من دفاتري...
بولوت قاراجورلو ( سَهَنْد )
شاعر آذربيجان الجنوبية – إيران –
بقلم / فاضل ناصر كركوكلي
كان منظراَ موحشاً .. و قاتماً ...
حين نُصبت أعمدةُ المشانق فوق مساحات ٍ واسعة تمتدُّ حتى تخوم الأفق القاني ، تتأرجح من حبالها أجسادٌ مفتولة كادت أن تنسج من نور الصباح مشاعلاًللزمن الآتي و تقبض بقوة أصابعها الفتية القلب النابض للشعب الآذربيجاني التواق منذ زمن بعيد الى شمس الإنعتاق والتحرر الأبدي من كل أشكال القمع والاضطهاد و التهميش ..
كان منظراً أليماً ... و فاجعاً ....
حين رأينا أُلوفاً من ابناء شعبنا الشرفاء يعتلون صهوة المشانق و عيونهم تقدح صوب المستقبل....
و كان حزننا قاتلاً ...
حين كدست أكوام هائلة من الكتب التي أضرمت بالنيران على مقربة من أقدام أبطالنا المشنوقين ، يتصاعد دخانها السوداء فوق المدينة حقدا على جلادينا ... لقد ارادوا بفعلتهم الشنيعة ، بحرق الكتب التي تروي أمجادنا الادبية الخالدة وعمق وجودنا الإنساني في الحياة ،ان يحرقوا ذاكرة شعبنا و إصالة حضورنا في الزمن ، و حين كانت ألسنة اللهب تقلب صفحات تلك الكتب ، كانت عيون عظمائنا في الادب و التأريخ و الفلسفة ترمق من خللِ سطورها المحترقة بغضب و إشمئزاز للملامح المنكرة للجلادين الجهلة ( - و كانت ، بين الفينة و الاخرى ، تهبُّ ريحٌ خفيفة لترفع من تحت أكوام الكتب الملتهبة اوراقاً متفحمة تتهادى سابحة في النسمات الرقيقة لتلتصق على اغصان الاشجار العارية و على اعواد المشانق القريبة ) . 1
اربعون الف شهيد اشرقوا لفجر الحرية .....
عشرات الآلاف .. غُيّبوا في دهاليز المعتقلات ...
و مئات الآلاف .. شُردوا من منازلهم الى المنافي القسرية لمختلف المدن الإيرانية الغير الناطقة بالتركية لأجل تفريسهم و تهجينهم لخدمة الطاووس الأكبر..
هذا ما حصل في إيران ردّاً على قيام أول حركة ديمقراطية في ( 21 ) آذارمن عام ( 1946 ) ذات المضمون الإجتماعي و التوجه القومي التحرري التي إنبثقت من رحم مدينة ( تبريز ) المجاهدة و المدن التركية الأخرى في إيرن ...
ففي تلك الأجواء المنذرة بالإحتقان و الإنتقام و تحت ثقل إنعكاساتها المستقبلية في رسم ملامح مشرقة لإعادة صياغة التوجه القومي على أسسٍ اكثر صلابة وإتساعاً وإستلهاماُ للتجارب المريرة التي خاضها المدافعون الأوائل عن وجودهم التأريخي الذي يحمل اسمائهم في أرض آبائهم التي سميت إجحافاً و ظلماً بإسم ( إيران ) ... وهو إسمٌ ، كما معروف ، مشتقٌ من نزوعٍ عنصري و تفريسي بغيض ، لم يكن موجوداً في خرائط كتب الجغرافيا وعلوم التأريخ إلا في ذهن – رضا خان – الفارسي الذي اعلنه و كرسه على الشعوب المضطهدة ذات التواريخ المضيئة و الموغلة في القدم ...فتحت سماء هذا الاسم المزعوم الذي إنتهك حرمة الآذربيجانيين أرضا و شعباً ...
ولد الشاعر – بولوت قاراجورلو ( سَهَنْد ) إبن مشد مطلب أوغلو في عام ( 1926 ) في مدينة ( مراغة ) في آذربيجان الجنوبية ( إيران ) من عائلة كادحة و معدمة .....
تأمل ... وأنظر الى طالعي ...
أفكاري ... ممنوعة
مشاعري ... ممنوعة
خواطري ... ممنوعة
حديثي عن ماضي أيامي ... ممنوع
حديثي عن مستقبلِ أيامي ... ممنوع
أسماءُ آبائي ... ممنوعة
أسماء أُمهاتي .. ممنوعة
و أوصالُ أرض آبائي ... مقطوعة .. مقطوعة ...
أتعرفون ... ؟؟
بأني حين وُلدتُ
لم أكنْ أعرف
بأن التهجّي بلساني ... ممنوع ... ممنوع ... !!!
... هكذا يسطّر الشاعر فاجعة ولادته و بواكير أحاسيسه و مشاعره القومية تجاه الظلم والإستبداد ... هذا الشاعر الذي إختارت له عائلته إسم ( بولوت ) ، و يعني بالتركية ( الغيمة ) ، لم تكن تعرف آنذاك بأن هذه ( الغيمة ) الصغيرة سوف تبرق رعوداً عاصفة لتهطل امطاراً تسقي حدائق الشعر في آذربيجان ( حسب الدكتور محمد علي فرزانة ) ....
و فعلا .... كانت ولادة الشاعر و يفاعته قد شهدت تلك السنوات المخيفة من الجفاف و اليباب و من القهر والإستعباد الذي وصل الى حدِّ مصادرة أبسط حقوق شعبه المدنية و القومية ، و منها حقه الطبيعي في الدراسة و التعليم بلغته الأم التركية ، و حتى حقه في مجرد التحدث و التكلم بتلك اللغة .. و لكن إحساس الشاعر المرهف تجاه هذا الظلم و الضيم و الفاجعة ،قد حطم تلك السدود و العوائق متحديّاً بأن لا يكتب حرفا واحداً الاّ بتلك اللغة التي حرّموه منها عنوةً ، رافضاً بإصرار و عناد ، و منذ نعومة أظفاره ، بأن لا يكتب قصائده و منظوماته الشعرية الطويلة الاّ بلغته الاُم حتى نهاية حياته المضطربة ....
كان لا يلتفت إطلاقاً لظروف القمع و الملاحقة و صنوف التنكيل و الاضطهاد ، وكانت حياةُ شعبه القاسية ووجود أمته كتاريخ و حضارة ولغة مستقلة منهلاً عظيماً يمدُّه بالمزيد من عناصر القوة و الثبات على المبدأ ، فلم يتعب و لم يكلّ في حياته لحظة واحدة في سبيل إثبات و إغناء ذلك الوجود المعرفي و الفيض الكامن بالإبداع في تاريخ شعبه ، و على الرغم من الظروف المعيشية الخانقة التي إضطرته الى ترك مقاعد التعليم من الدراسة المتوسطة و الإنخراط مبكراً في الاعمال اليدوية الشاقّة لإعالة عائلته و أسرته الكبيرة ، فإنه إستمر بلا هوادة في تثقيف ذاته و صقلِ مواهبه و استنفار كامل قدراته لمواجهة أعتى أنظمة الحكم المركزي الآسيوي إتخاماً وولوجاً وإيغالاً لدماء الشعب الآذربيجاني ...
فمرت الايام الحبلى بالمفاجآت و الترقب تترى ، حتى جرى إحتلال إيران من قبل الدول العظمى في عام ( 1940 ) و إضعاف النظام الاستبدادي للشاه – رضا خان – مؤقتاً ، فإنضمَّ الشاعر بكل جوارحه الى الحركة القومية الديموقراطية لاستقلال آذربيجان .. إذ شهدت تلك الايام بواكيرَ إنتاجه الشعري المقاوم في انطلوجيا ( إتحاد الشعراء ) في مدينة ( تبريز ) عام 1945 ....
على إمتدادِ التأريخ ...
أيها الوطنُ الكبير
لم تركعْ للظلم والأعداء
اليوم ...
أستلهمُ من الطبيعةِ كلاماً من القلب
الذي إنسابَ في وقتِ السحر
طوبى للغتي ...
التي مَنحت للإنسانِ روحاً ...
... لقد عاصر الشاعر – بولوت قاراجورلو ( سَهَند ) في تلك السنوات المضطرمة بالنزوع نحو التحرر ، إرساءَ أول حركة وطنية و قومية على ارضه ، وكان الدعم المؤقت للاتحاد السوفيتي آنذاك و القوى المحبة لحريات الشعوب قد أكسب طابعَ تلك الحركة ملامح جمهورية مستقلة في إيران ، والتي أرست في غضون عامٍ ونيِّف مطاليبَ الشعب الآذربيجاني في الإستقلال القومي و الديمقراطي الكامل و الغير المشروط ، مما أثارت حفيظةَ الأطراف الدولية و الإقليمية ، و منها الاتحاد السوفيتي ، التي ما لبثت أن إنقلبت على تلك الجمهورية الفتية ، عاقدة العزم على حرقها في اتونِ منافعها و معاييرها الخاصة ..
و هكذا .. ذُبحت تلك الجمهورية قرباناً للإتفاقاتِ الدولية وراء أستار أهوائها السياسية المُريبة و مصالحها المتشابكة ....
هذا الصوت .. هذا الصدى ..
كما يتعالى يصبحُ رعوداً
تهدمُ بنيانَ الظلم
و من هديرِ هذا الصوت
تنبعثُ النيرانُ لتحرقَ
القلاعَ القديمة للشاه
الآن ...
حتى أعداء الحق الأبعدون
سمعوا قوةَ أصواتنا المدمّرة
هذه آسيا .. سوف تنهض
هذه آسيا .. سوف تستفيق
كأن قوانينَ الكون قد زلزتْ
قالوا :
يجب أن يخنق هذا الصوتُ في الشرق
تهافتَ الأعداءُ و تناسلوا
ومن كلِ حدبٍ ... تقاطر الكلابُ
ومن كلِ صوبٍ ... تناهى نعيبُ البوم
تحركت .. لندن
تحضّرت .. واشنطن
ورست البوارجُ في الخليج
فها أنا أقولُ :
ليسوا قليلين في تأريخنا
الذين ضحّوا بأرواحهم
من أجل أوطانهم الغالية
ولكني ما رأيت في التأريخ
شعباً بأكمله
أصرَّ أن يضحي بنفسه
وبكلِّ ما يملك في سبيل عزَّته
لا ... ما رأيتُ ذلك
ولم أسمع ذلك
في أي وقتٍ و زمان
فليسمعني الدنيا كلها .. و أنا أصرخً ...
لقد ذُبِحَ للصلحِ قرباناً
بلدي .. آذربيجان
... كانت هذه صرخة الشاعرمن الأعماق بُعيد المذابح التي تعرّض لها شعبه ... ولكن جذوة النيران في آذربيجان الجنوبية لم تنطفئ ، ففي تلك السنوات المريرة إنضمَّ الشاعر الى العمل لسري ضمن إطار الفعاليات القومية والاجتماعية لخدمة شعبه المكلوم يمسح جراحاته النازفة بشكل فعّال ، فألقي القبض عليه مرتين من قبل جلاوزة الشاه ، وقُدِّمَ الى محاكمات وإعتقالات طويلة و مضنية ، ولكن ظروف السجن وأنواع التعذيب والمعاناة صعّدت من وتيرة أحاسيسه القومية بشكل محيّر ، فكتب من زنزانته مخاطباً جلاديه :
قرأت .. إنبعثتُ .. إنتفضتُ
ومثل غمامةٍ صهلتُ و أرعدتُ
وأصبحتُ بركاناً ...
وكفيوضِ السيولِ العارمة
تحوٌلتْ أمواجُ جُرحي الى محيطٍ هادر
كافحتُ .. ناضلت ..
ضدَ الذين صادروا وجودي
حاربتُ ...
كلَ الذين وقفوا ضد الحق
نثرتُ كذبَهم وريائهم للريح ...
-
كلامي الصدر من القلب
كلامي المجبول بالصدق
أنزلتُه كالصخرةِ
فوق صدور أعدائي
ومثل آبائي الكرماء
جعلتُ الغاصبين
يبلعونَ دماً ...
ويتقيّأونَ ... دماً ...
-
وحين تعارضت قوتي مع قوتهم
أحاطوني من كل الأطراف
وسيّجوا خطواتي بالرماح
وقالوا عني :
هذا ... بلا وطن ... !!
وأشياء أخرى لا تخطرُ على بال ...
-
ولكني .. وقفت صامداً كالجبال
صابراً.. لم أتراجع عن وقفتي
و مثل بحرٍ هائج تسامى هديري
حين حوّلتُ محاكمهم الى مهازل ..
-
كنتُ مقيّدَ اليدين
مربوطََ الرجلين
عندما رفعتُ صوتي عالياً ...
ونطقتُ بلساني
ورغم كدارةِ قلبي .. و جُرحَِ صدري ...
أفصحتُ عن آلامي ومعاناتي..
-
أنتم ... أيها الكذّابون
تعرفون جيداً ...
بأني لستُ بدونِ وطن ..
ولم أنبتْ من الأرضِ كالفطر
أنا لي تربتي و دياري
وأرضي الواسعة ...
وليَ كان الماضي
ولي سوف يكونُ المستقل ..
-
... لقد كتب الشاعر في أعوام – 1951 – 1953 – من روحٍ متشظية في محنة السجن و الاعتقال عن آمالِ وتطلعاتِ شعبه التي أحبطت و عن آلامهم واحتمالهم الاسطوري للقمع والتسلط من قبل جلاوزة و ازلام الحاكم العنصري الذين كانوا يعيثون في الحياة فوضى واستبداداً وعن المصائب والاهوال التي أُنزلت على هامة الشعب بحرمانه من التوحد والإلتئام ، وذلك إثر تقسيم الشعب الواحد والأرض الطبيعية الواحدة الى آذربيجان الشمالية التي كانت تأِنُ تحت بساطيل الجيش الاحمرالروسي و آذربيجان الجنوبية التي رزحت ، ولازالت ، ترزح تحت نير الفاشية لحكام إيران الى يومنا هذا ...
وكانت هاتان الدولتان ، وتحت مسميّات شتى ، أممية و عنصرية و مذهبية ، قد نجحتا في فصل الجسد الجغرافي الواحد بإقامة حدٍِّ طبيعي هو نهر ( آراز ) في محاولة لتقسيم القلب الواحد الى نبضين مختلفين و ذلك ضمن إتفاقية ممقوتة سُميت بإتفاقية ( توركمن جاي ) في عام – 1828 - ...
أنا .. و منذ زمنٍ طويلٍ
أعرف نهر ( آراز )
و أحنُّ اليه منذ طفولتي المبكرة
وعندما كان أبي
يمسّدُ عنقي من آلام رقبتي
يقول .. هل عبرت نهر ( آراز ).. ؟؟
كنت أتساءلُ ...
يا أبي .. ما هو نهر ( آراز ) الذي عبرتُ .. ؟
بماذا يشبه هذا النهر... .... ...
الذي تشفي مياهُه العليل .. ؟؟
كانت عينا أبي تغرورقان من سؤالي
وفي تلافيفِ ضباب ملامحه
كان يحشر ألمه و كمده
و ينظرُ الى وجهي صامتاً . لا ينبس بحرف
ولكني .. كنتُ أرى خلسةً
بأن شعرَ بدنه قد إنتصبَ كالأبر...
مضى وقت طويل
فأطلقوا على أخي الوليد
أسم ( آراز ) ...
الاّ إن هذا السرّ
و حتى ذلك الوقت لم ينجلِ ..
ولكن ...
عندما كانت أمي تهدهدُ أخي ( آراز )
وهو في المهد ..
كانت تناغيه و تغني .. :
( فرّقوا ( آراز ) عنَّا ..
و بالدّمِ أغرقوه ..
ماكُنا نفترق عنه
ولكن ..
بالظلم فرّقوه ... ) (2)
...لقد دأب الشاعر بعد إخلاء سبيله من السجن مع بعض زملائه بعد عام – 1953 – على العمل المثابر لإعادة القاعدة التحتية للنضال القومي على كل الجبهات و خصوصاً عندما إندلعت حركة الدكتور- محمد مصدق – ضد المثلث الإيراني والأمريكي و الإنكليزي لتأميم و توزيع الثروات الوطنية ضمن خطة إستراتيجية للنهضة الوطنية والاجتماعية الشاملة والتي جوبهت بقوة رجعية وإمبريالية مضاعفة لحبس الأنفاس في الصدور ، ونفي و تشريد قادة الحركة الوطنية وتدمير كل ما هو وطني و أصيل في إيران ، و كان نصيب الشاعر هذه المرة النفي القسري الى العاصمة ( طهران ) و تشديد الرقابة عليه للحدِّ من نشاطه المحموم ، ففي تلك السنوات يتعرف الشاعر على صديقه الكاتب الكبير الدكتور ( محمد علي فرزانه ) (3) ليبدأ مشوار حياته وعصارة إبداعه لاحقا ً في تناوله الملحمة التركية الخالدة – ملحمة ده ده قورقوت – و نظمها شعراً من منظور رؤيا الشاعرلحكايات الملحمة وإعادة صياغة أحداثها المؤثرة ضمن مطولات شعرية نقلت مكانة الشاعر الادبية في آذربيجان نحو الصدارة ، لقد كان تناول الشاعرللملحمة المذكورة يعتبر بحدِّ ذاته حدثاً ثقافياً متميزاً رافقته في تلك السنين صدور منظومة الاستاذ الكبير الشاعر ( محمد حسين شهريار ) الذائعة الصيت ( حيدر بابايا سلام ) والتي أُعتبرت بحق معجزة ثقافية في آذربيجان الجنوبية ، لقد شحّذ هذا الحدث الثقافي همة الشاعر ، وجدّد إيمانه اللامتناهي لقدرات أبناء قومه في العطاء والابداع ، وارسى يقظة روحه وإلهامها من عمق منابع شعبه وقدرات هذه المنابع الخارقة على تجاوز المعوقات ولملمة الجراح ...
... فإذا كان ( شهريار ) قد نهل في منظومته من جمالية المكان وسحره كحدثٍ موغل في صميم التوق الرومانسي للإصالة الانسانية ، الاجتماعية والفلكلورية ، ضمن قالب يقارب إحياء الذاكرة القومية وطقوسها الدلالية في إطار جغرافي معيّن ومحدد هو قرية ( قره جمن ) الرابضة تحت أقدام جبل ( حيدر بابا ) - ، فإن الشاعر – بولوت قارا جورلو ( سهند ) أحال هذا الإستلهام الى عنصر للدراما الخالدة في تأريخ أمته وتشخيص إستشرافها للوصول الى إحتراقها الأبدي ضمن نسيج الفعل التأريخي في الزمن كحدث وإمتداده الى الرؤيا المعاصرة والمستقبلية ، لذا كانت ملحمة (ده ده قورقوت ) إطاراً ووعاءً لروح الشاعر القلقة و الباحثة عن أبدية وجوده كفرد ووجوده كأمة تحت الشمس ... تماما مثل البطل ( بيلكامش ) في الملحمة السومرية ، والبطل ( دومرول ) في ملحمة ( ده ده قورقوت ) ...
والجدير بالذكر بأن الشاعر الشيخ ( محمد حسين شهريار ) ، بغضِّ النظر عن فارق السن بينه و بين الشاعر – بولوت قاراجورلو ( سهند ) – قد كتب في زيارته لمسكن الشاعر المتداعي في طهران على قصاصة ورقٍ تركها له تحت الباب يخبره فيها بمجيئه قائلا :
.. لقد جئت ولم أجدك في البيت أيها المعلم الكبير ... !!
... وبعد سنوات كتب مطولة شعرية مبدعة مهداة الى الشاعر بإسم ( سهندية ) إعترافا منه بمكانة الشاعر الادبية في آذربيجان ...
... لقد إنهمك الشاعر في صياغة ملحمة ( ده ده قورقورت )وقتا طويلا ، إختزل فيها جُلَّ تجاربه النضالية وإبداعه الشعري بأوزانٍ وقوافٍ متنوعة سهلت له الوصولَ الى تعبيررؤيته القومية والفلسفية ومشاعرهِ التأريخية والاجتماعية في كتابين مؤثرين ( حديث آلة الساز ) ، ( كتابُ جدي ) ، وكتب لكل حكاية من حكايات الملحمة مدخلاً و خاتمةً شعرية تعكس الحِكم والعِبر الانسانية التي تزخر بهما الملحمة الأغزية الخالدة ..
في الحقيقة ، لم يكن في تلك الظروف القاتمة نشرُ هذا النتاج الأدبي سهلاً ، لكون هذا الابداع كان مكتوبا باللغة التركية ، ولهذا رفضَ جميع المطابع نشرَه خوفا من إنتقام السلطات الإيرانية ولمدة طويلة حتى أخذ على عاتقه لانجاز هذا العمل صاحب مطبعة في طهران مشترطاً بأن يتم طبع هذا الاثر الخالد بالسّرِ ليلاً و تحت جنح الظلام ، .. وهكذا رأت النور الطبعة الأولى من هذا العمل المبدع ليتولى صديقُ الشاعر ( الاستاذ فرزانة ) بكتابة مقدمته بإسلوبه الشعري السامق ليتم إهدائه وتوزيعه , سّراً أيضا , الى الناس الذين أحبّ الشاعر نضالهم ، واحبوا إبداعه وإخلاصه ، ولم يمر على صدور الكتاب الأول من المطبعة شهرٌحتى تلقفته الحدود التركية المتاخمة لإيران كأيةِ بضاعةٍ مهّربة ، لينشر بطباعة أنيقة في استنبول و باكو...
أنا ..لا أقول :
بأنني نسلٌ فوق الأعراقِ
ولا أقولُ :
بأن وطني فوق الاوطانِ
ففي عقيدتي وفكري ...
إن الأقوامَ أخوةٌ وأشقاء
أنا لا أصادرُ ..
من الآخرين أوطانهم وترابهم ولغاتهم ...
ولا أستحقرُ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ...
أنا لا أهددُ أحداً
أنا لا أفرّقُ ...
الزوجة َ عن الزوج
والشقيقَ عن الشقيق
والوليد عن الأم
والأظفر عن اللحم
والقلب عن القلب
والريش عن الجناح
أنا لا أنوي...
تدمير وحدة البشر
وحدةُ البشر عقيدتي وإيماني
الصداقةُ والأخوة والسلام
شعاري الأبدي في الحياة
لكن ...!!
لي كلمة أريد ان أقولها
أنا .. أيضا إنسان ..
لي شعبي .. لي لغتي .. لي وطني و عشي ...
أنا .. ما إنبثقتُ من الارض بدون جذور
أنا رجلٌ .. لي حقٌ في الحياة الحرة
لم أخلق عبداً وأسيراً
لأي كائن في الوجود
هذا زمن إنعتاقي...
وسوف أفيقُ
من أحلام الأسر..
... لقد قضى الشاعر – بولوت قاراجورلو ( سهند ) – بقية حياته القصيرة نسبيا ، ( 52 ) عامً ، في منفاه القسري في ( طهران ) ، محروما من حق التنقل الحر ومن الاستجابة للدعوات الكثيرة التي بدأت تنهال عليه من أصدقائه و محبيه ، وخصوصا أصدقائه الشعراء والأدباء في جمهورية آذربيجان السوفيتية ( آذربيجان الشمالية حالياً ) التي بدأ الشاعر يسلط نيران كلماته القاسية عليها وذلك لإحساسه العميق بأن النظام السوفيتي القائم فيها قد جرد الشعب الآذربيجاني من أهم عنصرين في حياة الشعب ... الشعور القومي المستقل والشعور التأريخي الحّر ، بمعزل عن المقاييس الجاهزة والأدلجة المتسلطة على أفكارالشعب ، .. كان نضال الشاعر ضد كل أشكال القيد والاستبداد وصولاً الى الحرية المطلقة بمعناها العام وبفضاءاتها الانسانية الرحبة ، فبدأ يكتب لأصدقائه الشعراء في آذربيجان الشمالية رسائل شعرية ملتهبة يحثهم فيها على مواصلة النضال والكفاح ، ويلامس فيها الأفق النائي للتعبير الحّر عن آلام أشقائه في الطرف الآخرمن جسد أرضه السليب الذي يقطر دماً و ضحايا أبرياء و منفيين الى سيبيريا و معذبين و شهداء أمثال الشعراء والكتاب ..حسين جاويد , أحمد جواد ، ميكائيل مشفق ، وألماس يلدرم ...
فها هو يكتب رسالة منظومة للشاعر الآذربيجاني = علي آغا كَورجايلى – الذي نشر في تلك السنين الحالكة قصيدة رمزية ينتقد فيها النظام السوفيتي باسم ( حتى الأفيال تبكي ) ( 4 ) .....
ثلاثُ ساعاتٍ مرّت ..
على منتصف الليل
في يدي قلم ... وأمامي دفتر
لا أنام ...
بدون أن أنهي رسالتي هذه
حتى إذا طلعت عيني من محجرها
من التعب ... !!
_
آلامُ عيوني .. إزدادت هذه الايامْ ..
فلا أقوى على الكتابة والقراءة ...
وسببُ الآلامْ ...
بأن عيوني ( تعوّدت على الظلامْ ) ( 5 )
لا أقدر ...
على إطالةِ النظر للضياء ...
_
اليوم ...
إستلمتُ مجلةَ ( الفن الجميل )
فيها قصيدة بعنوان ( حتى الأفيالُ تبكي )
طلبتُ قراءتها من صديق ...
قالَ ...إنها قصيدة للشاعر ( كورجايلى )
قلتُ بلهفة ...
إقرأها .... !!!
_
بدَأَ صديقي بقراء ةِ شعرك .. يا أخي ..
وكلما إستمرَ .....
كنتُ أهتفُ ...
أروحُ فداءً لعيونك ...
دعني ... أقف ...
دعني أطوفُ حولَ رأسك ...
دعني .. أحومُ حول شِعركِ ...
_
قرأ صديقي شعرك ... يا أخي ...
وأنا كلّي آذان .. أسمع ... !
أ تفتحُ...
أ نغلقُ...
و كأني .. أرى عيونك ..
عيون النسر وهو يبكي ...
يا أخي ...
أفديكَ عيني .. !!
لتسمو .. يا أخي ..
لتسمو ...
فها أنا ..
تعاليتُ ... !!
الهوامش /
( 1 ) ــ بالاش آذر أوغلو / من مقالة ( الكتب المحترقة ) في 23 تشرين 1982 – مجلة ( المعلم ) الآذربيجانية –
( 2 ) ــ ترنيمة آذربيجانية مشهورة
( 3 ) ــ الأديب و الكاتب الكبير ( محمد علي فرزانة ) صديق الشاعر ( بولوت قارا جورلو ( سهند ) ورفيق نضاله الطويل ، ولد في مدينة ( تبريز ) عام – 1923 – وتوفي في عام ( 2006 ) في مدينة ( كَوتنبيرغ ) السويدية ، كتب أكثر من ( 13 ) كتابا في الأدب والفلكلورواللغة بالاضافة الى كتابه الجديد عن الادب الشعبي والشعر الشعبي الآذربيجاني ...
ربطتني به صداقة متينة دامت أكثر من سبع سنوات مثمرة من الفعاليات الأدبية المشتركة وبالاخص ندوة ( الخوريات وبياتيلار ) والندوة الموسعة عن حكايات ملحمة ( ده ده قورقوت ) التي أقيمت في مدينة ( كَوتنبيرغ ) وفي كل الفعاليات الإجتماعية والسياسية التي كان يقيمها النادي الثقافي التركماني والجمعيات الآذربيجانية في المدينة – ولقد كتبتً في ( دفتريومياتي ) عن أهم محطات حياته الخصبة بالإضافة الى ترجمة المدخل الفلسفي العميق لكتاب الشاعر – بولوت قارا جورلو ( سهند ) – وسوف أنشرها في موسوعتنا التركمانية قريبا ... ( ف . ن . ك )
( 4 ) ــ تعتبر هذه القصيدة للشاعر( كورجايلى ) مع قصائد الشاعر الشاب ( ميكائيل مشفق ) .. الذي أُعدم من قبل الفرقة الحزبية السوفيتية ، بالإضافة الى قصائد الشعراء ( خليل رضا ) ، ( مالى صادق أفندي ) ، ( حسين جاويد ) ، ( أحمد جواد ) ، ( ألماس ييلدرم ) من أروع القصائد القومية المقاومة في آذربيجان الشمالية ضد النظام السوفيتي السابق ...
( 5 ) ــ أشارة الى إعتقاله الطويل في الزنزانات المظلمة ..
فاضل ناصر كركوكلي
مايس 2003
كَوتنبيرغ / السويد
http://sehend-turkce.blogspot.com/ألأستاذ العزيز نصرت مردان ... تحية
لم أجد طريقة أخرى لأرسال مقالة ألأستاذ فاضل سوى هذه
مع تحياتي القلبية اليك
الرابط أعلاه يحتوي على العديد من صور ( سهند ) أختار منه ما يصلح للموضوع
أديسون هيدو
(
____________________
1 ) ... حجر ... !!
شعر / فاروق فائق عمر
تناول في يدكَ .. حجرا ...!
إقلبه يميناً وشمالاً ..
لا شئ ...
غير ألف عام .. أو مليون عام ...
ربما أكثر ...
بينك وبين ذلك الحجرْ ..
لا أحد يدري ..
ولكن .. تيقّن .. !!
إنك سوف لا تعمّر مثله ...
إذن .. تناول في يدك حجراً ...
و تيقّن ..
بأن ذلك الحجر ...
هو عمرُكَ المديد ..
من ألف عام .. أو مليون عام ..
ربما أكثر ...
و تيقّن أيضاً ...
بأن ليس للحجر قلبٌ ...
أو سمعٌ أو بصرْ
أنه ..حجرْ ..!
بلا حياة...
بلا روح ...
لكنه مستمرٌ فيك...
وأنت تحيا فيه ..
خالدَ الذِكرْ ... !!!
_
( 2 ) – الظلام ...
ظلمةٌ حالكة ...
خيّمت على المدينة ...
تزحفُ .. كالدماء في الشرايين ..
نحو القلعة ..
الأشجارُ بدتْ سوداء قاتمة
والغيومُ عبرت تسابقُ الريح ..
ولكن النجومْ ..
لمعت من خلال الغيومْ
أتعرفُ .. ؟؟
بأن الضبابَ في الصباح يأتي ناصعاً
انظرْ .. إذن ..!!
كيفَ أصبح إخضراءُ السهب رماداً
وكيفَ إنحسرت الظلالُ
وهي تموت راقدة ..
وحين ينسلُّ الضبابُ هارباً..
أسمعُ تغريدَ الطيور
وتنهيدةَ أوراق الخريف ..
أهكذا ... تنمحي الحياة .. ؟؟
كي يخيَّم الظلامُ
على المدينة...
ليلاً .. ؟؟؟؟