المحرر موضوع: شباب في الغربة وقصة الزميل الضائع  (زيارة 1937 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سامي مدالو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
شباب في الغربة وقصة الزميل الضائع

سامي الياس مدالو
 
بعد وداع الاهل والاقارب في مطار بغداد القديم، اقلعت طائرة خاصة في صباح يوم  24/10/1961، حاملة في باطنها طلاب البعثة للدراسة في جمهورية المانيا الاتحادية وبرلين الغربية. كنا حسب ذاكرتي 33 طالباً، بعضنا لم يتجاوز سن البلوغة، انهينا كلنا قبل بضعة اشهر المرحلة الثانوية بدرجات عالية اهّلتنا للدراسة غلى حساب الدولة العراقية في الخارج. بلغة اليوم نستطيع تسمية تلك الفترة الزمنية بحق "بالربيع العراقي" الذي تلاه بعد فترة قصيرة ويا للاسف، لا خريفاً واحداً فحسب بل شتاءً قارصاً طغى كالكابوس على العراق عشرات السنين.
 
 جلست في الطائرة بجانب طالب من كربلاء تعرفت عليه في بغداد اثناء المراجعات الضرورية لدى دوائر الدولة لترتيب امور السفر، كان اسمه بالصدفة سامي ايضاً. لتخميني باننا سنطيراولاً باتجاه تركيا، فضلت الجلوس بجانب الشباك لأملي بامكانية القاء نظرة اخيرة ونادرة بمنظار طائرعلى القوش. كنت انذاك واثقاً بان امنيتي تحققت وتمكنت من رؤية بلدتي كما يراها النسر من الاعالي. هل كان ذلك يا ترى مجرد امنية وخيال ام الواقع الاكيد؟ هل كان ما رأيته انذاك لربما قرية اخرى واقعة كذلك عل سفح الجبل؟ لست ادري.
 
بعد تناول الغذاء وفترة استراحة قصيرة في انقرة واصلت طائرتنا سفرتها باتجاه اوروبا. وصلنا قبل غروب الشمس بقليل الى هدفنا المحدد: مطار ميونيخ، عاصمة مقاطعة بافاريا في جنوب المانيا. بعد مغادرة الطائرة وانهاء معاملات تدقيق الجوار وسمة الدخول والكمارك، كنّا واثقين، وحسب ما كان مخططاً، من لقاء الملحق الثقافي العراقي او من يمثله ولكن. . .
 
لدهشتنا: لا احد ينتظرنا!  اذاًً ماالعمل يا ترى؟ هل هذا ممكن؟ "وين نروح وين نجي" في بلد غريب بلغة غريبة ولا أحد منا يجيد الالمانية او له معلومات اولية بها او يملك اية خبرة عملية تذكر في بلد اوربي؟  بعد نقاش قصير اخترنا احدنا كمتحدث باسمنا لكونه يتقن اللغة الانكليزية نوعاً ما. ولكن ما فائدة هذا واغلبية الالمان العاديين كانوا انذاك لا يتكلمون الانكليزية. بالرغم من ذلك، بدأ "ممثلنا" بمحاولاته البسيطة للاستفسار لدى موظفي المطارعن معلوماتهم عنا او عن من سيقوم باستقبالنا. محاولات بلا جدوى، لا احد يدري، لا احد يستطيع حل مشكلتنا. . .
 
اتذكر هنا "حادثة"، دعتنا ننسى او نتناسى مشكلتنا العويصة ولو للحظات قليلة. أمرأة مسنة راكبة دراجة هوائية، لاحظناها خلال شباك المطار. انذهل الجميع.  ياللعجب! هل هذا واقع ام خيال؟  في بلدنا العراق من خامس المستحيلات. بعد اختفاء راكبة الدراجة بعد ثواني من انظارنا، رجعنا الى ارض الواقع والى مأزقنا، اذاً مالعمل؟  بينما نحن منشغلون في جدالنا حول امكانية الاتصال الهاتفي بالسفارة العراقية في بون رغم تأخرالساعة، قدم رجلان باتجاهنا، احدهما ذو ملاح شرقية والاخر اوربي المظهر: الملحق الثقافي العراقي بصحبة المدير العام لمعاهد گوته لتعليم اللغة الالمانية.
 
بعد اعتذارالملحق الثقافي عن تاخره بسبب الازدحام  في الطرق، طلب منا تشكيل مجموعات من ستة الى سبعة اشخاص بغية توزيعنا على معاهد اللغة الواقعة جميعها في قرى ومدن صغيرة محيطة بميونيخ. شكّلتُ مع ستة من الطلاب الذين كنت قد تعرفت عليهم اثناء مراجعاتنا في بغداد مجموعتنا لتعلم اللغة الالمانية في نفس المعهد وهم: سامي من كربلاء، عبد الرسول من الكاظمية، سعد من الحلة، عبد الوهاب من جبايش، عصام و وجدي من الموصل وانا من بغداد. بعد ذلك اعطانا الملحق الثقافي أسم المدن التي علينا السفر اليها بالقطار ودفع لنا قبل مغادرتنا المطار راتب البعثة للايام المتبقية من الشهرالجاري.
 
بتاكسيين وصلنا الى محطة القطارفي شرق ميونيخ. لا مترجم يساعدنا ولا من يتكلم الانكليزية من الالمان الذي نستطيع سؤاله بأنكليزيتنا المدرسية الركيكة. ومما اصعب الموضوع علينا، هو ان الملحق الثقافي لم يكتب لنا اسم مدينتا كما يجب، بل اكتفى بأملائه علينا شفوياً! (شيئ  في غاية الذكاء!). مثل الماني يقال في مثل هذه الحالة ما معناه: جعلنا "نقفز في الماء البارد لكي نتعلم السباحة". تمكنا بمشقة بالغة بالعثور على القطار الصحيح  وذلك بدقائق قليلة قبل مغادرته المحطة، فتمكنا في اخر لحظة من الصعود الى احدى العربات حاملين حقائبنا الثقيلة. وما ادراك ما وزن هذه الحقائب وما محتواها وكأننا ذاهبون الى الصحراء! ومن يعتقد الان بأن مصاعبنا انتهت  بصعودنا القطار، فهو مخطأ.
 
ما هذا؟  الظاهر اننا وبسبب استعجالنا تسلقنا بالخطأ العربة الخاصة بالحقائب والدراجات، اي ما يسمى بعربة الحمل! لحسن الحظ تمكنا في المحطة التالية التحول الى عربة المسافرين. ولكن من هم هؤلاء المسافرين يا ترى؟ هذا ما فهمناه بعد اسابيع من قدومنا: مواطنون يسكنون في قرى ومدن صغيرة محيطة بميونيخ، يسافرون صباحاً للعمل باتجاه ميونيخ وفي المساء يسلكون الاتجاه المعاكس. وبالضبط مع هؤلاء الراجعين الى بيوتهم قضينا سفرتنا الاولى  بقطار الماني.
 
كانوا جالسين كمجموعات حول منضدات يتناقشون او يلعبون بالورق للتسلية اولربما لمجرد قتل الوقت كما يقال. محاولاتنا كانت في غاية الصعوبة لمعرفة وقت وصولنا الى "مدينتا" المنشودة. كل مافهمناه من مدقق التذاكر هو وجوب تكملة سفرتنا بقطار ثاني. لاحظنا نظرات الركاب الفاحصة لنا ولملابسنا وكأنهم يرغبون سؤالنا: "هل انتم ذاهبون لحفلة زواج جماعي؟" بالحقيقة شعرنا نحن ايضاً بنشاز ملابسنا الغير مناسبة في هذا المحيط. نحن ببدلاتنا السوداء والرباط المناسب لها، وهم بملابسهم "االاعتيادية" اليومية.
 
لم يدم فخرنا وفرحنا كثيراً بتمكننا من ركوب القطار الثاني بابسط مما كنا نتوقعه، فبعد لحظات قلائل كانت دهشتنا كبيرة حين تأكُدنا بأن زميلنا عبد الوهاب لم يعد بيننا! اين عبد الوهاب يا ترى؟ لم نصدّق هذا، فلا احد منا يستطيع تفسير "ضياع" عبد الوهاب، ولا احد لاحظ بالقط ابتعاده عنا اثناء عملية تبديل القطارحيث الكل منشغلون بانفسهم وبامتعتهم. مالعمل اذاً ونحن في هذا الوضع الغير الاعتيادي؟ لم يبقى لنا الا التوسل بالله والتمني بنهاية سعيدة لعبد الوهاب ولنا.
 
تاكسيين اوصلانا الى فندق قريب بعد مغادرتنا القطار في ايبرسبرك (Ebersberg)، هذه البلدة التي سنقضي فيها نصف سنة لتعلم اللغة الالمانية. (ايبرسبرك مدينة صغيرة يبلغ عدد سكانها 6000 نسمة تقريباً وتبعد عن ميونيخ ما يقارب الـ 35 كم ). وهنا تفاجئنا حقاً: عبد الوهاب ينتظر قدومنا!!! هل استعملت طيارة او لك عصاً سحرياً يا عبد الوهاب؟ كلا لاشيئ مثل هذا ـ  لقد اجّر لوحده تاكسي في المحطة التي بدلنا فيها القطار لتكملة سفرته الى هنا. اليس هذا حقاً عملاً "بطولياً" تحت هذه الظروف الشاذة؟ الكل انذهل من جرأة هذا الشخص الذي قدم من بلدة صغيرة في جنوب العراق. لا اعرف لحد الان لماذا فعل ذلك ولم يبقى معنا، ولماذا لم يخبر احداً منا بما ينوي فعله؟ وثم كيف عرف اسم وعنوان الفندق؟ عجائب غرائب! لا اعتقد بان احدا منا غيره كانت لديه الجرأة الكافية للقيام بمثل هذا العمل "البطولي!". فحمدنا الله وشكرناه على هذه النهاية المفرحة.
 
بعد تناول العشاء والتفاهم مع العاملين في الفندق والمطعم بالاشارات والرموز، قدِمَ مدير معهد كوته في ايبرسبرك للترحيب بنا (باللغة الانكليزية). لا ادري الان كيف عرف بوصولنا وبالضبط الى هذا الفندق. وللانصاف يجب علينا الاعتراف بان الملحق الثقافي وكما يظهرقد احسن هنا بالتحضيرات اللازمة لاستقبالنا. اخبرنا مدير المعهد بأن علينا البقاء هنا لمدة اسبوع، اي لغاية الاول من الشهر التالي، حيث يبدأ الفصل الدراسي الذي علينا الانضمام اليه، فيتم توزيعنا على محلات السكن: اما في القسم الداخلي للمعهد او عند عوائل المانية. حصتي وحصة سامي الكربلائي كانت القسم الداخلي، اما بقية الزملاء العراقيين فتم توزيعهم على عوائل المانية. وفي الاول من تشرين الثاني بدأنا بتعلم اللغة الالمانية مع طلاب من جميع انحاء العالم


 

ايبرسبرك(Ebersberg) في شتاء 2013، كأنّ شيئاً لم يتغير منذ نصف قرن
 


معهد گوته لتعليم اللغة الالمانية في ايبرسبرك يقع على بحيرة صغيرة، في شتاء 2013

 
    
 
 


غير متصل NabeelDamman

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 228
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الاخ سامي مدالو المحترم
تحية طيبة
اتمنى التواصل على هذا المنتدى بنشر نتاجاتك الثقافية من ذكريات وغيرها ليطلع عليها الجميع بسردك الواقعي الجميل بعد مضي اكثر من نصف قرن على اغترابك من وطنك الام .

غير متصل سامي مدالو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
اخي العزيز نبيل،
شكرا على زيارتك اللطيفةهذه ، بالضبط كاقتراحك بالنشر في هذا الموقع هي خطتي ايضاً.
هذه فقط تجربة فنية في امكانيتي من اضافة رد على تعقيبك. حدثتك هاتفياً عن المشاكل في هذا المجال. لنرى هل ساكون مفلحاً بذلك؟
تحياتي الحارة لك ولجميع افراد عائلتك، ودمت يسلام وامان
لاخيك سامي