المحرر موضوع: لقاء بعد نصف قرن ـ تقرير مصوَّر (3)  (زيارة 2610 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سامي مدالو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
لقاء بعد نصف قرن ـ تقرير مصوَّر
(3)

سامي الياس مدالو
 
 
معالم القوش

 
دير السيدة ودير الربان هرمزد كانا بالطبع في مقدمة نقاط برنامجنا لزيارة معالم القوش، وهذا ما انعكس في الحلقة السابقة التي تناولت هاذين الديرين المتميزين. الا ان القوش، وكما هو معروف، تفتخر بمعالم كثيرة مؤهلة جميعها للزيارة، خاصة اذا افتقدها زائر مثلنا لسنين طوال. الا ان ضيق الوقت حال وللاسف بين النية والممكن، فاكتفينا بالذهاب الى تلك الاماكن التي اعتبرنا زيارتها لنا شبه واجب وهي:
 
1ـ گپه دمايا (كهف الماء) 
2ـ بندوايا 
3ـ منتزه توما توماس   
4ـ بيتنا
   
1ـ گپه دمايا (كهف الماء)
 
اصرّ ابن اخي وبسبب حرارة الجوعلى ايصالي مع اخي بالسيارة من جنوب القوش الى مركز الشرطة السابق الواقع في شمالها. ولكن أبتداءً من هنا، أن شئنا ام ابينا، لا ملاذ لنا الا استعمال اقدامنا اذا اردنا الوصول الى هدفنا المنشود. الجو كان لسوء حظنا احر مما كنا نتمناه. فبعد مغادرتنا السيارة والقاء نظرة حزينة على خرابة مركز الشرطة السابق، بدأتُ بصحبة أخي "بعملية" الصعود الى ذلك الكهف الذي انعشنا في قديم الزمان بمائه العذب الزلال، يهبه لنا بدون مقابل وبدون كلل على مدارالساعة  بشكل قطرات منفردة، تتحد لتشكل حوضاً كافياً لاشباع العطش او لطبخ الشاي الممتاز. فلست اتذكر نزهة واحدة ايام طفولتي الى گپه دمايا مع الاهل تمت بدون طبخ الشاي بمائه اللذيذ.   
 
بستان على الجانب الايمن  في اسفل الوادي جلب انتباهنا حال البدء بمسيرتنا، يضم العشرات من اشجار الزيتون ويسقى بماء يجلبه انبوب غليظ  متصل مباشرةً بخزان الماء المركزي الواقع شرقاً من هنا.  ليس بعلمي ما عمر هذا المشروع الزراعي المفيد والجميل في ذات الوقت.
 
بدأنا الصعود بتأني بسبب الحر، فالصخور وكما يظهر بدأت تشع ما اكتسبته منذ الشروق ولحد الان من طاقة الشمس المجانية. هنا تذكرت ما تعلمته في المدرسة المتوسطة: بأن الطاقة، اياً كان نوعها، لا تُفنى ولا تُستحدث. ياترى، من اكتشف هذه المعلومة كأول شخص؟  لست ادري. ومن هم اولئك الذين قاموا بتشييد هذا الطريق الصخري الازلي ومتى ولاي غرض؟  هل للقيام مثلنا في ايام شبابنا بنزهات ايام الربيع؟ وهل من كتب تاريخية او سجلات تدلنا على معلومات بهذا الخصوص؟ لا اظن. فالانسان هنا كان في قديم الزمان (ولا يزال) منهمك قبل كل شيئ بتمشية امورحياته اليومية المعيشيه الصعبة.  لا مجال هنا اذاً لمثل "ترف" كهذا!
 
اذا كان "الانطباع الاول هو الحاسم" كما يقال، فحال الكهف وللاسف ليس على مايرام. ان وضعه لم يبعث لي بالحقيقة بالطمأنينة ـ  كأنه مهجور ومتروك منذ زمن. . . فلم نقابل هنا احداً جاء لقضاء فترة راحة اوعائلة تحتفل بمناسبة ما و"تخدّر" الشاي واطفالها يتسلقون الصخور المحيطة. ان حال الحوض لم يشجعني  بالشرب من محتواه.
 
 
 


بستان الزيتون على اليمين من اسفل الوادي وعلى اليسار الطريق بشكل قوس
 
 
 
 
 
الثمرة تؤكد النجاح
     
 
الطريق الحجري الخالد / القوش والشارع المؤدي الى الموصل في اعلى الصورة
 
 
 

الكهف المائي في اكتوبر 2011
 
 
 

"الجنائن المعلقة": نباتات طبية في جدار الكهف
 
 
 
 
قطرة فقطرة تتحد لتملأ الحوض

 
2ـ بندوايا
 
بما ان بندوايا تبعد مسافة لا بأس بها من القوش، فليست لديّ بالحقيقة ذكريات كثيرة من ايام الطفولة عنها. والديّ كانا يحذروننا نحن الصغار دوماً من الذهاب الى هناك بدون مصاحبتهم بسبب خوفهم علينا من الغرق. كل ما اتذكره عن بندوايا هي محاولاتي الاولى هناك لتعلم السباحة برفقة "الكبار". شيئان جلبا انتباهي الان: اولاً وجود مقاهي وثانياً خرابة طاحنة الحنطة (ارخل)، التي كانت تعمل ايام زمان بالطاقة المائية. اتذكر جيداً من ايام طفولتي كيف كان بعض رجال القوش ينقلون الحنطة بأجور بكيسين كبيرين على ظهور الحمير قبل شروق الشمس الحارقة بساعات ليرجعون بها كدقيق قبل شروقها كذلك ان أمكن.
 
   

 
ماءٌ بلون السماء و"قبرانات" على الضفاف
 
 
 

ما اروع الماء اينما كان... يا ريت لو كان لنا في القوش جدولاً مثل هذا
 
 
 

ماء كالزجاج
 
 
 

بقايا المطحنة المائية (ارخل)
 
 
 

سمات التقدم: مقهى على الشاطئ

 
3ـ منتزه الفقيد توما توماس
 
كنت قد قرأت وسمعت كثيراً عن منتزه المرحوم  توما توماس الذي يمثل احد المعالم الحديثة في القوش. اذاً لا بد لنا من زيارته، خاصة وانه حسب اعتقادي يضم  التمثال الوحيد في القوش لانسان علماني، سمعنا من بُعد عنه وعن اعماله البطولية بين الحين والاخر. دخلت الى المنتزه قبل الظهر ولاحظت لدهشتي انني الزائر الوحيد هنا. لحسن حظي كانت البوابة مفتوحة بسبب اعمال الترميم والصيانة. وقبل تمكني من التقاط اول صورة، اقترب مني شخص بملابس العمل ناظراً بريبة وبالتناوب عليّ وعلى كامرتي وكانه يريد سؤالي:
 
من انت وماذا تنوي هنا بالرغم من ان المنتزه مغلوق للزوار حالياً؟
 
 فهمت قصده من خلال وجهه المستفسر، فأخذت المبادرة وسلّمت عليه باللهجة الالقوشية التي حافضت عليها بالرغم من قضاء عشرات السنين في الغربة، لكي لايشك في نيّتي الحسنة قائلاً: " شلاما الّوخ"،  ثم عرفته بنفسي ومدة غيابي عن بلدتي وما انويه هنا. فرد السلام وحال سماعه باسمي وبلقبي، سألني بنوع من الدهشة: "ابن الياس بابا؟"   (هكذا كان يسمّى والدي في القوش)، اجبته: "نعم". بالحال تبدّلت ملامحه وطغت ابتسامة عريضة على وجهه، ماداً يده لمصافحتي قائلاً: "نحن اقارب، والدتي (ذكر لي اسمها)  ووالدتك بنات عم"، ثم عرفني بنفسه وبمهمته في هذا المنتزه.
 
اصرّ قريبي، بالرغم من معارضتي، ان يفتح لي صمام النافورة الرئيسي لاقوم بتصويرها وهي تعمل. فما جمال نافورة بدون ماء حسب رأيه؟  اقول: له كل الحق. بعد انتهائي من التصوير دعاني الى مكتبه لتناول مشروباً بارداً وقطعة بقلاوة وللتحدث حول الماضي والحاضر والاهل والاقارب وعن هذا وذاك. خلال حديثنا قدم عدة تلاميذ في الصف السادس الثانوي. استغلينا الفرصة وتناقشنا حول مناهجهم ومواد دروسهم واساتذتهم ومستقبلهم. نقاش لطيف وشيق، ذكرني بأيام طفولتي وشبابي هنا.       
 
 

 

من المعالم الحديثة في القوش: منتزه المرحوم توما توماس
 
 
 

النافورة والتمثال

 
4ـ بيتنا، بيتنا ثم بيتنا . . .
 
كم كان ندمي وحزني كبيرين حين سماعي وانا في المانيا بأن الدارالتي قضيت فيها طفولتي وشبابي الاول هدمت من الاساس وبلا رجعة ليبنى بمكانها "قصراً" بالوان صارخة نشاز، لا تناسب برأيي القوش وطبيعتها. عذراً لسلبية رأيي في ما شيّد على انقاض بيتنا الذي ولدنا وترعرعنا فيه. فذكريات فوق ذكريات تربطني بهذا البيت وسكانه. المرحومين الوالدين العزيزين، المرحومة جدتي ـ دادي هيلوـ ناهيك عن أخواتي وأخوتي بأختلاف اعمارهم، بطفولتهم وشبابهم،  وكذلك الاقارب والاصدقاء الذين قضوا معنا اوقاتا بالسراء والضراء.
 
اعتقد بأنني لا ابالغ اذا ادعيت بأن بيتنا كان في زمانه من احدث بيوت القوش اذا اخذنا بنظر الاعتبار بأنه شيّد في الثلاثينات من القرن الماضي. وثم شي اخر كان يميزه على غيره وهو برأيي موقعه المثالي على سفح جبل القوش كآخر بيت في شمال البلدة. من غرفة الجلوس التي كنا نسميها بـ "ايوَن" كان باستطاعتنا القاء نظرة على مناطق واسعة من القوش. كما كان بمقدورنا مثلاً مشاهدة السيارات القادمة من الموصل قبل دخولها القوش بكيلومترات عديدة. 
 
بعد انتقال الوالدين مع بقية افراد العائلة الى بغداد في بداية الستينات وتأجيره في الفترة الاولى، قرّرا، خاصة بسبب الاضرار الناتجة عن التأجير، بيعه للراهبات لاعتقادهما بانهن احسن المؤهلين للحفاظ عليه بأحسن صورة. ولكن . . .
 
"لحسن الحظ" تم تهديمه بعد وفاة والديّ. فكم كان مقدارالالم الذي ينتابهما في حال سماعهما بما جرى. ان ما يخفف من المي هو معرفتي بأن البيت الجديد ليس ديراً فحسب، بل ايضاً مأوى لبنات يتامى. فالمعذرة المعذرة اذا كنت قد بالغت في نقدي لما حدث. بالرغم من كل ذلك قررت زيارة البيت الجديد، بالاخص لاعتقادي بأن الكهف ( گپا ) لا زال موجوداً.  هنا بالضبط كنا نقضي بسبب درجات حرارته الواطئة ومناخه المعتدل ايام الصيف.  فهل من المعقول ان يُهَدّم كهفاً طبيعياًً مثل هذا؟
 
 
الزيارة:
 
بعد الترحيب بي وبأخي وزوجته من قبل راهبة شابة لطيفة المزاج، قادمة من بلدة كلدانية في كردستان لم نسع بها من قبل، متكلمة تقريباً لهجتنا الالقوشية، اقول بعد الترحيب وتعريف انفسنا بها، عرضت علينا برحابة صدر التجول في الدير والميتم حسب رغبتنا. بعد القاء نظرة سريعة على بعض الغرف والقاعات اردنا بالواقع معرفة مصير كهفنا.
 
نعم، الكهف لا زال موجوداً كما توقعنا ولكن بصورة لم نكن نتوقعها بتاتاً.  ليس لانه الان يشكل كنيسة صغيرة، بل لانه غُيّر جذرياً من نواحي عديدة: مساحته صُغّرت بعُرضها، ارتفاعه قُلّل برفع قاعه (ارضيته) والاسوء من ذلك هو تعتيمه بدخان الفحم كما اظن. يا للاسف ما معنى هذا التعتيم؟ هل ليعطي انطباع مغارة في قديم الزمان، يحرق ساكنيها الحطب للتدفئة شتاءً؟  ام ماذا؟ لا ادري.   
 
 

 
 
بيتنا ايام زمان، وسط الحافة اليسرى. صُبغَ باللون الابيض بعد تأجيره
(صورة من "گوگل ايرث" بعدسة سائح اوربي، تاريخ التصوير مجهول)
 
 
 
 
 
الان: الكنيسة في كهفنا الصيفي ـ ما معنى التعتيم ؟
 
 
 
 
دير الراهبات مع ميتم البنات / خرابة ضريح النبي ناحوم في اسفل الصورة
   
 
 

مدخل دير الراهبات وميتم البنات

 
 
5ـ ما جلب انتباهي ايضاً:
 
 


ما العمل؟ فهذا "ثمن التقدم" / أأمل بان شباب القوش وجدوا "يداً بيد" الحل المناسب
 
 
 
 

محزن جداً: حال ضريح النبي ناحوم
 
 
 
 
 
أدهشني: في القوش وباللغة الالمانية مامعناه:
"تجهيزات من المانيا للحدائق  وبائعي الزهور" !

>>>  الحلقة القادمة: بغداد بعد نصف قرن
 
الروابط:
 
1 ـ رابط الحلقة الاولى (اربيل / عنكاوا)
 
http://www.ankawa.com/forum/index.php?PHPSESSID=dd3q6s09k6s38ueae8j9dd46e1&topic=669153.0
 
2 ـ رابط الحلقة الثانية (القوش: الاديرة)
 
http://www.ankawa.com/forum/index.php?PHPSESSID=dd3q6s09k6s38ueae8j9dd46e1&topic=670573.0