المحرر موضوع: الشـئ الـذي لم أشـبع منـه طـول عمـري !  (زيارة 2452 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حبيب تومي

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1724
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الشئ الذي لم أشبع منه طول عمري !
بقلم : حبيب تومي / اوسلو
اليوم ارتأيت ان اكتب مقالاً بعيداً عن السياسية والهموم اليومية لشعبنا ، وكان الأختيار على موضوع شخصي لازمني طيلة حياتي على مدار ستة عقود ونيف ، ونطرح من هذه الفترة حقبة الطفولــة وقليلاً من فترة الشــباب المفعمة بالحيوية والمثابرة والزاخرة بالعمل والأقدام والمغامرات  .
لقد توصلت الى قناعة مفادها : ان كثير من اهتمامات الحياة بمباهجها وأحزانها ، لها حدود ويمكن ان يبلغ المرء معها تخوم الأشباع وقد يصل الأمر الى التبرم والملل  .
لقد انخرطت في العمل السياسي منذ فترة الشباب بقناعتي الشخصية الكاملة ، واعتقد لم يكن هنالك قوة على الأرض كانت تستطيع ان تثنيني عن عزمي وإرادتي في اختياراتي السياسية . ويوم افتراقي من هذا العمل كان بمحض أرادتي  وبقناعتي الشخصية  دون ان اهتم بعوامل الضغط  او اساليب الأضطهادات التي كانت تمارسها السلطات بحق العاملين في هذا المجال . لقد توصلت بيني وبين نفسي الى سدّ منيع  يمنعني من الأستمرار بهذا الطريق لعدم جدواه وهذه كانت قناعة شخصية لم يمليها علي شخص او جهة معينة .
ثم كان العمل الوظيفي حيث كنت اجد فيه متعة لما فيه من سفر وترحال  بين الموانئ  والعمل البحري ، والصيد في اعالي البحار وما كان يصادفنا من غرائب المخلوقات البحرية وما يعتري الحياة في هذا المحيط من مصاعب وغرائب ومخاطر ، فكنت أجد في كل ذلك متعة وأرى فيها ديناميكية للحياة .
 لكن بعد نشوب الحرب مع ايران وتحولنا الى موظفين حكوميين عاديين ، سئمت الحياة الوظيفية لما فيها من روتين غير متجدد يبعث على الممل ، مما دفعني الى الأستقالة رغم ما ترتب علي من مبالغ جراء هذه الأستقالة .
ثم كان هنالك الأنخراط بالأعمال التجارية ، في هذا العمل استطعت ان احقق نتائج مالية مهمة بالعمل في مجال المشروبات الروحية ، لكنني طلقت العمل وبما فيه من أرباح  بسبب هيمنة الجهات الأمنية على هذا القطاع والنظرة الدونية الخاطئة للعاملين في هذا القطاع فارتأيت ان اهجر هذا العمل مع أرباحه الى غير رجعة .
وقع اختياري هذه المرة على العمل في قطاع البناء وتجارة الأراضي وتشييد البيوت والعمارات والمتاجرة بها ، ورغم خبرتي القليلة في اعمال البناء ، لكن رغبتي الشديدة وتعلقي بهذه المهنة كان وراء الألمام بدقائق الأمور في هذا القطاع الحيوي الذي يحتاجه وطننا ، إن العمل الشاق والتعب المضني  لم يمنعاني من ألأستمرارية والمثابرة .
 لقد كان يستهويني أن أجلب الخبز والتمر والطماطة والجبن الأبيض كغذاء للعمال ونفترش الأرض وأتربع معهم ونبدأ بالأكل واعتبر هذا الخبز والتمر والجبن اطيب وألذ طعام على الكرة الأرضية .
لقد كانت تغمرني السعادة حينما أنتهي من تسقيف الدار بالصبة الكونكريتية ، وكنت في اليوم التالي أقف على السطح وأقول كم هو عملي مهماً ، لقد خلقت من قطعة ارض خالية مسكناً رائعاً وكنت أعتبر ذلك انجازاً  كبيراً في الحياة .
 اليس العمران منهج لتقدم الحياة في كل المراحل التاريخية للتطور البشري ؟
وهنا تكون الرياح أيضاً قد هبت بما لا تشتهي السفن ، فكان قراراً حكومياً يحصر امتلاك العقار في بغداد لمن له سجل في تسجيل عام 1957 فحسب ، وهذا القرار وضع حداً لأعمالنا العمرانية ولطموحاتنا الشخصية .
لم أتخيل في ذهني في يوم من الأيام فكرة الهجرة من العراق ، وكان لي في ذلك الوقت  نصيب كبير في الحصول على الهجرة لأية دولة اختارها دون صعوبات كبيرة ، لكن بعد الظروف التي ألمت بالعراق بدأت فكرة الهجرة تختمر في ذهني ، وهنالك من يقول :
ان الوطن حيث تكون كرامتي محفوظة وليس بالضرورة حيث نشأ ودفن أجدادي . المهم تجرعت سم فكرة الهجرة راضياً  بعدما حل بالوطن ما حل والى اليوم .
في سلسلة طويلة من الأعمال والمفارقات ولحظات الأفراح والأتراح  ، كان معي دائماً  صديقاً حميماً لا يفارقني أبداً ، وهذا الصديق الوفي هو الكتاب ، وهذا الكتاب هو قرين الفكر والأبداع .
فإن كنت في كل مرحلة عمرية ، او ظروف عائلية او ضرورات معيشية كنت أتحول من نشاط الى آخر لكن ثمة امراً او شأنا او شيئاً واحداً بقيت متعلقاً بأذياله لا استطيع الأنفصام عنه ، واعتبرته عضواً مهماً من جسمي وكياني وشخصيتي ، وهذا الشئ هو كالغذاء او الهواء او الماء لا استطيع مفارقته او الأستغناء عنه ، إنه ببساطة " الفكر "  الفكر هو الكتابة هو القراءة هو الحوار هو الرأي ، لكن واحة الفكر هذه  تبقى جرداء كئيبة ما لم يداعب نباتاتها وأشجارها وأغصانها وأورادها ،  نسيم الحرية .
كلما أقرا كتاباً أشعر بأن ثمة امامي مزيداً من الكتب علي قراءتها ، لا بل إنني  بحاجة ماسة اليها ، وكلما كتبت شيئاً أشعر ان هنالك اشياء كثيرة تنتظرني لأكتب عنها . وهكذا يطلقني الفكر ويتركني سارحاً في طريق يمتد نحو اللانهاية .
يرى سبينوزا في الناس الحكماء بأنهم صالحون بفضل عقولهم ، إنهم رجال يسترشدون العقل في البحث عما ينفعهم ويحبون لأنفسهم ما يحبون لغيرهم .
 أما فولتير الذي كان انتاجه الفكري أعظم انتاج في عصره فيقول : ان من لا يعمل لا قيمة لحياته ، وكل الناس أخيار إلا الكسالى . وتقول سكرتيرته انه لم يكن بخيلاً بشئ سوى بوقته وهو يقول :
كلما تقدمت في العمر أكثر شعرت بضرورة العمل اكثر واصبح العمل لذتي الكبرى .. وإن أردت ألا ترتكب الأنتحار فأوجد لنفسك عملاً .
هكذا إذن الحياة هي السيرورة في العمل ، لكن يأتي العمل الفكري تاجاً مهيباً لكل هذه الأعمال وللحياة نفسها  .
 حبيب تومي / اوسلو