هل تعتبر نكبة سميل إبادة جماعية؟
الدكتور عوديشو ملكو آشيثا
لما كانت نكبة سميل السوداء على جبين التاريخ العراقي المعاصر, قد باتت على مقربة من توديع عقدها الثامن (1933 ـ 2013) بعد بضعة اشهر. وضحاياها وذويهم من ابنائهم واحفادهم ما زالوا يتحملون وزرها, دون أية إلتفاتة إنسانية او مبادرة وطنية صادقة من لدن القائمين على امر البلاد منذ ذلك التاريخ ولحد الساعة, كإصدار عفو عام عنهم او الاعتذار لهم مثلاً, مع ردّ الاعتبار إليهم من خلال إعادة جنسيتهم العراقية وحق المواطنة التام. وما الى ذلك من الامور التي تضمنها القوانين والشرائع الدولية والانسانية في مثل هذه الحالات.
لذلك بادرنا الى طرح هذا السؤال على الملأ (هل تعتبر نكبة سميل إبادة جماعية؟) للاستذكار بالنكبة وضحاياها, ومن ثم المساهمة الجادة في إعادة الحق الى اصحابه. مع ان مجزرة الآشوريين في العراق في صيف عام 1933 وما بعده, بدت صغيرة الحجم عند مقارنتها بما أعقبها من الكوارث والويلات بحق شرائح واسعة من الشعب العراقي في الجنوب والشمال "إلا أنها بظروفها وتفاصيلها ولأنها كانت الوحيدة من نوعها ولا يوجد لها معاصر ينافسها اعلامياً, فقد تفجرت انبائها وأثارت استنكاراً وضجة واشمئزازاً في ضمير الرأي العالمي" وبشكل واسع.
ومن بين الشخصيات الدولية الرسمية التي اقرت بها كمذبحة او إبادة جماعية (Genocide) للآشوريين, كان حاكم ولاية نيويورك جورج باتاكي "فهو قد يكون الشخصية الرسمية الاولى التي اقرت بالمذبحة الجماعية للآشوريين". وإنه لمن المفيد الذكر هنا بأن "الغرب يتحمل مسؤلية كبيرة, فبعد مذابح الحميدية وخلال الحرب العالمية الاولى لعب الالمان دور الحليف المسيحي للعثمانيين. وفي حقيقة الامر قاموا بتشجيع السلطات لإعلان الجهاد ضد المسيحيين حلفاء بريطانيا والذين صاروا اعداء الاتراك" في المحصلة السياسية آنذاك. ومن هنا توارث حكام بغداد النظرة ذاتها على الآشوريين المسيحيين الحليف البريطاني المفترض.
ومع ان مفهوم المذبحة الجماعية لم يكن قد تبلور بعد لدى عصبة الامم والاوساط الدولية والهيئات والمنظمات الاجتماعية والسياسية في العموم, يوم حصلت نكبة سميل. ولكن بالنظر لتأثر العديد من الكتاّب والباحثين في مجال حقوق الإنسان, بعد إطلاعهم على المأزق الآشوري وما ترتب عليه من إنتهاك لحرمة الانسان الاعزل. صار بعضهم يكافح لمعالجة الحالة لانها اصبحت اكثر من مألوفة, وقابلة للتكرار والتطبيق وفي اكثر من بلاد. بدءاً بتلك الإنتهاكات (المذابح) التي حدثت ايام الحرب العالمية الاولى وصولاً الى نكبة سميل. وكان ابرز الكتّاب نشاطاً في هذا المجال المحامي اليهودي البولوني الشاب رافائيل ليمكين الذي عمل بثقة وإيمان وضع إطاراً ودراسة مفصلة بشأن "المفاهيم القانونية لعمليات القتل الجماعي". بسبب تأثره الكبير بالمأساة الآشورية في العراق حيث ان ليمكين كان "بدأ العمل في الثلاثينيات القرن الماضي وبنشاط ملحوظ حول مسألة القتل الجماعي وبوحشية" في اعقاب المذبحة في سميل مباشرة.
ومن ثم ودون تأخير قدم رافائيل عشية إنتهاء نكبة الآشوريين, عريضة الى المجلس القانوني في عصبة الامم في ايلول 1933, وطلب في عريضته تلك, وجوب "تحريم القتل الجماعي وتدمير الحضارة واعتبارهما اعمال بربرية أو التخريب المتعمد".
وقد استند رافائيل ليمكين في طرحه لهذه القضية امام المجلس القانوني لعصبة الامم على حدثين كانا قد حصلا في تلك الفترة, يمثلان "الإبادة الجماعية قبل ان يستولى النازيون على السلطة (في المانيا) ويقومون بغزو بولونيا. الاول: كان المذابح العثمانية ضدّ الارمن خلال الحرب العالمية الاولى. والثاني: كان عندما تم القتل الوحشي للمسيحيين الآشوريين خلال الثلاثينيات القرن الماضي من قبل العراق المستقل حديثاً". وأصبح طلب ذلك المحامي الشاب لاحقاً "حجر اساسي لظهور إتفاقية منع ومعاقبة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية والتي صادقت عليها الامم المتحدة في 9/12/1948".
وكنتيجة لعمل البروفيسور ليمكين (لاحقاً) المستمر في مجال الدراسة وتحليل تاريخ المذابح الجماعية في العالم القديم والمعاصر. فقد استطاع في أواخر حياته, أن يجمع ويصنف اكثر من (15) مذبحة جماعية حصلت في كل من امريكا الشمالية والجنوبية وافريقيا واوربا والدولة العثمانية. وكان من بينها مذابح الارمن والآشوريين والاقباط والبلغار واليونان في عهد الدولة العثمانية. ومن قبلها كانت الحروب الصليبية, وبعدها مذبحة الآشوريين في سميل ومذابح الاقليات العرقية في الاتحاد السوفيتي...الخ. جاء كل ذلك في اوراق (مسودات) كتاب كان ليمكين ينوي تأليفه ونشره بعنوان (تأريخ الابادة الجماعية: History of Genocide) لكن القدر لم يمهله ليتمم ذلك العمل الإنساني الكبير.
بعدها اهتم بتلك المسودات التي تركها ليمكين, وقام بنشرها كل من (Dominik J.Schaller و Jurgen Timmerer). وبالنظر لقيمتها الكبيرة في مجال حقوق الانسان, تم اعتبار ليمكن "مكتشف ميثاق الإبادة الجماعية في الامم المتحدة", لانها (الامم المتحدة) إعتمدت لاحقاً وثيقة تحريم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها إستناداً الى النقاط التي قدمها ليمكين الى عصبة الامم, والتي تضّمنت بالتفصيل, الحالات والافعال التي يمكن (بل يجب إعتبارها) إبادة جماعية يعاقب عليها القانون, وهي كما يلي:
"1ـ قتل افراد مجموعة محددة.
2ـ تسبب في ضرر جسماني او عقلي لافراد من المجموعة المحددة.
3ـ توجيه ضربة متعمدة على مسببات الحياة للمجموعة والتي تؤدي الى تدمير هيكل المجموعة كلياً أو جزئياً.
4ـ فرض ضوابط يقصد بها منع الولادات داخل المجموعة.
5ـ النقل القسري لابناء المجموعة الى مجموعة اخرى".
كانت هذه من بين اهم النقاط او الممارسات التي (إذا) اعتمدها ونفذها شخص أو مجموعة أشخاص أو حكومة بحق الآخرين, تعتبر الإبادة الجماعية قد حصلت فعلاً. ويفترض أن يحاسب عليها منفذها بغض النظر عن الظروف والحيثيات والاسباب التي كانت وراء إقترافه جريمة تلك الإبادة الجماعية.
بالإستناد الى نقاط ليمكين اعلاه, وإتفاقية منع وتحريم الإبادة الجماعية المصدقة من قبل الامم المتحدة, وبالنظر لكونها ذات طابع وتأثير رجعي, وبناءً على ما حصل في سميل ومحيطها من القرى والاقضية والنواحي من حيث القتل الجماعي وعلى اساس العرق والهوية والدين. والإضرار صحياً ونفسياً وجسدياً بمنْ لم يقتل. والسلب والنهب وإحراق البيوت. والإتيان على المقومات الاساسية لقوام حياة إنسانية مقبولة. بالإضافة الى قتل الشباب وسبي الفتيات, والذي تسبب في إيقاف الزواج والإنجاب في المجتمع الآشوري بصورة ملحوظة. وآخرها كان التهجير المفبرك وتفتيت وحدة الشعب, وتشتيت كيان المجموعة.
وإمعاناً في مشروع محو وطمس الهوية القومية الآشورية حتى بعد مرور أكثر من اربعة عقود على المذبحة, أي الاصرار على الإستمرار في نهج الابادة الجماعية للآشوريين. كان النظام السابق يصرّ على إعتبار الآشوريين عرباً او كرداً مسيحيين, ولاسباب سياسية وعرقية طبعاً. مستنداً في ذلك التصنيف او التقسيم على العامل الجغرافي لسكانهم في العراق فقط.
ومن بين المفارقات الغريبة في هذه القضية تحديداً, يجد الباحث إن ذلك القسم من الآشوريين الذين اعتبرهم النظام اكراداً, وواجهوا الاضطهاد والقتل إسوة بالاكراد, واصبحوا هدفاً للقضاء كما كان الحال مع جيرانهم الاكراد, قد تم إستثنائهم من العفو العام للاكراد في 1988 ومن قبل نفس النظام, بحجة ان العفو العام يشمل الاكراد فقط, وليس الآشوريين الذين سبق واعتبرهم ذات النظام اكراداً. من هذه النقطة وغيرها "كان واضحاً ان النظام العراقي ميّز الآشوريين وعاملهم بقساوة وشدّة اكثر من تعامله مع الاكراد". ولاسباب عرقية ودينية (سياسية) مرة اخرى.
بينما يلاحظ عكس ذلك تماماً, عندما كان الامر يتعلق بأحوال المعيشة (الوجود), إذ إلتجأ النظام ذاته الى حرمان الموظفين الآشوريين من الإنتفاع والتمتع بـكرديتهم وعروبيتهم المفروضتين عليهم قسراً بين عامي 1992 و1993. عندما تمت "إحالة جميع المعلمين والمدرسين واساتذة الجامعات الآشوريين الذين كانت اصول عائلاتهم تنحدر من مناطق وقعت ضمن تركيا أو ايران الحاليتين (هكاري واورمي وما جاورهما) الى التقاعد. وقسم من العوائل الآشورية واجه الإبعاد الى اسطنبول وايران بسبب ذلك". كل ذلك والدساتير العراقية المؤقتة والدائمة وعلى الدوام, كانت تتضمن فقرات صريحة في إقرار حق المواطنة وحرية الفرد للجميع بغض النظر عن الإنتماء العرقي والديني... الخ. نظرياً على الاقل.
وبما أن كل هذه الصنوف وغيرها من الإعتداء على الفرد والجماعة تم ممارستها ايام نكبة سميل وما بعدها من قبل السلطات المتعاقبة في بغداد, ضدّ الآشوريين وبالفعل الملموس. فإن مذبحة سميل تكون
اول إبادة جماعية حقيقية في تأريخ العراق الحديث لا محالة. وانها جريمة متكاملة الاركان وفق القانون الدولي, وهي تكفي لإدانة سلطة الدولة العراقية لما ارتكبته بحق الآشوريين والمسيحيين عموماً في العراق. ويقصد هنا بـ"الدولة كشخصية معنوية ولا أعني الحكومة الحالية أو التي سبقتها او غيرها لان مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم بل يبقى مرتكبوها عرضة للتعقيب والمتابعة والاعتقال والمحاكمة مهما تقادم الزمن على تاريخ إرتكابهم لتلك الجرائم".
من هنا فإن السيد رشيد عالي الكيلاني يتحمل مسؤولية هذه الإبادة الجماعية للآشوريين لكونه رئيساً للحكومة آنذاك, "بل ان المسؤولية تقع على الملك فيصل الاول ايضاً وبشكل مباشر لانه أرسل ولي عهده غازي ووزع أوسمة الشجاعة على الضباط والجنود الذين ارتكبوا تلك المذبحة". تقديراً لبطولاتهم المزعومة.
وأخيراً فإن جميع العراقيين (شعباً وحكومة) مدعوون اليوم للقيام بما هو حق وعدل بحق ضحايا نكبة سميل وأحفادهم, حفاظاً على القيم الإنسانية حسب النواميس الدولية المعتمدة في هذا الخصوص. وعلى الآشوريين ـ كنسياً وشعبياً وثقافياً ومن ثم سياسياً ـ متابعة هذا الامر بجدية ودون كلل من اجل إنقاذ وتصحيح مسار العراق الديمقراطي, مساهمة منهم في الحفاظ على صورة وسمعة العراق الدولية اولاً, وإزالة او رفع الغبن عن الذين زهقت ارواحهم دون وجه حق وشردت اقرانهم وذريتهم خارج الوطن في جميع انحاء المعمورة ثانياً.