المحرر موضوع: فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)  (زيارة 760 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل د. هاشم نعمة

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 185
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)

   ترجمة: د. هاشم نعمة
       تحمل موجة الثورات(1) التي تجتاح الشرق الأوسط تشابها ملحوظا مع الزلازل السياسية التي حدثت في الماضي، مثل ما حدث في أوروبا عام 1848. إن ارتفاع اسعار المواد الغذائية وارتفاع معدلات البطالة اشعلا احتجاجات شعبية امتدت من المغرب إلى عُمان. وكما حدث في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي عام 1989. فإنه نتيجة خيبة الأمل، وانتشار الفساد في ظل أنظمة سياسية لا تستجيب لمطالب الجماهير قادت هذه الأوضاع إلى حدوث انشقاق وسط النخب وسقوط أنظمة قوية في تونس ومصر وربما في ليبيا. لم يكن عاما 1848 و1989 هما المقياس الدقيق لأحداث الشتاء الماضي. حيث أن ثورات عام 1848 سعت لإسقاط الأنظمة الملكية التقليدية، وتلك التي حدثت عام 1989 كان هدفها الاطاحة بالحكومات الأشتراكية. في حين تقاتل ثورات عام 2011 شيئا مختلفا تماما يتمثل بدكتاتوريات "سلطانية". رغم أن هذه الأنظمة تبدو وطيدة، في الغالب، لكنها في الحقيقة تكون شديدة التأثر، بسبب من أن الاستراتيجيات التي تستخدما للبقاء في السلطة جعلتها هشة، وغير مرنة. وليس من قبيل الصدفة أنه رغم الاحتجاجات الشعبية التي هزت الكثير من بلدان الشرق الأوسط، إلا أن الثورتين اللتين نجحتا حتى الآن – تلك التي اندلعت في تونس ومصر- كانتا ضد أنظمة سلطانية حديثة.

       من أجل أن تنجح الثورة يجب أن تجتمع مجموعة من العوامل تمهد لذلك النجاح: توفر قناعة بأن الحكومة ظالمة وأن لا سبيل لمعالجة ذلك الوضع إلى حد بعيد، وأن استمرار وجودها بات ينظر له على نطاق واسع بأنه يهدد مستقبل البلاد؛ ابتعاد النخب (خصوصا من العسكر) عن الدولة وأن تكون غير مستعدة للدفاع عنها؛ استياء القاعدة العريضة من السكان، وجود توتر اثني وديني بين المجموعات السكانية،(2) ضرورة أن تعبأ الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية طاقاتها؛ وعلى القوى الدولية إما أن ترفض التدخل للدفاع عن الحكومة أو تقيدها عن استخدام اقصى قوتها للدفاع عن نفسها.

      من النادر أن تنتصر الثورات لأنه نادرا ما تتزامن مثل هذه الشروط. تنطبق هذه الحالة خصوصا على النظام الملكي التقليدي والدول ذات نظام الحزب الواحد، والتي يسعى قادتها في الغالب للحفاظ على الدعم الشعبي من خلال المناشدة لاحترام التقاليد الملكية أو القومية. إن النخب التي كثيرا ما اثرت من هذه الحكومات، سوف تتخلى عنها فقط إذا تغيرت ظروفها أو تغيرت أيديولوجية الحكام بدرجة كبيرة. و في جميع الحالات، تقريبا، من الصعب تحقيق تعبئة شعبية ذات قاعدة عريضة لأن ذلك يتطلب ردم الهوة التي تتمثل في تباين المصالح بين فقراء المدن والريف، والطبقة الوسطى، والطلاب، والمهنيين، والمجموعات الإثنية والدينية المختلفة. التاريخ حافل بالحركات الطلابية، والاضرابات العمالية والانتفاضات الفلاحية التي قمعت بسهولة وذلك لأنها ظلت تمثل ثورة لمجموعة واحدة، بدلا من تمثيلها لتحالف واسع. أخيرا، هناك دول أخرى غالبا ما تدخلت لدعم الحكام المحاصرين من أجل استقرار النظام الدولي.(3)

      إضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من الدكتاتورية التي غالبا ما تثبت بأنها أكثر عرضة للسقوط وتتمثل بالنظام السلطاني. مثل هذه الحكومات تنشأ عندما يوسع القائد القومي من سلطاته الشخصية على حساب المؤسسات الرسمية. ولا تتبنى الدكتاتوريات السلطانية ايديولوجية معينة وليس لها هدف أخر سوى الاحتفاظ بسلطاتها الشخصية. ويمكنها أن تبقي على بعض النواحي الرسمية للديمقراطية – مثل الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجمعية الوطنية، أو الدستور- لكنها تحكم فوق كل هذه المؤسسات بواسطة تنصيب أشخاص داعمين مذعنين لها في المواقع الرئيسية، وفي بعض الأوقات بواسطة اعلان حالة الطوارئ، حيث تبرر ذلك بالخوف من الأعداء في داخل البلاد أو خارجها.

       من وراء الكواليس، يمتلك مثل هؤلاء الدكتاتوريين بشكل عام ثروات ضخمة، والتي يستخدمونها لشراء ولاء المؤيدين ومعاقبة المعارضين. ولأنهم بحاجة للموارد لتغذية ماكنة المحسوبية العائدة لهم، فإنهم يعززون عادة التنمية الاقتصادية، من خلال التوسع في التصنيع، السلع، الصادرات، والتعليم. وهم يسعون أيضا لإقامة العلاقات مع الدول الأجنبية، بحثا عن الاستقرار الموعود في التبادل الخارجي وما يجلبه من المساعدات والاستثمار. على أية حال معظم الثروة التي تأتي إلى البلاد، تتسرب إلى السلطان والمقربين منه.

       يسيطر السلاطين الجدد على النخب العسكرية في بلدانهم من خلال إبقائها مقسمة. عادة، تنقسم قوات الأمن إلى العديد من القيادات (الجيش، القوة الجوية، الشرطة، المخابرات) وتقوم قيادات كل هذه الأقسام بتقديم تقاريرها مباشرة إلى الرئيس. ويتحكم الرئيس بالاتصالات التي تجري بين هذه القيادات، وبين الجيش والمدنيين، ويتحكم بالعلاقات مع الحكومات الأجنبية، عمليا هذه الإجراءات تجعل السلاطين هم الأساس في التنسيق بين القوات الأمنية وتوجيه المساعدات الأجنبية والاستثمارات. ولتعزيز المخاوف من أن المساعدات الخارجية والتنسيق السياسي سيتوقفان في حالة غيابهم، فإن السلاطين عادة ما يتحاشون تحديد الخلفاء الذي من الممكن أن يخلفوهم.

      ومن أجل إبقاء الجماهير غير مسيسة وغير منظمة، يتحكم السلاطين بالانتخابات والأحزاب السياسية ويقدمون المساعدات للسكان في ما يخص السلع الأساسية مثل الكهرباء، الغازولين، والمواد الغذائية. وعندما يترافق هذا الأسلوب مع الإشراف على الإعلام واستخدام الإرهاب، تضمن هذه الممارسات بشكل عام بقاء المواطنين معزولين وفي موقف سلبي.

      ومن خلال اتباع هذا الأسلوب، تمكن السلاطين سياسيا وببراعة من مراكمة ثروات هائلة في جميع انحاء العالم وتركيز السلطة بأيديهم بدرجة كبيرة. وكان من بين الحالات الأكثر شهرة في التاريخ الحديث حالة بورفيريو دياز في المكسيك، ومحمد رضا شاه بهلوي في إيران، وأسرة سوموزا الحاكمة في نيكاراكوا، وأسرة دوفالييه الحاكمة في هاييتي، وفرديناند ماركوس في الفلبين، وسوهارتو في اندونيسيا.

     ولكن مثل ما تعلم جميع هؤلاء السلاطين، كذلك وجد الجيل الجديد من السلاطين في الشرق الأوسط - بضمنهم بشار الأسد في سوريا، وعمر البشير في السودان، وزين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- بأن السلطة عندما تكون متمركزة جدا يمكن أن يكون من الصعب المحافظة عليها.

نمور من ورق

     ورغم كل محاولات الدكتاتوريات السلطانية لدعم وضعها، إلا أن لديها نقاط ضعف كامنة تزيد فقط مع مرور الوقت. ويجب أن يقيم السلاطين توازنا دقيقا بين إثراء أنفسهم ومكافأة النخبة: فإذا كافأ الحاكم نفسه وأهمل النخبة، فإن حافزها الرئيسي لدعم النظام سيزول. ولكن عندما يشعر السلاطين بأن وضعهم أصبح أكثر رسوخا ولا يمكن الاستغناء عنهم، يصبح فسادهم في كثير من الأحيان وقحا ويتركز وسط دائرة داخلية صغيرة. وعندما يحتكر السلطان المساعدات الخارجية والاستثمار أو يصبح مقربا جدا من حكومات أجنبية لا تحظى بشعبية، يمكن له في هذه الحالة أن يفرط بالنخبة والمجموعات الشعبية إلى أبعد حد.

     في الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد ويتوسع التعليم في ظل حكم الدكتاتور، يزداد عدد الأشخاص الذين لديهم تطلعات أكبر ويصبحون أكثر تعبيرا تجاه حساسية التدخلات المتمثلة بسياسة الهيمنة وإساءة استعمال السلطة. وإذ ينمو عدد السكان الكلي بسرعة، تستأثر النخبة بحصة الأسد من المكاسب الاقتصادية، في نفس الوقت يزداد التفاوت والبطالة. ومع ارتفاع نفقات المساعدات والبرامج الأخرى التي يستخدمها النظام لاسترضاء المواطنين، والحفاظ على الجماهير غير مسيسة فإن ذلك يضع المزيد من الضغط على النظام. وعندما تبدأ الاحتجاجات، قد يقدم السلاطين على إجراء اصلاحات أو يوسعون من المنافع المادية أو منافع الرعاية – كما عمل ماركوس في الفلبين عام 1984 لتجنب تصاعد الغضب الشعبي. لكن ماركوس فهم عام 1986، أن هذه الإجراءات عادة ما تكون غير فعالة بمجرد أن يبدأ الناس بالمطالبة بإصرار بنهاية حكم السلطان.

      تتفاقم نقاط ضعف الأنظمة السلطانية مع تقدم عمر الزعيم، حيث تصبح مسألة خلافته أكثر حدة. في بعض الأوقات، يكون الحكام السلاطين قادرين على تسليم القيادة إلى أعضاء من عائلاتهم من الشباب. هذا ممكن فقط عندما تعمل الحكومة بفعالية ولديها نخبة تدعمها (كما حصل في سوريا عام 2000، عندما سلم الرئيس الأسد السلطة إلى أبنه بشار) أو في حالة وجود بلد آخر يدعم النظام (مثل ما حصل في إيران عام 1941، عندما ساعدت أو روجت الحكومات الغربية لخلافة رضا شاه من قبل أبنه محمد رضا بهلوي). وفي حالة تسبب فساد النظام بنفور نخبة البلد منه فعليا، فإنها في هذه الحالة قد تتحول عنه وتحاول منع انتقال الخلافة إلى العائلة، وتسعى لاستعادة السيطرة على الدولة (كما حدث في اندونيسيا أواخر التسعينات، عندما وجهت الأزمة المالية الآسيوية ضربة إلى آلية المحسوبية التي كان النظام يتبعها).

     هناك شيء أساسي جدا يعمل ضد رغبة السلطان في الانتقال السلس للسلطة، يتمثل في أن معظم الوزراء والموظفين الكبار الآخرين يعملون بالتطابق جدا مع رئيسهم التنفيذي من أجل بقائه في السلطة وعدم سقوطه. على سبيل المثال، حاول الشاه عام 1978 تفادي الثورة بواسطة استبدال رئيس وزرائه، شاهبور بختيار، وتعيين نفسه رئيسا للوزراء لكن هذا الإجراء لم ينجح؛ حيث سقط النظام بالكامل في السنة التالية. في النهاية، مثل هذه التحركات لا ترضي مطالب الجماهير المعبأة التي تبحث عن تغييرات اقتصادية وسياسية رئيسية، ولا ترضي كذلك طموحات الفئات الحضرية والمهنية التي تنزل إلى الشارع للمطالبة بالمشاركة بحكم الدولة.

      علاوة على ذلك، هناك قوات الأمن. وبواسطة تقسيم بنيتها القيادية يمكن أن يقلل السلطان من التهديد الذي تشكله. لكن هذه الاستراتيجية أيضا تجعل قوات الأمن أكثر عرضه للانشقاق في حالة اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية. إذ أن عدم وجود قيادة موحدة يؤدي إلى حدوث انقسامات داخل الأجهزة الأمنية؛ ثم أن النظام في الحقيقة لا يستند إلى أي ايديولوجية جذابة وهو غير مدعوم من قبل مؤسسات مستقلة تضمن بأن الجيش لديه دافع أقل لإخماد الاحتجاجات. ويمكن أن يقرر الكثير من أفراد الجيش بأن خدمة مصالح البلاد ستكون افضل في حالة تغيير النظام. وإذا تخلى قسم من القوات المسلحة عن النظام – كما حدث تحت حكم دياز، وشاه إيران، وماركوس، وسوهارتو- فإنه يمكن أن تنهار الحكومة بسرعة مذهلة. في النهاية، في الوقت الذي يظل فيه الحاكم مرتبكا، مقتنعا بأنه لا يمكن الاستغناء عنه وأنه في حصانة، يجد نفسه وبشكل مفاجئ معزولا وبلا سلطة.

      غالبا ما تظهر مؤشرات ضعف السلطان فقط في وقت لاحق. رغم أنه من السهولة تحديد انتشار حالات الفساد، والبطالة، وأسلوب الحكم الفردي، لكن إلى أي مدى تعارض النخب النظام، الاحتمال الأقوى، بانشقاق الجيش غالبا ما يصبح واضحا فقط عندما تندلع الاحتجاجات على نطاق واسع. وبعد كل ذلك، لدى النخب والقادة العسكريين كل الأسباب لإخفاء مشاعرهم الحقيقية حتى تنشأ اللحظة الحاسمة، ومن المتعذر معرفة أي استفزاز سيؤدي إلى تحرك شامل للجماهير، بدلا من التحرك على المستوى المحلي. وبالتالي سيكون انهيار الأنظمة السلطانية سريعا وغالبا ما يشكل صدمة.

      طبعا، في بعض الحالات، لا ينشق الجيش على الفور على الرغم من بدء التمرد. على سبيل المثال، ما حدث في نيكاراغوا في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حيث كان اناستاسيو سوموزا قادرا على استخدام القوات الموالية له في الحرس الوطني لإخماد التمرد ضده. لكن حتى في حالة توفر الفرصة للنظام للاعتماد على القطعات الموالية في الجيش، فإنه نادرا ما يتمكن من البقاء. ببساطة يبدأ النظام بالتفكك بوتيرة أبطأ، مع نشوء حالة خطيرة من سفك الدماء أو حتى نشوب حرب أهلية تنتج من السير في هذا الطريق. لكن نجاح سوموزا عام 1975 لم يدم طويلا؛ حيث نتج عن تزايد قسوته وانتشار الفساد تمرد أوسع في السنوات التالية. وبعد حدوث بعض المعارك الضارية، بدأت حتى القوات الموالية له سابقا بالتخلي عنه، وفي النهاية هرب سوموزا من البلاد عام 1979.

      أيضا، يمكن للضغط الدولي أن يحول الموقف. فقد تمثلت الضربة النهائية لحكم ماركوس بسحب الولايات المتحدة بشكل كامل دعمها له بعد ادعاء ماركوس بالفوز في الانتخابات الرئاسية المشكوك في نتائجها والتي نظمت عام 1986.
_____________________
   المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون، وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May-June 2011

هوامش المترجم
1- ما حدث يمثل انتفاضات شعبية واسعة ضمت قوى اجتماعية عريضة ولم تكن لها قيادة موحدة وبرنامج متفق عليه وهذا ما جعل الفترة التي اعقبت سقوط قيادات الأنظمة وما اصطلح عليها بالفترة الانتقالية تمر بمخاضات عسيرة نتيجة الصراع الذي اشتعل حول شكل بناء الدولة الجديدة، وهذا يختلف عن الثورات بالمفهوم المتعارف عليه والتي تتوفر على قيادة موحدة وبرنامج سياسي- اجتماعي- اقتصادي يتسم بالعمق تسعى لتطبيقه بعد سقوط النظام.
2- لم يكن وجود التوتر الاثني والديني شرطا دائما من شروط الثورة، فقد نجحت ثورات في مجتمعات لم تشهد مثل هذا التوتر.
3- في الواقع وكما يشهد التاريخ، من أجل تأمين مصالح هذه الدول التي يهددها نجاح الثورات، كما حدث عندما تدخلت الدول الأوروبية عسكريا ضد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا.

                فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)
   ترجمة: د. هاشم نعمة
       تحمل موجة الثورات(1) التي تجتاح الشرق الأوسط تشابها ملحوظا مع الزلازل السياسية التي حدثت في الماضي، مثل ما حدث في أوروبا عام 1848. إن ارتفاع اسعار المواد الغذائية وارتفاع معدلات البطالة اشعلا احتجاجات شعبية امتدت من المغرب إلى عُمان. وكما حدث في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي عام 1989. فإنه نتيجة خيبة الأمل، وانتشار الفساد في ظل أنظمة سياسية لا تستجيب لمطالب الجماهير قادت هذه الأوضاع إلى حدوث انشقاق وسط النخب وسقوط أنظمة قوية في تونس ومصر وربما في ليبيا. لم يكن عاما 1848 و1989 هما المقياس الدقيق لأحداث الشتاء الماضي. حيث أن ثورات عام 1848 سعت لإسقاط الأنظمة الملكية التقليدية، وتلك التي حدثت عام 1989 كان هدفها الاطاحة بالحكومات الأشتراكية. في حين تقاتل ثورات عام 2011 شيئا مختلفا تماما يتمثل بدكتاتوريات "سلطانية". رغم أن هذه الأنظمة تبدو وطيدة، في الغالب، لكنها في الحقيقة تكون شديدة التأثر، بسبب من أن الاستراتيجيات التي تستخدما للبقاء في السلطة جعلتها هشة، وغير مرنة. وليس من قبيل الصدفة أنه رغم الاحتجاجات الشعبية التي هزت الكثير من بلدان الشرق الأوسط، إلا أن الثورتين اللتين نجحتا حتى الآن – تلك التي اندلعت في تونس ومصر- كانتا ضد أنظمة سلطانية حديثة.

       من أجل أن تنجح الثورة يجب أن تجتمع مجموعة من العوامل تمهد لذلك النجاح: توفر قناعة بأن الحكومة ظالمة وأن لا سبيل لمعالجة ذلك الوضع إلى حد بعيد، وأن استمرار وجودها بات ينظر له على نطاق واسع بأنه يهدد مستقبل البلاد؛ ابتعاد النخب (خصوصا من العسكر) عن الدولة وأن تكون غير مستعدة للدفاع عنها؛ استياء القاعدة العريضة من السكان، وجود توتر اثني وديني بين المجموعات السكانية،(2) ضرورة أن تعبأ الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية طاقاتها؛ وعلى القوى الدولية إما أن ترفض التدخل للدفاع عن الحكومة أو تقيدها عن استخدام اقصى قوتها للدفاع عن نفسها.

      من النادر أن تنتصر الثورات لأنه نادرا ما تتزامن مثل هذه الشروط. تنطبق هذه الحالة خصوصا على النظام الملكي التقليدي والدول ذات نظام الحزب الواحد، والتي يسعى قادتها في الغالب للحفاظ على الدعم الشعبي من خلال المناشدة لاحترام التقاليد الملكية أو القومية. إن النخب التي كثيرا ما اثرت من هذه الحكومات، سوف تتخلى عنها فقط إذا تغيرت ظروفها أو تغيرت أيديولوجية الحكام بدرجة كبيرة. و في جميع الحالات، تقريبا، من الصعب تحقيق تعبئة شعبية ذات قاعدة عريضة لأن ذلك يتطلب ردم الهوة التي تتمثل في تباين المصالح بين فقراء المدن والريف، والطبقة الوسطى، والطلاب، والمهنيين، والمجموعات الإثنية والدينية المختلفة. التاريخ حافل بالحركات الطلابية، والاضرابات العمالية والانتفاضات الفلاحية التي قمعت بسهولة وذلك لأنها ظلت تمثل ثورة لمجموعة واحدة، بدلا من تمثيلها لتحالف واسع. أخيرا، هناك دول أخرى غالبا ما تدخلت لدعم الحكام المحاصرين من أجل استقرار النظام الدولي.(3)

      إضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من الدكتاتورية التي غالبا ما تثبت بأنها أكثر عرضة للسقوط وتتمثل بالنظام السلطاني. مثل هذه الحكومات تنشأ عندما يوسع القائد القومي من سلطاته الشخصية على حساب المؤسسات الرسمية. ولا تتبنى الدكتاتوريات السلطانية ايديولوجية معينة وليس لها هدف أخر سوى الاحتفاظ بسلطاتها الشخصية. ويمكنها أن تبقي على بعض النواحي الرسمية للديمقراطية – مثل الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجمعية الوطنية، أو الدستور- لكنها تحكم فوق كل هذه المؤسسات بواسطة تنصيب أشخاص داعمين مذعنين لها في المواقع الرئيسية، وفي بعض الأوقات بواسطة اعلان حالة الطوارئ، حيث تبرر ذلك بالخوف من الأعداء في داخل البلاد أو خارجها.

       من وراء الكواليس، يمتلك مثل هؤلاء الدكتاتوريين بشكل عام ثروات ضخمة، والتي يستخدمونها لشراء ولاء المؤيدين ومعاقبة المعارضين. ولأنهم بحاجة للموارد لتغذية ماكنة المحسوبية العائدة لهم، فإنهم يعززون عادة التنمية الاقتصادية، من خلال التوسع في التصنيع، السلع، الصادرات، والتعليم. وهم يسعون أيضا لإقامة العلاقات مع الدول الأجنبية، بحثا عن الاستقرار الموعود في التبادل الخارجي وما يجلبه من المساعدات والاستثمار. على أية حال معظم الثروة التي تأتي إلى البلاد، تتسرب إلى السلطان والمقربين منه.

       يسيطر السلاطين الجدد على النخب العسكرية في بلدانهم من خلال إبقائها مقسمة. عادة، تنقسم قوات الأمن إلى العديد من القيادات (الجيش، القوة الجوية، الشرطة، المخابرات) وتقوم قيادات كل هذه الأقسام بتقديم تقاريرها مباشرة إلى الرئيس. ويتحكم الرئيس بالاتصالات التي تجري بين هذه القيادات، وبين الجيش والمدنيين، ويتحكم بالعلاقات مع الحكومات الأجنبية، عمليا هذه الإجراءات تجعل السلاطين هم الأساس في التنسيق بين القوات الأمنية وتوجيه المساعدات الأجنبية والاستثمارات. ولتعزيز المخاوف من أن المساعدات الخارجية والتنسيق السياسي سيتوقفان في حالة غيابهم، فإن السلاطين عادة ما يتحاشون تحديد الخلفاء الذي من الممكن أن يخلفوهم.

      ومن أجل إبقاء الجماهير غير مسيسة وغير منظمة، يتحكم السلاطين بالانتخابات والأحزاب السياسية ويقدمون المساعدات للسكان في ما يخص السلع الأساسية مثل الكهرباء، الغازولين، والمواد الغذائية. وعندما يترافق هذا الأسلوب مع الإشراف على الإعلام واستخدام الإرهاب، تضمن هذه الممارسات بشكل عام بقاء المواطنين معزولين وفي موقف سلبي.

      ومن خلال اتباع هذا الأسلوب، تمكن السلاطين سياسيا وببراعة من مراكمة ثروات هائلة في جميع انحاء العالم وتركيز السلطة بأيديهم بدرجة كبيرة. وكان من بين الحالات الأكثر شهرة في التاريخ الحديث حالة بورفيريو دياز في المكسيك، ومحمد رضا شاه بهلوي في إيران، وأسرة سوموزا الحاكمة في نيكاراكوا، وأسرة دوفالييه الحاكمة في هاييتي، وفرديناند ماركوس في الفلبين، وسوهارتو في اندونيسيا.

     ولكن مثل ما تعلم جميع هؤلاء السلاطين، كذلك وجد الجيل الجديد من السلاطين في الشرق الأوسط - بضمنهم بشار الأسد في سوريا، وعمر البشير في السودان، وزين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- بأن السلطة عندما تكون متمركزة جدا يمكن أن يكون من الصعب المحافظة عليها.

نمور من ورق

     ورغم كل محاولات الدكتاتوريات السلطانية لدعم وضعها، إلا أن لديها نقاط ضعف كامنة تزيد فقط مع مرور الوقت. ويجب أن يقيم السلاطين توازنا دقيقا بين إثراء أنفسهم ومكافأة النخبة: فإذا كافأ الحاكم نفسه وأهمل النخبة، فإن حافزها الرئيسي لدعم النظام سيزول. ولكن عندما يشعر السلاطين بأن وضعهم أصبح أكثر رسوخا ولا يمكن الاستغناء عنهم، يصبح فسادهم في كثير من الأحيان وقحا ويتركز وسط دائرة داخلية صغيرة. وعندما يحتكر السلطان المساعدات الخارجية والاستثمار أو يصبح مقربا جدا من حكومات أجنبية لا تحظى بشعبية، يمكن له في هذه الحالة أن يفرط بالنخبة والمجموعات الشعبية إلى أبعد حد.

     في الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد ويتوسع التعليم في ظل حكم الدكتاتور، يزداد عدد الأشخاص الذين لديهم تطلعات أكبر ويصبحون أكثر تعبيرا تجاه حساسية التدخلات المتمثلة بسياسة الهيمنة وإساءة استعمال السلطة. وإذ ينمو عدد السكان الكلي بسرعة، تستأثر النخبة بحصة الأسد من المكاسب الاقتصادية، في نفس الوقت يزداد التفاوت والبطالة. ومع ارتفاع نفقات المساعدات والبرامج الأخرى التي يستخدمها النظام لاسترضاء المواطنين، والحفاظ على الجماهير غير مسيسة فإن ذلك يضع المزيد من الضغط على النظام. وعندما تبدأ الاحتجاجات، قد يقدم السلاطين على إجراء اصلاحات أو يوسعون من المنافع المادية أو منافع الرعاية – كما عمل ماركوس في الفلبين عام 1984 لتجنب تصاعد الغضب الشعبي. لكن ماركوس فهم عام 1986، أن هذه الإجراءات عادة ما تكون غير فعالة بمجرد أن يبدأ الناس بالمطالبة بإصرار بنهاية حكم السلطان.

      تتفاقم نقاط ضعف الأنظمة السلطانية مع تقدم عمر الزعيم، حيث تصبح مسألة خلافته أكثر حدة. في بعض الأوقات، يكون الحكام السلاطين قادرين على تسليم القيادة إلى أعضاء من عائلاتهم من الشباب. هذا ممكن فقط عندما تعمل الحكومة بفعالية ولديها نخبة تدعمها (كما حصل في سوريا عام 2000، عندما سلم الرئيس الأسد السلطة إلى أبنه بشار) أو في حالة وجود بلد آخر يدعم النظام (مثل ما حصل في إيران عام 1941، عندما ساعدت أو روجت الحكومات الغربية لخلافة رضا شاه من قبل أبنه محمد رضا بهلوي). وفي حالة تسبب فساد النظام بنفور نخبة البلد منه فعليا، فإنها في هذه الحالة قد تتحول عنه وتحاول منع انتقال الخلافة إلى العائلة، وتسعى لاستعادة السيطرة على الدولة (كما حدث في اندونيسيا أواخر التسعينات، عندما وجهت الأزمة المالية الآسيوية ضربة إلى آلية المحسوبية التي كان النظام يتبعها).

     هناك شيء أساسي جدا يعمل ضد رغبة السلطان في الانتقال السلس للسلطة، يتمثل في أن معظم الوزراء والموظفين الكبار الآخرين يعملون بالتطابق جدا مع رئيسهم التنفيذي من أجل بقائه في السلطة وعدم سقوطه. على سبيل المثال، حاول الشاه عام 1978 تفادي الثورة بواسطة استبدال رئيس وزرائه، شاهبور بختيار، وتعيين نفسه رئيسا للوزراء لكن هذا الإجراء لم ينجح؛ حيث سقط النظام بالكامل في السنة التالية. في النهاية، مثل هذه التحركات لا ترضي مطالب الجماهير المعبأة التي تبحث عن تغييرات اقتصادية وسياسية رئيسية، ولا ترضي كذلك طموحات الفئات الحضرية والمهنية التي تنزل إلى الشارع للمطالبة بالمشاركة بحكم الدولة.

      علاوة على ذلك، هناك قوات الأمن. وبواسطة تقسيم بنيتها القيادية يمكن أن يقلل السلطان من التهديد الذي تشكله. لكن هذه الاستراتيجية أيضا تجعل قوات الأمن أكثر عرضه للانشقاق في حالة اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية. إذ أن عدم وجود قيادة موحدة يؤدي إلى حدوث انقسامات داخل الأجهزة الأمنية؛ ثم أن النظام في الحقيقة لا يستند إلى أي ايديولوجية جذابة وهو غير مدعوم من قبل مؤسسات مستقلة تضمن بأن الجيش لديه دافع أقل لإخماد الاحتجاجات. ويمكن أن يقرر الكثير من أفراد الجيش بأن خدمة مصالح البلاد ستكون افضل في حالة تغيير النظام. وإذا تخلى قسم من القوات المسلحة عن النظام – كما حدث تحت حكم دياز، وشاه إيران، وماركوس، وسوهارتو- فإنه يمكن أن تنهار الحكومة بسرعة مذهلة. في النهاية، في الوقت الذي يظل فيه الحاكم مرتبكا، مقتنعا بأنه لا يمكن الاستغناء عنه وأنه في حصانة، يجد نفسه وبشكل مفاجئ معزولا وبلا سلطة.

      غالبا ما تظهر مؤشرات ضعف السلطان فقط في وقت لاحق. رغم أنه من السهولة تحديد انتشار حالات الفساد، والبطالة، وأسلوب الحكم الفردي، لكن إلى أي مدى تعارض النخب النظام، الاحتمال الأقوى، بانشقاق الجيش غالبا ما يصبح واضحا فقط عندما تندلع الاحتجاجات على نطاق واسع. وبعد كل ذلك، لدى النخب والقادة العسكريين كل الأسباب لإخفاء مشاعرهم الحقيقية حتى تنشأ اللحظة الحاسمة، ومن المتعذر معرفة أي استفزاز سيؤدي إلى تحرك شامل للجماهير، بدلا من التحرك على المستوى المحلي. وبالتالي سيكون انهيار الأنظمة السلطانية سريعا وغالبا ما يشكل صدمة.

      طبعا، في بعض الحالات، لا ينشق الجيش على الفور على الرغم من بدء التمرد. على سبيل المثال، ما حدث في نيكاراغوا في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حيث كان اناستاسيو سوموزا قادرا على استخدام القوات الموالية له في الحرس الوطني لإخماد التمرد ضده. لكن حتى في حالة توفر الفرصة للنظام للاعتماد على القطعات الموالية في الجيش، فإنه نادرا ما يتمكن من البقاء. ببساطة يبدأ النظام بالتفكك بوتيرة أبطأ، مع نشوء حالة خطيرة من سفك الدماء أو حتى نشوب حرب أهلية تنتج من السير في هذا الطريق. لكن نجاح سوموزا عام 1975 لم يدم طويلا؛ حيث نتج عن تزايد قسوته وانتشار الفساد تمرد أوسع في السنوات التالية. وبعد حدوث بعض المعارك الضارية، بدأت حتى القوات الموالية له سابقا بالتخلي عنه، وفي النهاية هرب سوموزا من البلاد عام 1979.

      أيضا، يمكن للضغط الدولي أن يحول الموقف. فقد تمثلت الضربة النهائية لحكم ماركوس بسحب الولايات المتحدة بشكل كامل دعمها له بعد ادعاء ماركوس بالفوز في الانتخابات الرئاسية المشكوك في نتائجها والتي نظمت عام 1986.
_____________________
   المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون، وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May-June 2011

هوامش المترجم
1- ما حدث يمثل انتفاضات شعبية واسعة ضمت قوى اجتماعية عريضة ولم تكن لها قيادة موحدة وبرنامج متفق عليه وهذا ما جعل الفترة التي اعقبت سقوط قيادات الأنظمة وما اصطلح عليها بالفترة الانتقالية تمر بمخاضات عسيرة نتيجة الصراع الذي اشتعل حول شكل بناء الدولة الجديدة، وهذا يختلف عن الثورات بالمفهوم المتعارف عليه والتي تتوفر على قيادة موحدة وبرنامج سياسي- اجتماعي- اقتصادي يتسم بالعمق تسعى لتطبيقه بعد سقوط النظام.
2- لم يكن وجود التوتر الاثني والديني شرطا دائما من شروط الثورة، فقد نجحت ثورات في مجتمعات لم تشهد مثل هذا التوتر.
3- في الواقع وكما يشهد التاريخ، من أجل تأمين مصالح هذه الدول التي يهددها نجاح الثورات، كما حدث عندما تدخلت الدول الأوروبية عسكريا ضد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا.
__________
نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد 357-358 نيسان- أيار 2013