي اعترفت السلطات العثمانية بها وشملتها بنظامها المعروف بـ "نظام ميليت" الذي كان ينظم العلاقة بين المسلمين الحاكمين والمسيحيين الخاضعين. فقبل هذا التاريخ لعب الفاتيكان وفرنسا دوراً رئيسياً وفاعلاً في شؤون كنيسة المشرق وفي إختبار بطريرك الكنيسة ولجأت إلى أساليب غير مقبولة، خاصة من قبل الهيئة الفاتيكانية المعروفة بـ "البروبوكندا" فكانت تنصب البطاركة الأكثر خضوعاً لها وتبعد الذين يصرون على إستقلالية الكنيسة بحيث وصل الأمر في وقت ما إلى "تريوجي" المبعوث البابوي أن يطمع في كرسي البطريركية الكلدانية في بلاد ما بين النهرين. غير أنه من الملاحظ بأنه بعد إستقرار أمور الكنيسة الكلدانية، خاصة بعد أن وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها وتأسست دولة العراق أنتظمت مسألة إنتخاب البطريرك وبشكل سلسل ومن دون تأثير مؤثر وقوي من الفاتيكان والقوى السياسية الفاعلة والتي كانت تتمثل في السابق في فرنسا. وبالرغم من عدم توفر المعلومات بشكل كافي عن الظروف التي تم إنتخاب البطاركة في دولة العراق خاصة في الترشيح والمنافسة والتصويت إلا إن ماهو معلوم لدينا بأن مار يوسف غنيمة (1947- 1958) تولى كرسي البطريركية من بعد البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني توما (1900 – 1947) ومن ثم جاء البطريرك مار بولس الثاني شيخو (1958 – 1989) المعروف بشجاعته وتصديه للسياسات الإستبدادية لحزب البعث العراقي تجاه المسيحيين بشكل عام وتجاه كنيسته بشكل خاص، ويقال بأن قداسته رفع العصا (العكازة) في وجه طارق عزيز مهدداً أياه بضرورة وقف تدريس القرآن للطلاب المسيحيين في المدراس. وكان لي الشرف الكبير والإمتياز العظيم في أن يتكلل زواجي على يده المباركه في بغداد عام 1981. وبعد إنتقاله إلى جوار ربه تسنم كرسي البطريركية الكلدانية قداسة مار روفائيل بيداويد الأول (1989 2003) وفي عهده تكرر لي الشرف الكبير والإمتياز العظيم عندما تناولت القربان المقدس على يده المباركة في أول قداس أقامه في دير الراهبات في الزعفرانية في بغداد بعد تسنمه كرسي البطريركية.
فكل هذه السلسلة البطريركية تمت بسلالة وتقريباً بإتفاق الجميع ومباركة الفاتيكان. غير أنه من الضروري الإشارة ولو ببضعة سطور عن مرحلة وظروف تولي قداسة مار روفائيل كرسي البطريركية، فهو الأول من بين السلسلة البطريركية المذكورة أعلاه يأتي من أبرشية خارج العراق حيث كان مطراناً لأبرشية لبنان. كما أنه جاء قداسته في ظروف تعتبر أقسى ظروف مر بها العراق خاصة بعد حرب دام ثمانية سنوات (1980 – 1988) وإجتياح الكويت عام 1990 من قبل النظام البعثي في العراق وقسوة المقاطعة الإقتصادية وتأثيرها العميق على جميع العراقيين. فمثل هذه الظروف الموضوعية لا يمكن إطلاقاً تجاهلها في إنتخاب قداسته بطريركاً على الكنيسة الكلدانية ولا يمكن أن تكون مجهولة للفاتيكان. فكون قداسته من خارج أبرشيات العراق فهذا سيجعله أكثر حصانة من التأثيرات السياسية للنظام العراقي إضافة إلى ذلك فأنه جاء من خارج نطاق الخلافات القريوية التي كانت تظهر بين حين وآخر في مسألة إختيار أو إنتخاب كهنة الكنيسة. والأهم من هذا وذاك هو أن في عهده فتح باب الحوار بين كنيسة المشرق الأشورية والفاتيكان. فبعد صدور البيان المسيحاني الذي وقع في الفاتيكان عام 1994 بين قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وقداسة مار دنخا الرابع بطريرك كنيسة المشرق الآشورية والذي بموجبه أعتبر كنيسة المشرق الآشورية كنيسة رسولية وأزيل سوء الفهم عنها بإعتبارها هرطقية، بدأت سلسلة من المباحثات واللقاءات بين البطريركين الكلداني والآشوري وشكلت لجان مختلفة لتوحيد الطقس والأسرار الكنسية وأقيمت قداديس مشتركة كلها بهدف تحقيق الوحدة بين الكنيستين. ففي هذه الفترة وصل الوعي القومي عند أبناء أمتنا إلى أوج قمته بحيث بالغ البعض خاصة القومانيون الآشوريون منهم في تمجيد وتعظيم قداسة مار روفائيل عندما فهموا أو فسروا بعض الكلمات والخطب التي ألقاها قداسته في الإجتماعات المشتركة بشكل تتماشى مع تطلعاتهم الرومانسية والوردية، ولكن من المؤسف له أن يتبين بأن وعي ومواقف هؤلاء القومانيون تجاه قداسته كانت جوفاء أن لم تكن نفاق ورياء، فعندما كان قداسته مريضاً وطريح فراش الموت في مستشفى في بيروت لم يزوره أي واحد من هؤلاء لا بل عندما أنتقل إلى جوار ربه في تموز عام 2003 لم يحضر أيضا ولا واحد من هؤلاء مراسيم جنازته التي أقيمت في كنيسة مار روفائيل الكلدانية في الحازمية في بيروت فمن بين المئات الذين حضروا المراسيم من بطاركة ومطارنة الكنائس الأخرى وجمع كبير جداً من العلمانيين كان لي الشرف أن أسافر من لندن وأن أحضر مراسيم جنازتة كبادرة تقدير وتبجيل صغيرة جداً لهذه الشخصية الكبيرة جداً في كنيستنا وأمتنا، ولا يسعني هنا إلا أن أشيد أيضاً بحضور كل من آشور كوركيس من لبنان (كاتب آشوري) وشكري مراد من لبنان (رئيس الجمعية الثقافية الآشورية في بيروت) وعمانوئيل خوشابا (ممثل الحركة الديمقراطية الآشورية في سوريا ولبنان). ومن المضحك والمبكي في آن واحد أن يستمر البعض من هؤلاء القومانيون بالتبجح بالنجمة الآشورية التي تعتلي كنيسة مار روفائيل في الحازمية في بيروت التي بناها مثلث الرحمات مار روفائيل الأول بيداويد والتي كانت مثواه الآخير.
البطريرك مار عمانوئيل دلي الثالث:الحق يقال ومن دون أي مجاملة أو تحيز بأن المرحلة التي تسنم فيها قداسة مار عمانوئيل كرسي البطريركية تعتبر من أصعب المراحل وأقسى الظروف التي كانت تمر بها الكنيسة الكلدانية منذ نهاية الحرب الكونية الأولى والتي لاتزال قائمة تنحر بأبناء أمتنا بكل طوائفها وتقتل فيهم تقتيلاً خاصة رجال الكنيسة وحتى قداسته لم ينجوا منها حيث أصيب بجروح من جراء تطاير زجاج بفعل عمل إرهابي، وهي مرحلة مؤلمة معايشة لايستوجبها التفصيل. "من يشتهي كرسي البطريرك؟؟" هكذا قال أحد عظماء كنيستنا المشرقية في القرون الماضية عندما كانت النية متجه نحوه لتولي كرسي البطريركية في الوقت الذي كان المغول يفتك بأبناء الكنيسة فتكاً وحشياً.. وفعلاً من يشتهي كرسي البطريركية الكلدانية في ظروف العراق بعد أن عاد المغول مرة أخرى إبتداءاً من عام 2003 ويتولى مسؤولية الكنيسة في السنوات المظلمة إن لم يكن ملء القلب بالإيمان الخالص في خدمة الكنيسة وكلمة الرب، هكذا قبل قداسة مار عمانوئيل دلي قرار الفاتيكان في تولي كرسي البطريركية عقب إنتقال مار روفائيل إلى جوار ربه.
هذه المرحلة التي عايشناها جميعاً تميزت عن سابقتها في مسألة إنتخابات بطريرك الكنيسة الكلدانية ليس بسبب الظروف مأساوية المحيطة بها فحسب بل لأول مرة نشهد إنتخابات حرة وتنافس على تولي كرسي البطريركية. فعندما أنعقد المجمع السينودي الكلداني في بغداد للفترة من 19/آب لغاية 2/أيلول/2003 لغرض إنتخاب بطريرك للكنيسة ترشح كل من نيافة المطران مار سرهد يوسف جمو راعي أبرشية كاليفورنيا وغرب الولايات المتحدة الأمريكية ونيافة مار أنطوان أودو راعي أبرشية حلب في سوريا وخلال مرحلتين من التصويت لم ينل أي منهما الأصوات المطلوبة قانوناً ليصبح بطريركاً للكنيسة الكلدانية ففي هذه الحالة كان يستوجب أن يرفع الأمر إلى الفاتيكان وحسب قوانين الكنيسة بهذا الشأن. ففي المجمع السينودي في روما المنعقد بتاريخ 3/12/2003 تم إختيار قداسة مار عمانوئيل دلي بطريركاً للكنيسة الكلدانية وهو لم يكن من بين المرشحين للكرسي بل كان متقاعداً عن الخدمة وراكناً في الكنيسة المعروفة بـ "البترية" في منطقة السنك في بغداد والتي كانت مقراً للبطريرك الكلداني. ولكن هناك أخبار تبين بأن قداسة مار عمانوئيل كان ينوي الترشيح لكرسي البطريركية عام 1989 بعد إنتقال مار بولص شيخو إلى جوار ربه لكنه تنازل لصالح مار روفائيل فما كانت من إرادة الرب إلا أن تعيد له هذه المسؤولية في عام 2003 بعد أن جاوز العمر به أكثر من خمسة وسبعون عاماً وتكللت رئاسته للكنيسة بلقب الكاردينال منحه البابا بينيكت السادس عشر في عام 2007 ليكون بذلك أول بطريرك للكلدان يمنح هذا اللقب والثاني من العراق بعد الكردينال جبرائيل تبوني بطريرك الكنيسة السريانية الكاثوليكية.
الملاحظات التي يستوجب ذكرها هنا هي: أولا: أنها المرة الأولى التي يشهد جيلنا وجيل عهد دولة العراق تنافس على كرسي البطريرك ويظهر من حيثيات جلسات المجمع السينودي في بغداد لعام 2003 بأن التنافس كان حامياً بين المطرانين الجليلين مار سرهد ومار أنطوان لذلك أستوجب الأمر أن يجري التصويت في المرحلة الثانية بسبب عدم حصول أي منهما على الأصوات المطلوبة وحتى في هذه المرحلة لم يحسم الأمر ولم يتم التنازل أي واحد منهما لصالح الآخر فأستوجب الأمر اللجوء إلى الفاتيكان لحسم الموضوع.
ثانياً: إن كلا المطرانين الجليلين كانا من أبرشيات خارج العراق وعاشا في ظروف غير ظروف العراق المأساوية لا بل فالمطران أنطوان أودو كان من مواليد سوريا وتربى وعاش فيها فمن الطبيعي أن يكون غير ملماً بشؤون أبناء الكنيسة الكلدانية في العراق مثلما يكون غيره من أبرشيات العراق، خاصة وهو بعيد بعض الشئ عن الطقس الكلداني لكونه راهباً يسوعياً. ولا أدري فيما إذا كنت مخطئاً أو صائباً في القول بأن النزعة القريوية لعبت دورها في التنافس الحامي بين المطارنين الجليلين وأنتهت بدون نتيجة حاسمة حتى تدخل الفاتيكان.
ثالثاً: أن سبب إختيار أو موافقة الفاتيكان لقداسة مار عمانوئيل بطريرك للكنيسة الكلدانية في المجمع السينودي في روما في 3/12/ 2003 يبقى لغزاً غير معلناً لحد هذا اليوم. صحيح أن إيمانه القوي ورغبته العميقة في خدمة كنيسته الكاثوليكية كانت بلا حدود لهذا كان من الصعب إن لم يكن مستحيلاً رفضه لقرار الفاتيكان في إختياره بطريركاً للكنيسة غير أن عمره المديد وضعف بنيته الجسمانية والأرهاق من جراء خدمته الطويلة للكنيسة وركون قداسته إلى حالة التقاعد لبلوغه السن القانوني كانت يجب من جهة أخرى أن تكون سبباً في عدم تحميل قداسته مسؤولية أكثر مما يستطيع تحمله خاصة ضمن الظروف الإستثنائية المأساوية التي كانت تحيط بالكنيسة في العراق والتي كانت تتطلبها جهود إستثنانية قادرة على تحمل مخاطر الأوضاع السائدة في العراق. هذا الوضع غير الطبيعي في إختيار قداسته لكرسي البطريركية تبين عدم صوابه من خلال سنوات خدمته وحتى إعلان إستقالته من كرسي البطريركية في 19/12/2012 وموافقة البابا عليها. فخلال هذه السنوات العشرة كانت الكنيسة قد دخلت في مرحلة دب فيها عدم الإنتظام وضعف الإدارة والتوجه والسيطرة على الإبرشيات خاصة خارج العراق فكانت كل هذه الظروف مضافاً إلى الوضع المأساوي للعراق وتصاعد وتيرة هجرة أبناء الكنيسة إلى الخارج وضياع بعضهم في متاهات غير معروفة النتائج كانت ظروف ماحقة أكثر مما يستطيع قداسته تحملها وإدارتها بالشكل الذي يخدم الكنيسة ويعزز ثباتها كما كانت معروفة في عهد البطارك الذين سبقوه.
رابعاً: يعتبر قداسة مار عمانوئيل أكثر أن لم يكن الوحيد من بين بطاركة الكلدان في مرحلة دولة العراق الذي تعرض إلى إنتقادات سواء من قبل رجال الكنيسة أو العلمانيين وإن كان بعض هذه الإنتقادات في غير محلها ولا تقوم على أسس صحيحة إلا أن في معظمها كانت تعبر عن إهتمامها البالغ بأوضاع الكنيسة غير المرضية وخشيتها من تدهورها نحو الأسوء والبطريرك عاجز عن تصحيح أوضاعها. كما يعتبر قداسته البطريرك الوحيد الذي يستقيل من كرسي البطريركة ويتركه للمجمع السينودي ليختار البطريرك المناسب لهذه الظروف في الوقت الذي جميع البطاركة الذين سبقوه كان إنتقالهم إلى جوار ربهم سبب في تركهم لكرسي البطريركية. ومن الجدير بالذكر بأن رغم كثرة هذه الإنتقادات التي وجهت إلى إدارة قداسته للكنيسة والتي بعضها دعته إلى الإستقالة فإن قداسته لم يستجب لهذه الدعوات إلا عندما تزامنت مع زيارة رئيس مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان الكردينال ليوناردو ساندري إلى بغداد وإجتماعه مع قداسته وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن قداسته جلس على كرسي البطريركية بقرار من الفاتيكان وترك هذا الكرسي بقرار من الفاتيكان أيضاً، وهي مسألة طبيعية عندما نفهم تدخل الفاتيكان في شؤون كنيسة وهي في إتحاد معها ربما تعتبر إلى جانب الكنيسة السريانية الكاثوليكية أصغر كنيسة كاثوليكية في العالم، وهي لاتملك قوة قادرة على التعامل مع الظروف المأساوية التي مرت بها خاصة في وقت تسنم قداسته لكرسي البطريركية ففي مثل هذه الظروف يصبح واجباً مفروضاً على الفاتيكان للتدخل لحماية الكنيسة وضمان مسيرتها كأحدى الكنائس الكاثوليكية العريقة المتحدة معها.
خامساً: إستثناء آخر ظهر بشكل ملحوظ ومؤثر في مرحلة تولي قداسة مار عمانوئيل كرسي البطريركية، وهو تأسيس عدد من الأحزاب السياسية الكلدانية ومنظمات قومية وثقافية سواء في العراق أو في بلدان المهجر عملت على إظهار المقومات الكلدانية خارج إطار الكنيسة ونزلت إلى الساحة السياسية داعية إلى ضمان حقوق الكلدان القومية ومما زاد من إحراج الكنيسة هو تدخل بعض رجال الكنيسة في المسائل السياسية سواء بدعم هذه الأحزاب والمنظمات أو المشاركة في إجتماعاتها أو مباركتها والتي هي مسألة جديدة بالنسبة للكنيسة الكلدانية التي بقت طيلة قرون عديدة بعيدة عن السياسة وتمتنع من التدخل فيها أو المطالبة بالحقوق القومية الخاصة بالكلدان، وهو موضوع سبق وأن كتبنا عنه بشكل مفصل ومطول ونأمل أن نختصره وننشره في الفترة القادمة. ثم جاءت التسمية المركبة (الكلدان السريان الآشوريين) لتجعل أمر الكنيسة ورجالها محيراً تجاهها بين مؤيد ومعارض لهذه التسمية كما جعلت فكرة التسمية المركبة من بعض الأحزاب والمنظمات الكلدانية أن تؤمن بها وتدخل في تحالفات مع الأحزاب الآشورية المعروفة على الساحة السياسية. كل هذا الوضع أظهر كأن هناك تنازع على السلطة والزعامة على الكلدان في العراق وخارجه وهو أمر لم تعهده الكنيسة الكلدانية في السابقة فكان أمر التعامل معها مربكاً ومحيراً لقداسة مار عمانوئيل أستوجبته في بعض الأحيان التدخل لصالح هذه الفئة أو تلك وفي كثير من الأحيان كان تدخله في مسألة معينة من هذا النوع موضوع إنتقاد له ولمواقفه التي أعلنها أو التي لم يصرح بها شيئاً.
من كل ما تقدم، نؤكد مايلي:1 – الكنيسة الكدانية الكاثوليكية كنيسة "بيت نهرينية" بكل ما تعينه هذه الصفة تاريخياً وحضارياً وجغرافياً وديموغرافياً نشأت في بلاد مابين النهرين وأستمدت مقوماتها "غير الروحية" من حضارة هذا البلاد، من لغة وعادات وتقاليد، أي بعبارة أخرى إن مكان وجودها ومقر كرسي بطريركها هو في هذا البلد، أي العراق، ولايمكن أن يكون غيره وبالتالي فإعتقاد البعض بأن كثر أبناء الرعية في بلدان المهجر وبلوغ أعدادهم أكثر من الموجودين في المهجر، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية قد يتطلب الأمر نقل كرسي البطريرك إلى الخارج وهذا محال حتى ولو بقى عدد قليل من أبناء رعية الكنيسة في العراق لأن وجود الكنيسة هو مرتبط بوجود العراق ولا يمكن أن يكون مثل هذا الإرتباط ببلد آخر. وبهذه الصفة البيت نهرينية للكنيسة نقول صحيح بأنه كان من المفترض أن ينعقد المجمع السينودي القادم في العراق لإنتخاب البطريرك الجديد ولكن مثل هذه الأمنية معدومة تماماً في الوضع المأساوي الحالي للعراق وحتى في شماله طالما هناك تجاذبات سياسية لا تتحملها الكنيسة ولا في الدول المجاورة التي تلتهب بنيران "الربيع العربي" فكان قرار إنعقاد المجمع السينودي في روما قراراً صائباً رغم كونه موضعاً لتأثير الفاتيكان على قرارات المجمع ولكن من المؤمل أن يكون هذا التأثير صائبا في إنتخاب البطريرك الجديد وبالتالي في تعزيز وضع الكنيسة في العراق وتقويته.
2 – الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية هي كنيسة كاثوليكية من بين الكنائس المشرقية "البطريركية" أي التي لها إستقلال فيما يخص طقسها وتقاليدها المستمدة من حضارة بيت نهرين ولكن كما سبق وأن ذكرنا بأنها كنيسة لا دولتية، أي ليست معتقد أو كنيسة رسمية لدولة معينة تخص رعيتها، وبعبارة أخرى أنها كنيسة تفتقر إلى المقومات السياسية التي هي ضرورية لحماية الكنيسة من المخاطر الخارجية التي تهددها لهذا من الطبيعي أن يتدخل الفاتيكان لحمايتها من هذه المخاطر التي تهدد وجود الكنيسة.
3 – الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية كنيسة لها قوانينها ونظمها الخاصة بها في تنظيم أمور الكنيسة ومنها إنتخاب البطريرك ولكن لكونها في إتحاد مع الفاتيكان فإنها بالنتيجة ستكون محكومة بقوانين وتشريعات الفاتيكان وقرارات المجامع المسكونية ومثل هذا الأمر قد يجعل تأثير الكنيسة بطقس وتقاليد الكنيسة اللاتينية أمراً طبيعياً ومن المؤكد بأن بزيادة هذا التأثير سيؤدي إلى إزاحة بعض التقاليد الطقسية والحضارية للكنيسة الكلدانية وإحلال اللاتينية محلها ولكن بفضل بعض المطارنة الأفاضل تمكنوا السنوات القليلة الماضية من الرجوع إلى الأصالة المشرقية البيت نهرينية للكنيسة الكلدانية سواء في طقسها أو تراثها ونأمل في المرحلة القادمة أن يزداد هذا التوجه.
4 - ولما كانت الكنيسة الكلدانية في إتحاد مع الفاتيكان ومحكومة بجملة قوانين وأنظمة وتشريعات فإن مسألة إنتخاب البطريرك وتدبير أمور الكنيسة المختلفة هي من شأن وصلاحيات أكليريتها وتحديداً المطارنة والأساقفة المجتمعين في المجمع السينودي ولا دخل للعلمانيين فيها، وأن دعوة البعض إلى أعطاء دور للعلمانيين في إنتخاب البطريرك غير واردة إطلاقاً حسب هذه القوانين والتشريعات وأن مقارنة ذلك بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر عند إنتخاب البابا الجديد للكنيسة ومشاركة العلمانيين في هذا الإنتخاب وبأعداد كبيرة أمر خاطئ لا تصح المقارنة لأن هذه الكنيسة هي مستقلة في قراراتها وقوانينها التي تفسح المجال للعلمانيين للمشاركة في إنتخاب البابا للكنيسة في حين قوانين وتشريعات الكنيسة الكلدانية ومنها كنيسة روما لا تعطي أي مجال للعلمانيين للمشاركة في إنتخاب البطريرك. ولكن مع هذا، كما يقال الزمن يتغير، فإن هناك أعداد كبيرة من أبناء رعية الكنيسة الكلدانية لهم مؤهلات وقدرات كبيرة يمكن أن يشاركوا وبشكل غير مباشر في إنتخابات البطريرك سواء كمشتشاريين أو أعضاء مراقبين في إجتماعات المجمع الكنيسي لإنتخاب البطريرك.
5 – الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية كنيسة ليس بمعناها الروحي واللاهوتي فقط، بل هي من جانب آخر، والذي يهمنا كثيراً، هي مؤسسة تاريخية وحضارية وثقافية كانت لقرون طويلة الإطار الذي من خلاله كان يعبر رعيتها عن هويتهم القومية والحضارية، فهي كانت ويجب أن تكون الطوق الحامي لهذه المقومات. فالكنيسة بمعناها اللفظي والتي تعني "المجتمع" يجب أن تكون كذلك وأن تلتصق بأبناء هذا المجتمع ليس بجوانبه الروحية فقط، بل بكل جوانبه الثقافية والإجتماعية وحتى السياسية أن تطلب الأمر وإلا فالكنيسة لا يكون لها معنى "كلداني" إذا فقدت مقوماتها الحضارية من لغة وتقاليد وتاريخ وهو أمر مهم جداً وحاسم في هذه الأيام التي يتعرض فيها أبناء الكنيسة إلى العواصف وتقلعهم من أساسهم الذي هو مصدر وجود وبقاء الكنيسة. لهذا السبب لا يمكن أن نحصر الكنيسة في مجالها الروحي فقط وندعو رجالها إلى الإبتعاد وعدم التدخل في المعاناة التي يعانيها أبناؤها من الظلم والقهر وسلب الذات والقتل على الهوية.
6 – الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، رغم كاثوليكيتها فهي كنيسة شقيقة مع الكنائس المشرقية الأخرى وتحديداً كنيسة المشرق الآشورية ليس في جانبها الروحي المسيحاني فقط بل القومي والحضاري والتاريخي والديموغرافي أيضا وهو المهم للجميع، كليريون وعلمانيون. فإذا كان الحلم المنشود لإبناء الكنيستين هو الوحدة في وحدة المسيح والذي بالحتم سيؤكد ويعزز الوحدة في اللغة والتاريخ والتراث لأبناء كلا الرعيتين أصبح بعيد المنال في هذه الأيام فأن التقارب والتأكيد ولو كلامياً في وحدة الأساس القومي والحضاري لهم أمر مهم ومطلوب من الكنيسة الكلدانية في عهد البطريرك الجديد، وهو أمر من المؤكد سيعزز مكانة الكنيسة أكثر فأكثر وسيتماشى مع تطلعات رعيتها ورعايا غيرها من الكنائس الشقيقة. بعض من أبناء أمتنا أنتقدوا كلمة قداسة مار دنخا الرابع بطريرك كنيسة المشرق الآشورية بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة في إرجاعه أصل جميع رعايا الكنائس الكلدانية والسريانية والآشورية إلى "الجنس الآشوري" ولكن... ولكن المهم عندي وعند غيري من المهتمين بشؤون وحدة هذه الأمة بغنى عن التسمية التي تفرقنا هو أمر وحدة الأساس القومي لرعايا الكنائس الثلاث الكلدانية والسريانية والآشورية والتي أكد عليها قداسته مراراً وتكراراً وهو الأمر الذي كان سيفرحنا كثيراً لو سمعناه أو قرأناه في كلمات بقية بطاركة فروع كنيسة المشرق ولكن من المؤسف أن تكون كلماتهم خالية من أية إشارة إلى وحدة أبناء أمتنا الموزعين على الكنائس الثلاث.
وأخيراً وتجنباً للإطالة في هذا الموضوع الذين يهم الجميع، نتضرع نحن العلمانيين "الخطايا" إلى ربنا يسوع المسيح أن يفرش محبته وحكمته على جميع مطارنتنا الإجلاء المجتمعين في المجمع السينودي في روما وأن تكلل رحمته على الفاتيكان ليكون سنداً قوياً لهم في إنتخاب بطريرك جديد للكنيسة الكلدانية ليكون باني مرحلة جديدة تكون فاتحة لأبواب المحبة والتفاهم بين جميع فروع كنيسة المشرق.
طوبى لفاعلي السلام فهم أبناء الله يدعون (متي: 5-9)