كثرٌ هم من علـــّــقوا آمالهم على الساسة الآشوريين في العراق بـُــعَيد سقوط صدام، وكشعب شرقي عاطفي، لم نرضَ قراءة الواقع من حولنا لكي نعرف كيف ومّن ولماذا نساند فلان أو فلان ... ووصلنا إلى ما نحن عليه اليوم بعد أن سار الكثيرون منا كالخراف وراء ابتكار جديد وفقا لنظرية فريدة من نوعها في تاريخ سياسة الشعوب : "نغيــّـر إسمنا لننال حقوقنا" ... نعم، فقد سألناهم في حينها لماذا تغيرون إسمنا ؟ فقالوا "من أجل الوحدة"، وقلنا لماذا الوحدة ؟ فقالوا "لننال حقوقنا" فقلنا وما هي حقوقنا ؟ فأجابوا "التمثيل القوي" ... وحين سألناهم لماذا التمثيل القوي وماذا ستكون مطالبكم ؟ قالوا "المرحلة تتطلب كذا ... وواقعنا كذا .."، تغيرت المرحلة اليوم وتغيــّـر معها واقعنا من سيء إلى أسوأ ولا من رقيب أو حسيب، عقدوا مؤتمرا سخروا فيه من كافة حضور المهجر الذين يعشقون التقاط الصوَر، دعوا رجال الدين إلى المؤتمرات السياسية ثم لاموهم على التدخل في السياسة .... والكذبة مستمرّة.
وكي لا ننسى، أعيد نشر مقالتي المتواضعة بسردها التاريخي المملّ لمن يخاف القراءة، إنما المعبــّـر عن دروس لا ننساها، حول ما كان الشعب الآشوري ينتظره من مؤتمر أصبح بعد 13 سنة ذكرى قبيحة في الذاكرة الآشورية وحدثا عارّا على جبين من حضروه وصفقوا له، فمن ناحية الهوية تطوّر اسمها من "آشوريين" إلى "كلدوآشوريين"، ثمّ إلى "مكوّن مسيحي"، ومن ناحية الحقوق تمّ تقسيم "مطلب الأرض" وعزل نوهدرا (المكرّدة إلى" دهوك") عن ما بات يسمّى "سهل نينوى" كي يسهل ابتلاعه من قبل الإحتلال الكردي، بدأ بـ"منطقة إدارية" ثم اصبح "حكم ذاتي" ثم "محافظة" تابعة للإحتلال الكردي ... كل هذا فيما يزال الشعب الآشوري يناقش والإعلام الآشوري يتملــّـق، وحزيباتنا البائسة تنقسم حين كان الكثير من المنشقين اليوم، ماسحي جوخ الأمس.
السطور أدناه ليست موجــّـهة إلى حــُـزَيب معيـّـن، بل إلى قسم من الشعب الآشوري الذي يعمَد إلى تصديق الكذبة لإقناع نفسه بأنه "أومتانايا"، ولكن الحق يقال، فالحزيب المقصود في بعض الأسطر فرَضَ نفسه كمضرب مثل لما يجب أن نحذر منه في المستقبل وقبل فوات الأوان.
آشور كيواركيس – بيروت
جريدة إيلاف: 16/09/2003 – صفحة "أصداء"نشرت هذه المقالة قبل انعقاد المهرجان الإنتخابي لحركة يونادم كنــّـا في تشرين أوّل/2003 - أملا أن يأتي المؤتمر بمقرّرات مصيرية.المسألة الآشوريّة وحقُّ تقرير المصير
في عُهدة البائسين...
يتفق العلماء بأن الحضارات قد تكوّنت عبر حقبات التاريخ من مرحلة الصيد إلى الرّعي ثم الزراعة ثمّ البناء الحضاري الذي تمثل بمجتمعات قائمة على أسس الترابط العرقي بوحدة التقاليد والأرض والتاريخ، لتتكوّن القوميات من خلال ذلك الترابط بمميّزات خاصّة لكل منها. وقد أدّى نشوء الحضارات وتعدّدها على هذا الكوكب إلى صراع لا متناهي خصوصاً فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط لأسباب أغلبها إقتصادية أوجدتها دائماً دول الغرب بسبب وقوع المنطقة ضمن طريق الحرير(The Silk Road) (
1) وباستغلالها التنوّع الديني لشعوب هذه المنطقة.
واليوم، الثروات النفطية هي التي تجذب مؤامرات الدول العظمى وفِتَنِها باستغلالها لميزة المنطقة كمنشأ الأديان السماوية، فالعقليّة الشرقيّة بعنفوانها الديني والمذهبي كانت سبباً في إبادة الملايين عبر التاريخ حيث تجتمع المسيحيّة والإسلام واليهودية، ولا يتفق أتباعها إلاّ على عبادة الله بينما لا يعترف البعض منها بكل ما يتعلق بالتطوّر والقبول بالآخر – ناهيك عن دوافع أخرى مسببة للعداء بين الشعوب التي تنتمي إلى هذه الأديان، ذلك انطلاقاً من أيديولوجيات قومية أفرزت تطلعات متضادّة تصُبّ في خانة "الصراع من أجل الوجود" ضمن البقعة الجغرافية المشتركة، وطالما تستمر مشكلة "صراع الأديان" و "صراع الحضارات" بدون ذكرها بصراحة ومعالجتها، فإنها تتفاقم لتزيد من الكراهية بين شعوب الشرق الأوسط، لتكون الشعوب الأصيلة "كبش المحرقة" في صراع الدخلاء ومن هذه الشعوب سنتناول الشعب الآشوري الأصيل في المنطقة، الذي عانى منذ قرون ولا يزال يعاني فيما لا تزال قضيّته الحقة تسحَق بين مطرقة الغرب الإمبريالي وسندان الجار المتخلف...
ليست المسألة الآشوريّة إلاّ مشكلة خلقها الدخلاء على الوطن القومي الآشوري لتأخذ شكل "قضيّة" وتتفاعل في عدّة أوجه حينما تواجه القوميّة الآشورية مشكلة مصيريّة انطلاقاً من الإنتماء العرقي أو الديني، فالمسألة الآشورية دخلت في القرن الماضي إلى حلبة "المشاكل" في الشرق الأوسط من مدخلين؛ الأوّل ديني يعود تاريخه إلى اعتناق الآشوريين المسيحية في القرون الأولى للميلاد، والثاني قومي يتمثل بالمعاناة من منطلق إثني بعد الإنتفاضة القومية الأولى عام 1915 في عهد البطريرك الشهيد مار بنيامين شمعون.
وينتمي الشعب الآشوري إلى آشور (المعروفة ببلاد ما بين النهرين)، وهو الشعب الذي أسّس أوّل "دولة" في التاريخ وكان ذلك في الحقبة الآكادية ولغته هي الآشوريّة الحديثة {الآشورية القديمة (الآكادية)، المتأثرة بالآرامية} والتي بدأ استعمالها منذ عهد الملك الآشوري "سنحريب"(705-681 ق.م) والتي تعرف أيضاً باللغة "السُّريانية" في الأدبيّات الكنسيّة نسبة إلى انتشارها بواسطة كنيسة المشرق التي عُرفت بالسُّريانية.
وبعد مجئ السيّد المسيح اعتنق الآشوريّون المسيحيّة على يد القدّيسين الرسل في القرن الأول الميلادي (رسالة بطرس الأولى: 13:5) وكان ذلك سبباً للمجازر بحقّهم وتحديداً في عهد الملك الفارسي شابور الثاني في القرن الرابع للميلاد، ثم عهد الخلافة الإسلامية فالدولة العثمانية التي اصطبغ تاريخها بدماء كافة رعاياها وخصوصاً المسيحيين منهم. ويبلغ تعداد الآشوريين في العالم حوالي 3.2 مليون، يعيش قسمٌ كبيرٌ منهم في دول الشتات بعد أن تمّ تهجيره قسراً، فيما لا يزال القسم الآخر يعيش تحت تهديد معظم جيرانه منذ تعاقبهم على بلاد آشور عبر التاريخ.
1- سُخريَة القدر (لمحة تاريخيّة)إن الأطماع الغربية في المنطقة منذ قرون، كان لها دور أساسي في المصائب التي تعرّض لها الآشوريون، فبعد اتفاقيّة عام 1535 بين الدولة العثمانية وفرنسا سُمح للأخيرة بإرسال "المبشرين" إلى الأراضي التي كانت تحت سيطرة العثمانيين، فبدأت الهجمة الكاثوليكيّة على كنيسة المشرق من قبل إرساليات الدومينبكان والكبوشيين واليسوعيين والكرمليين... وانتهى ذلك إلى فصل قسم من الآشوريين عن تراثهم الكنسي المشرقي العريق لينضمّوا إلى الكثلكة في 9/4/1553، ثمّ عظمت هذه الكنيسة تحت ضغط التعذيب من قبل الأكراد (!) الذين كانت الإرساليات تحرّضهم بأموالها ليجبروا القرويين الفقراء على ممارسة الطقوس الكاثوليكية في كنائسهم(
2)، وهكذا ولدت من المعاناة كنيسة جديدة في المجتمع الآشوري، وانتشرت في سهول آشور منذ منتصف القرن التاسع عشر وتعرَف اليوم بالكنيسة "الكلدانية" وهي متحدة مع روما (Uniat Church).
وطالما استنجد الآشوريون بالدول المسيحيّة المجاورة للتخلص من اضطهاد المسلمين في المنطقة، وقد أعطى المفكّر فريدريك أنجلز مثلاً عن ذلك في إحدى رسائله لكارل ماركس حيث قال: "طالما أنّ المسيحيين ما زالوا يُضطهدون من قبل العثمانيين، فبالتأكيد سينظرون إلى الكنيسة الأورثوذوكسيّة وقائد الستين مليون أورثوذوكسي كائناً من كان، كمحررهم وحاميهم" (
3). وإنّ ما يؤكد أقوال أنجلز هي رسالة البطريرك مار روئيل شمعون فيما بعد الى الملك الروسي ميخائيل(
4) بتاريخ 14/أيّار/ 1868، حيث يقول البطريرك في رسالته مُستنجداً: "… نحن أمّة فقيرة بالكاد تحصل على خبزها... لقد أخذ الأكراد الكثير من كنائسنا وأديرتنا واختطفوا النساء والعذارى وأجبروهن على اعتناق الإسلام فيما الأتراك أسوأ منهم، فقد أخذوا ممتلكاتنا وشدّدوا علينا الضرائب، كما أن الأكراد أيضاً يأخذون مالنا باعتبار أننا عبيدهم (كمسيحيين - الكاتب)... لذلك نناشدكم بإسم سيّدنا المسيح ومعموديّته وصليبه المقدّس بأن تحرّرونا من هذه الدولة أو تجدوا لنا أي حلّ..." (
5).
واستمرّت معاناة الآشوريين بدون اهتمام الروس لدرجة أن انضمّ 30 ألف من آشوريي إيران إلى الكنيسة الروسية الأورثوذوكسيّة في 24/03/1898 بشرط أن تحميهم روسيا من الأسلمة والإضطهاد، وبذلك نسيَت الإرساليات الأنكليزية والفرنسية صراعها من أجل السيطرة على كنيسة المشرق، واتحدتا لمنافسة الكنيسة الروسيّة فبدأتا ببث الفتن لدى الإيرانيين والسلطان العثماني مدَّعيتين بأن الآشوريين يتعاملون مع الروس مما أدّى إلى هجرة الكثير من الآشوريين إلى روسيا في القرن التاسع عشر، وخصوصاً من السهول (كاور، ألبق، سالامس). ولم يجد الروس الوقت المناسب لذلك "التحرير" الذي كان يطالب به الآشوريون، إلاّ في الحرب العالمية الأولى حين بدأت بوادر المذبحة العامّة للمسيحيين تلوح في أفق السماء التركية، وحين شعر الروس بتهديد خطير من قبل الأتراك والألمان على الجبهة الشرقية (جبال القوقاز) فاستغلت أحوال المسيحيين في ما يُعرَف اليوم بتركيا، واعدة إيّاهم بالإستقلال والحرية بعد المعاناة على مدى القرون، في حال انضمامهم إلى الحلفاء (تماماً كما فعلت بريطانيا مع العرب عام 1916، ولكنها حقّقت لهم الإستقلال في النهاية).
وقبيل بداية الحرب العالمية الأولى كانت قد بدأت النزعة القوميّة تغزو مجتمعات الشرق الأوسط من أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر تأثراً بالثورة الفرنسية، وبدأت شعوب المنطقة تتحوّل من العنصرية الدينية إلى القومية، فقد أسّس الأتراك في تمّوز 1908 جمعيّة "تركيا الفتاة" التي تطوّرت إلى "حزب الإتحاد والترقي" الذي دعا إلى تتريك كافة القوميات المتواجدة على الأراضي التي ما زالت تركيا تعتبرها حتى اليوم تركيّة، كما أسّس العرب جمعيّة "العهد" السرية وجمعيّة "العربيّة الفتاة" التي لعبَت دوراً كبيراً في الحرب العالمية الأولى، في إقناع الحسين بن علي (شريف مكة) بالإنضمام إلى الحلفاء على أساس قومي "عربي" بعد أن كان قد أعلن وقوفه ضدّهم في بداية الحرب إلى جانب العثمانيين على أساس ديني "إسلامي" (وتحديداً "سنّي")، وفيما كان العرب يتعاونون مع الإنكليز لنيل حرّيتهم، كان الإنكليز يبادلونهم التعاون للسيطرة على بترول الشرق، وذلك باعتراف لورانس العرب (
6).
وكما العرب، خاض الشعب الآشوري الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء سعياً لللإستقلال والتخلص من ظلم العثمانيين، وعُرف في المنابر الدولية بعبارة "الحليف الأصغر" وخلال ذلك تعرّض للمجازر التي أودت بحياة ثلثي الأمّة الآشورية آنذاك. وتعتبر مجازر الآشوريين في الحرب العالمية الأولى مجازراً قومية ودينية في آن، فالهدف من خوض الآشوريين الحرب كان التحرّر من الظلم وتأسيس الدولة الآشوريّة في وطنهم التاريخي وممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، وبعد خوض الآشوريين معاركاً ضارية ضدّ الفرس والأتراك والقبائل الكردية، وخسارة أكثر من 200 ألف آشوري (فقط خلال أوّل سنتين من الحرب)، أعدّ نخبة من القادة والمثقفين الآشوريين بيان "إتحاد آشور الحرّة" في 28/07/1917 وعُرف بمنشور أورميا (Manifesto Uremia) وجاء هذا المنشور في عشرين فقرة كدستور للدولة الآشوريّة المنشودة، وقد بدا متطوّراً أكثر من دساتير معظم دول الشرق الأوسط اليوم كونه اعترف بحقوق كافة القوميات المتواجدة في آشور، وقد لاقى تأييداً من دول الحلفاء الذين عقدوا اجتماعاً خاصّاً مع القادة الآشوريين من أجل بحث مشروع الدولة الآشورية، وكان ذلك في بداية عام 1918، وحضر الإجتماع ممثلون عن بريطانيا وروسيا وفرنسا ووعدوا فيه الآشوريين بالدولة المستقلة بعد انتهاء الحرب، وهذا ما أكدّه القنصل الروسي في إيران فاسيلي نيكيتين الذي مثل الجانب الروسي في ذلك الإجتماع حيث قال: "إنّ ممثل بريطانيا شدّد في ذلك الإجتماع على منح الآشوريين الدولة المستقلة بعد الحرب لأنهم يستحقونها بجدارة"(
7) – وكانت تلك الإنطلاقة الفعلية وبشكل رسمي، لمشروع الدولة الآشورية لأوّل مرّة في تاريخ الآشوريين بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م، حيث تأسّس "المجلس القومي الآشوري" في مدينة أورميا الآشورية في إيران، ليكون بمثابة الحكومة الآشورية لدولة آشور الحرّة ولكن ذلك لم يدُم طويلاً، فبعد أن استغلّ الروس الروح القوميّة الآشورية لتحقيق انتصارات عسكرية في آذربيجان إيران، نشبت ثورة لينين وانسحب الروس من الحرب فبقي الآشوريّون محاصرين من أعدائهم الأكراد والإيرانيين والأتراك وقاوموا لعدّة أشهر حتى نفذت أسلحتهم، فاستغلت بريطانيا الوضع هذه المرة(
8 ) واستدرجتهم إلى سهول آشور التي ليست إلاّ الجزء الأساسي من الوطن القومي الآشوري (شمال العراق الحالي).
وفي العراق تمّ إسكان آشوريي تركيا وإيران في مخيّمات مؤقتة تعرّضوا فيها لهجومات عنيفة إثر الثورة العشرينيّة لمجرّد كونهم من أتباع دين "المستعمر" وكان ذلك السبب الرئيسي في حذر الآشوريين من العرب واعتبارهم "العدو الجديد" إلى جانب الأتراك والقبائل الكرديّة، فاستغلت ذلك بريطانيا وبدأت بافتعال المشاكل بين الحكومة العراقيّة والآشوريين بعد أن انتهى دورهم في إخراج الأتراك من شمال العراق إثر مواجهات دامية(
9). وتتلخص فِتن الإنكليز بما سُمّي "مشروع الإسكان" بعد أن رفضت تركيا بحزم عودة الآشوريين إليها في اتفاقيّة لوزان عام 1923، حيث ضُمَّت الموصل عام 1925 إلى العراق بفضل الآشوريين، الوحيدين الذين صوّتوا لذلك أمام لجان عصبة الأمم، وقد طالب الآشوريون بتجميعهم ضمن وحدة سكانية متجانسة نظراً للأخطار التي يواجهونها بين قبائل الأكراد والعرب ولكن لم يلقَ الطلب الآشوري آذاناً صاغية، بل تمّ إسكانهم في المناطق الموبوءة بالملاريا مما قضى على نسبة كبيرة من الأطفال(
10)، وتمّ إسكان القسم الآخر في أراضي غير صالحة للزراعة وتحت رحمة الإقطاعيين الأكراد، وموزّعين في مناطق متفرّقة عن بعضهم، وهذا كان حجّة الحكومة العراقيّة فيما بعد لرفض قرار عصبة الأمم بخصوص الحكم الذاتي للآشوريين (
11) وهكذا استمرّت بريطانيا بافتعال المشاكل بين الآشوريين والحكومة العراقية إلى أن انتهى ذلك بمذبحة في آب- 1933 ذهب ضحيّتها حوالي 4000 رجل وطفل وإمرأة وذلك على يد القوات النظاميّة العراقية بقيادة العقيد بكر صدقي (الكردي) الذي رُقّي إلى رتبة لواء كمكافأة على ارتكابه المجزرة، وبمشاركة القبائل العربية تحت شعار الجهاد وتحت الإشراف العلني المباشر من بريطانيا (
12) وتمّ نفي البطريك مار إيشاي شمعون وعائلته إلى قبرص. وقابل ذلك هجمة إعلاميّة على الآشوريين في كافّة الصحف العربية، وانهالت التهاني على الأمير غازي بن فيصل الأوّل الهاشمي الذي أمر بتنفيذ المجزرة باعتبار أن الآشوريين "عملاء للإستعمار" متناسياً من الذي جلب عائلته من السعوديّة لحُكم العراق، ومن الملاحظ أن هذه التهاني أتت بنغمة عروبيّة (قوميّة ظاهرياً) ... بينما في الحقيقة لم تأتِ إلاّ من طائفة "السنّة" حصراً بدون غيرها، هذا وقد حاولت دول الحلفاء بعد المجزرة نقل الآشوريين من آشور إلى مناطق أخرى في العالم بهدف إذابتهم في مجتمعات غريبة وكأنهم شعبٌ لقيطٌ لا وطن له، ولكن باءت هذه المحاولات بالفشل بعد إصرار الشعب الآشوري على البقاء في أرضه. وقد بقي مشروع الدولة الآشورية حلماً بعد وعود الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، ونتيجة تلك الوعود اعتبر الآشوريون "عملاء" من قبل "الدخلاء" الذين كانت معاملتهم السيئة السبب الرئيسي لإستنجاد الآشوريين بروسيا ثمّ بريطانيا، علماً أنّ الآشوريين اتبعوا نفس الطريقة العربية في التحرّر من العثمانيين، لا بل كانوا أقلّ ولاءً للإنكليز، ومن الجدير بالذكر أنه حتى علماء النجف قد رحّبوا بالدخول البريطاني إلى العراق بعد هزيمة تركيا، وقد أرسلوا التهاني إلى الملك جورج الخامس(
13).
هكذا فإن قوى الأمر الواقع هي من يقرّر هويّة العميل، وهي من يُشرّع العمالة للمستعمر ساعة يشاء، لدرجة أن الآشوري أصبح حذراً قبل التفوّه بأية كلمة. فمن المحرّم عليه ذكر "الوطن القومي الآشوري" أو "الدولة الآشورية المستقلة" وإلاّ سيصنّف رأساً في عداد "الصهاينة" و "العملاء"، فيما يحق للدخلاء على وطنه القومي المجاهرة بحقهم بالدولة المستقلة، وقد نجحوا في فرض مطالبهم على من يسمّون أنفسهم "وطنيين" من العرب.
2- الحركة القوميّة الآشورية تفتقر إلى الفكر الثوري لقد حذا أعداء الإتحاد السوفياتي حذوه بعد سقوطه، وذلك في تطبيقهم للأمميّة التي فرضت نفسها لاعتبارات جغرافية - إقتصادية بغض النظر عن الإنتماءات القوميّة، حيث نشأ الإتحاد الأوروبي الذي يجمع عدّة قوميات والذي سيتحوّل بدوره إلى "الأمّة الأوروبية" تماماً كما "الأمّة الأميركية"، فيما فشل العرب في تحقيق "الأمّة العربية" التي من المفترض أن تجمع من يعتبرون أنفسهم عرباً من المحيط إلى الخليج، لا بل حتى فشلت دوَل الشرق الأوسط (عربية وغيرها) في تحقيق "الأمة" ضمن الدولة الواحدة (!)، وبذلك نستطيع التأكيد على أن الشعوب الشرق- أوسطيّة المسيطرة على مواطن الآشوريين فشلت فشلاً ذريعاً في تطبيق مستورداتها من الغرب فيما يتعلق بالنظريات القوميّة المتطوّرة، وهذا الفشل يعاني منه العراق بشكل خاص حيث تعدّد القوميات والأديان. فيتطلع اليوم الشرفاء من العراقيين إلى "تأميم" العراق، أي اعتبار العراق أمة كاملة قائمة بذاتها وتجمع كافة القوميات والأديان لدرجة أن طـَـرَحَ البعض منهم سحب العراق من جامعة الدول العربية، ويدعو البعض منهم أيضاً إلى الوسطيّة في الفكر السياسي العراقي، أي إلى تصحيح الطروحات القوميّة لكل فئة بما يتناسب مع مصلحتها والمصلحة الوطنية العامة... فيما بالواقع ينخر جسم العراق التعصّب الديني المتستّر وراء شعار التسامح، والتخلف الفكري المتستّر وراء شعار الأخلاق والتقاليد الدينية، والإنفصالية المتسترة وراء شعار الفدرالية... والشعب العراقي وساسته على أتمّ المعرفة بذلك، وبشكل خاص الشعب الآشوري وساسته الذين يستمرّون برفع الخطاب الوطني العراقي – و"الكردستاني" !!! - فوق الخطاب القومي الآشوري وعلى حساب القوميّة الآشورية.
مع زوال النظام الذي تلصَق به اليوم كافة الجرائم في العراق، برزت النوايا الحقيقيّة لدى كافة الأطراف السياسيّة العراقية، وقد سبق أن برزت هي هي في مؤتمر لندن المشؤوم الذي عقدته المعارضة العراقيّة في كانون الأوّل 2002، فبعد تأسيس مجلس الحكم لوحظت العبارات نفسها التي استعملت في مؤتمر لندن والتي لا تناسب تركيبة الشعب العراقي، كذكر العرب بأسماء طائفية (السنّة والشيعة) والآشوريين بعبارة "مسيحيين" أو "شعوب كردستان" بينما يُذكر الأكراد وحدهم بإسمهم القومي، علماً أنهم "سنة وشيعة" كما العرب!! كما نلاحظ بأنّ بيانات المجلس الجديد تأتي بألحان إسلامية... كعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" في بدايتها وهذا يناقض مفهوم العلمانية الذي يدّعي به أغلب أعضاء مجلس الحكم، وقد جاء في بيانه المؤرَّخ 22/07/2003 في الفقرة/3/: " إحترام الهويّة الإسلامية لغالبية الشعب العراقي..." بدون ذكر باقي الأديان (مسيحيين، يزيديين، يهود، صابئة...) والتي جميعها عراقية قبل ظهور الإسلام.
إنّ صراع الحضارات والأديان ما زال مستمراً في عموم منطقة الشرق الأوسط، كما في العراق حيث يتهدّد الشعب الأصيل اضطهادُ ديني في ظلّ مشروع فرض الإسلام، وإضطهاد قومي في ظلّ المشروع الكردي الذي أصبح الخطر الأكبر على القوميّة الآشورية منذ بداية الحركة القوميّة الكردية في القرن العشرين... فأميركا تسكت على المشروع الكردي ليبقى عصاً أميركية تهدد بها العرب في العراق وبذلك تثير الفتن لتبرر استمراريّة وجودها، والدول العربيّة تسكت عن المشروع الكردي في العراق لمجرّد كونَ مهندسيه إسلاماً سُنّة، وإيران تدعم أسلمة النظام العراقي لمجرّد كون الأغلبية شيعيّة، والعرب السنّة ينتظرون عودة صدّام أو "المخلص" السُّني الهاشمي ... بينما يسعى الآشوريون إلى التقرّب من جميع هؤلاء ومِن ضمنهم مَن لا يحترمون الخصوصيّة الآشورية والمعتقدات الدينية والقومية للشعب الآشوري، ومنذ رحيل رموزها (الملك ياقو اسماعيل، مار إيشاي شمعون... وغيرهما) أصبحت الحركة القوميّة الآشورية "خاضعة" ومُستسلمة في مواجهة محيطها المتخلف ممّا أثر على مسارها في الحاضر، وكذلك سيؤثر على مسارها في المستقبل.
-لماذا يتعاون الآشوريون مع القبائل الكردية في جبهات سياسية تطمح إلى إنشاء كيان كردي على الأرض الآشورية؟
-لماذا نسمع عبارة "الحركة التحررية الكردية"؟ أو "التحررية الفلسطينية"؟ ولا نسمع عن حركة "تحررية" آشورية؟
-لماذا يتكلم الكردي والفلسطيني عن وطن مستقل، بينما كتب على الآشوري التغنّي بالوئام والأخوة علماً أنه يُدرك جيّداً بأنه محاط بأعدائه؟
-لماذا وصلت الأيّام بالآشوري لأن يتسوّل بمطالبة الآخرين بمجرّد الإعتراف بقوميّته ؟؟ وعلى أرضه التاريخيّة ؟!!!
إن مُجَرّد طرح هذه الأسئلة يُعطي القارئ فكرة عن مستوى الإنحطاط التي وصلت إليه الحركة القوميّة الآشورية في العصر الحديث، ناهيك عن المواقف الضعيفة للساسة الآشوريين أمام باقي التيارات العراقية وقد تأكد الرأي العام الآشوري من ذلك بدءاً من العام 1991، ممّا قد يؤدّي إلى العزلة السياسة عن المهجر حيث القوّة الحقيقيّة للآشوريين، والتي من خلالها يمكن فرض القضيّة الآشورية في المعادلة العراقية كمعضلة حقيقية على الساحة.. وهذا ما لم يحصل بتاتاً. وهذا الإنحطاط هو نتيجة تعدّدية القرارات ولا يقع اللوم هنا على جهة بدون غيرها، فالكلّ يُلام كون الحركة القوميّة الآشورية بشكل عام تعاني مرضاً مزمنا ألا وهو الفشل في برمجة خطابٍ سياسي موحّد.
3- العوامل المؤثرة سلباً على مسار الحركة القومية الآشورية أ- العوامل الخارجية:
* العامل الديني: لو نظرنا إلى القضيّة الآشورية من بعيد، للاحظنا بأن مسارها تأثر بشكل كبير بالطابع الديني لمحيطها؛ كذلك الكثافة والقوّة الكرديّة في المنطقة متأثرة إلى حدّ كبير بالإنتماء الديني للأكراد، بحيث دخل هؤلاء بأعداد كبيرة إلى آشور وأرمينيا مع المغول الذين سلموهم أراضٍ واسعة في تلك البلاد مقابل دعمهم لهم، كما استقبلت القبائل الرّحل الكردية برحابة صدر في تركيا في أوائل القرن السادس عشر بسبب مذهبها المسلم السنّي وسلحها ودعمها السلطان العثماني لمحاربة الصفويين الشيعة، وكذلك فعل الإيرانيون حين استقدموا القبائل من أصفهان والذين يُعرفون اليوم بأكراد إيران(
14) وتمّ دعمهم أيضاً ضد تركيا السنيّة وأكرادها، مما زاد من شأن هذه المجموعات القبلية لدى الدولتين فعاثت خراباً في قرى الأرمن والآشوريين الذين لم تنفع شكواهم للحكام المحليين في تركيا وإيران كونهم غير مُسلمين– وحتى اليوم نلاحظ سكوت العرب عن الإنفصالية الكردية وعن المشروع الواضح والصريح لما يسمّى "كردستان"، لا بل حتى دعم وترويج الإعلام العربي لهذا المشروع، وليس من المنطق النظر إلى هذا التفهّم المتزايد والغير معهود من العرب لقضايا الغير، بدون الأخذ بعين الإعتبار الرابط الديني وحتى المذهبي، فلو كان الآشوريون يطالبون اليوم في أرضهم التاريخيّة بما يطالب به الأكراد لكانوا واجهوا ما واجهوه في الحرب العالميّة الأولى وعام 1933، وعلى يد عرب العراق بالدرجة الأولى.
* العامل القومي: واجه الآشوريون محاولات إلغاء وجودهم القومي في كافة دُوَل الشرق الأوسط حتى اليوم، وكانت الثورة "العربية" عام 1916 انطلاقة النزعة القوميّة العربيّة في القرن العشرين، التي تطوّرت في عقود من الزمن وأفرزت تيارات عروبيّة لا تقل شوفينيّة عن سابقتها التركيّة، بحيث حاولت هذه التيارات كذلك تعريب كافة القوميات المتواجدة على الأراضي التي ما زالت تعتبرها عربية، وتزامن ذلك مع نشوء نزعة قوميّة "كرديّة" لتزيد من تراكم الملفات العالقة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في الوطن القومي الآشوري. واليوم يطالب الأكراد بأرض الآشوريين من منطلق القوّة ودائماً باستغلال مصائب الأوطان التي يعيشون فيها إلى جانب أصحاب الأرض، وقد عمَدَ الأكراد إلى ممارسة نفس السياسة الشوفينيّة تجاه الآشوريين متى سنحَت لهم الفرص(
15) حيث لجأوا إلى الإرهاب المنظم لتهجير الآشوريين والإستيلاء على أراضيهم وترويعهم واغتيال مسؤوليهم كما أقرّ السيد جلال طلباني(
16). وبذلك تكون القومية الآشوريّة رهينة بين معظم جيرانها، فبعد سقوط النظام الذليل في العراق تبيّن لمتتبّعي الوضع الآشوري بأن المدخلين (الديني والقومي) اللذين تناولناهما بإيجاز، لا يزال باباهما مفتوحين لمجازر أخرى محتملة وذلك بسبب فسيفسائيّة النزاعات والتناحرات في وطن الآشوريين.
ب- العوامل الداخلية:
* غياب الثوريّة في الفكر السياسي الآشوري: ليس بالضرورة أن تعني الثورية الكفاح المسلح، بقدر ما تعني التمرّد الفكري (سياسي – أدبي – إعلامي- إجتماعي) على كل ما يهدد كرامة أمّة ما ووجودها القومي على أرضها التاريخيّة، ولكن الواقع الآشوري هو عكس ذلك تماماً حيث يتمثل بالبساطة المُفرَطة في الأهداف السياسية والرؤى المستقبلية، فمن الملاحظ بأنّ الأحزاب الآشورية التي تتبنّى أهدافاً واضحة وتحرّرية، هي صغيرة جدّاً ولا حَوْلَ لها ولا قوّة قياساً لتلك التي تتبنى الأهداف الغامضة والتي تقتصر على عبارات إنهزامية لم ينفع رفعها لعقود ولن ينفع لعقود أخرى - ولو تحقق ذلك فسيكون لفترة معينة في هذا المحيط الشرق أوسطي المليء بالمفاجآت والتقلبات. فالحقوق المطالب بها اليوم قد ينالها الآشوريّون حسب أهواء الحاكم الشرقي أو تعليمات سيّده الغربي، وذلك لمراحل محدّدة كما في عهد الرئيس الشهيد عبد الكريم قاسم في العراق والشاه في إيران (رحمهما الله)، ولكن في النهاية استشهد قاسم وغابت معه حقوق الآشوريين لأربعين سنة هُجّر خلالها أكثر من 1.5 مليون آشوري من اضطهاد النطام المركزي والأحزاب القبلية الكرديّة في آشور، وأيضاً عُزل الشاه فهُجِّر أكثر من 150 ألف آشوري من إيران خلال 24 سنة ولم يبقَ فيها اليوم إلاّ ما لا يزيد عن 50 ألف من جراء ممارسات النظام الإسلامي... ومن يعلم إلى متى ؟؟ .
ومن الملاحظ بأن تلك الأحزاب "الكبيرة" و "المتجذِّرة" تتجنّب دائماً ذكر كلمة "آشور" أو "وطن قومي آشوري" في خطاباتها السياسيّة وبات من يذكر هاتين العبارتين مدّعى سخرية من قبل روّاد الحركة القومية الآشورية في العصر الحديث الذين استمرّت منظماتهم في بناء البيت الآشوري على أسُس ضعيفة وأفكار خالية من نزعة التحرر مما أدّى وسيؤدي إلى سير الأجيال الآشورية القادمة في نفس الخط الإنهزامي، فقد اقتصرت نشاطات بعضها على الثقافة والفنّ وتمجيد اللغويين والصحفيين وعدم ذكر الزموز الثورية إلاّ بالصدف، وحتى لم يكن لها أي مُخطّط للنضال المستقبلي بحيث بُذّرَت أموالها على تبنّي تخريج طلاب في مجالات دراسية عديمة الفائدة كالطب والهندسة عوضاً عن موادّ السياسة والقانون الدولي والتاريخ والعلوم العسكريّة... فيما مجّدت منظمات أخرى بعض الشخصيّات الآشورية الثورية التي قضَت في سبيل القضيّة الكرديّة.
واليوم بات بناء مدرسة في آشور (شمال العراق الحالي)، أو تخصيص كرسي وزاري "مسيحي" يُعتبر الإنجاز القومي الأعظم بالنسبة لتلك المنظمات فيما يتزايد الخضوع الآشوري أمام مشروع التكريد ونرى الفرد الآشوري نافراً من الحركة القومية الآشورية البائسة، وأصبحت الحجّة الأولى التي يواجهها المرء لدى سؤاله عن سبب الذلّ الذي يعاني منه الآشوريون عل أرضهم التاريخية في ظلّ مشروع "شيعستان" وسُنّستان" و"كردستان" هو: "لانستطيع" أو "هذا واقعنا" هذا إن تمّ الإعتراف بالذل، وإلاّ فجوابهم سيكون: "ها قد حصلنا على وزير، وقد اعترفوا بوجودنا مشكورين، فماذا تريدون بعد ؟!".
* الخضوع للآخرين: بسبب الضغوطات التي تواجهها القومية الآشورية في الشرق الأوسط وجد الآشوري نفسه مضطراً إلى ركب قطار الشعارات التي تطرحها التيارات الأقوى (العروبية والكرْدَوية) علماً أن تلك الشعارات بذاتها تقضي على الهويّة الآشورية بسبب أيديولوجيتها الشمولية، وهذا لم يحدث على مستوى الفرد الآشوري فحسب، بل كذلك على مستوى بعض الأحزاب الآشوريّة التي تجد نفسها مُجبَرة تماماً على الإنضمام إلى "جبهات" سياسيّة تعمل على القضاء على الوجود القومي الآشوري على المدى البعيد مثل "الجبهة الكردستانية" العاملة في آشور (شمال العراق الحالي)، وتزامَن ذلك مع ليونة الخطاب السياسي الآشوري والحرص بشدّة على عدم التعبير عن الطموحات الآشورية كما يجب، لتجنّب إثارة الحليف- العدو. وليس هذا المسلك "الإضطراري" لدى المنظمات الآشورية في الشرق الأوسط إلاّ نتيجة الضعف على الأرض، وليس هذا الضعف إلاّ نتيجة مباشرة لعدم ارتباط المنظمات العاملة في آشور بتلك العاملة في بلدان الشتات والتي تتمتع بقوّة إعلامية وسياسيّة في أوروبا والولايات المتحدة على وجه الخصوص ويعتبر ذلك جريمة الحركة القوميّة الآشورية في العصر الحديث بحق القضيّة الآشورية، وهذه الجريمة يعود تاريخها إلى انطلاقة الحركة التحررية الكردية على أرض الآشوريين حيث استمرّ الفراغ السياسي الآشوري لعقود من الزمن فيما عَظمت وتطوّرت الحركة القوميّة الكرديّة التي تبنّت عبارة "كردستاني" الأممية - الجغرافيّة بدلاً من عبارة "كردي" القوميّة بحيث نلاحظ تسميات "الحزب الديموقراطي الكردستاني" (عوضاً عن "الكردي") وكذلك الأمر بالنسبة لحزب العمال "الكردستاني"، والإتحاد الوطني "الكردستاني"... بذلك نجحت الحركة القومية الكرديّة في جذب القوميات الأخرى إلى صفوفها ومنها القوميّة الآشورية التي بكونها معزولة عن الشتات الآشوري وجدت بأن الحركة التحررية "الكردستانية" هي الملجأ الوحيد للتخلص من ظلم الأنظمة الحاكمة، فانخرط الآشوريّون في الأحزاب الكرديّة في تركيا والعراق وشاركوا في حركة التحرّر "الكردستانيّة" التي بدورها تقضي على هوية الأرض والشعب الآشوريَّيْن مع اعتبار الآشوريِّين "مواطنين كردستانيين" أو "مسيحيي كردستان"، وهكذا قضى الآلاف من الآشوريين، وأحرقت ودُمّرت أكثر من 300 قرية آشورية مراراً في تركيا والعراق في سبيل القضيّة التي تقضي على هويتهم القوميّة، ولم يُسمَع عنهم في العالم خلال تلك الأحداث كآشوريين، وما يثير العجب أنه لا يزال خرّيجي تلك المدرسة "الكردستانية" مخلصون للمشروع الكردي قدر المستطاع، الذي ليس إلاّ: "أعطونا أرضكم، ولنكرّد الأرض الآشورية معاً، فكلنا كردستانيين وهيا بنا نعيش كأخوة.."، وفعلاً تعتبر الحركة الديموقراطية الآشورية نفسها ممثلة إحدى الفئات "الكردستانيّة" إلى جانب الفئة "الكردية"، لا بل تعتبر نفسها إحدى الأحزاب "الكردستانية".. وهذا واضح من البيانات المُخجلة الصادرة مؤخراً.
* الإيديولوجيات المدمّرة للخصوصيّة القوميّة الآشورية : يُقسَم هذا العامل بدوره إلى عاملين أساسيين؛ قلة الثقافة التاريخية لدى السياسي الآشوري، ودخول عناصر آشورية من أحزاب غريبة إلى العمل القومي الآشوري.
ليس هنالك أي حزب آشوري يخلو نصّ مبادئه من الأخطاء التاريخيّة، خصوصاً أنّ الإنسان الآشوري يتميّز بعاطفة قوميّة فريدة قد تكون نتائجها ضارّة بما يتعلق بالحفاظ على الفكر القومي في المجتمع الآشوري، تتلخص تلك الميزة بزيادة عدد أبناء أمّته بجمع كل الفئات الشرق أوسطية التي انتمت إلى دينه خلال حقبة ما، أو كلّ الفئات التي تكلمت لغة مشابهة للغته... ويخلط بين الأسماء الطائفية والإسم القومي بدون أن يدرك معنى كلّ منها.
من الطبيعي أن تتشكل أية منظمة آشورية في الشرق الأوسط من سياسيين سابقين في أحزاب غير آشورية جراء غياب المنظمات الآشورية في المنطقة لفترة طويلة كما ذكرنا سابقاً، ولكن دخل هؤلاء وبثوا أفكارَ الأحزاب التي انتموا إليها يوماً من الأيّام، بحيث نلاحظ الألحان "الكردستانيّة" في الخطابات السياسيّة لدى بعض المنظمات العاملة في آشور، كما نلاحظ تأثير"القوميّين السوريين" و"الشيوعيّين" في إهمال مقوّمات القوميّة الآشورية من خلال المساواة بين "الإسم" و "التسميات" والإيديولوجية الجغرافيّة للوطن القومي الآشوري، وكذلك في نظريّة التقسيم البشري للشعب الآشوري، وهذا ملاحَظ لدى المنظمات التي عملت في سوريا وتركيا، والتي بكل أسف امتدّت أفكارها هذه إلى بعض التجمعات الآشورية في الخارج.
ومن الجدير بالذكر أن الأحزاب التي لا تعترف بإسم "كردستان" مشكورةً، لا تذكر بدورها الوطن الآشوري بإسمه الحقيقي " آشور"، بل تستعمل أسماءً لا تدل على هوية الأرض ومثالاً على ذلك : "بيت نهرين" التي لا تعني إلاّ "أرض الأنهار"، و "غاربيا" أي "الشمال"، و"أترا" أي "أرض الوطن" وإلى ما هنالك من أسماء تافهة، ذلك بسبب السياسة الإستسلاميّة التي مرّ ذكرها، وهذه التصرّفات ستؤثر على الأجيال القادمة.
*الإنهزاميّة أمام البسطاء وبعض الطائفيين في المجتمع الآشوري: لوحظت مؤخراً لدى المنظمات الآشورية، بعض القرارات الإنهزامية بخصوص الشأن الداخلي الآشوري كذلك وعلى حساب الهويّة الآشورية وذلك بزيادة أسماء طائفية على الإسم القومي الآشوري بهدف مراعاة بعض الطائفيين وبحجّة الحفاظ على وحدة الصوت، علماً أنه ليس من المفترض المسّ بالهوية الآشورية مهما كانت الأسباب والعواقب، مما خيّب آمال الكثيرين، وراح البعض من باقي المنظمات إلى التخلي عن مسألة تقرير المصير في ظلّ ما يجري اليوم في العراق ليركّز مُعظم وقته على مسألة التسميات وإنتقادها... ما يهمّنا هو أن هذه المشكلة قد زادت من التباعد بين بعض فئات الشعب الآشوري، وكان بالإمكان تجنّبها من خلال برامج توعية لبعض القرويين البسطاء خلال الأربع والعشرين سنة الأخيرة – أي منذ نيسان 1979، تاريخ تأسيس الحركة الديموقراطبّة الآشورية التي رقّعت المشكلة بعدَ أن وجدت نفسها عاجزة أمام حلها.
* الإنهزاميّة أمام التيارات العراقيّة : يتلخص ذلك بإنعدام الموقف السياسي لدى المنظمات الآشورية العاملة في العراق تجاه الطروحات المُجحِفة بحق القوميّة الآشورية منذ بداية التسعينات، مروراً بمؤتمرات المعارضة العراقيّة، وصولاً إلى طرح أحمد الجلبي حول تقسيم العراق إلى أربعة مناطق بدون تخصيص منطقة للقومية الآشورية، إضافة إلى غياب المواقف حول ما واجهته ولا زالت تواجهه القوميّة الآشورية على يد الإسلاميين والأكراد بحيث قضى العشرات ضحيّة هؤلاء منذ سقوط النظام المسكين الذي تنسب إليه كلّ جريمة اليوم، فيما يقتصر إعلام من يعتبرون أنفسهم ممثلي القوميّة الآشورية في العراق، على اللقاءات بالشخصيات العراقية (زعماء التيارات المعادية في أغلب الأحيان)، بالإضافة إلى نشر المواضيع التي لا تقدّم ولا تؤخر في الظرف الراهن مثل نشاطات إتحاد الطلبة وإتحاد النساء الآشوري فيما يُسَمّى "كردستان" وهموم المزارع... وهذه السياسة متبعة منذ تأسيس "الحركة الديموقراطيّة الآشورية".
**********************
هكذا، فإنّ الحركة القوميّة الآشوريّة تصطدم بعدّة حواجز تاريخيّة وسياسيّة حالت دون إزاحة الأحمال الثقيلة عن الأمّة الآشورية منذ أكثر من 2600 سنة، بينما تحققت وعود الحلفاء للعرب واليهود بحيث يُعتبر اليوم الشعب الآشوري الأقدم في العالم وجوداً وحرماناً، وفي نفس الوقت تعتبر قضيّته الأكثر كتماناً بسبب السياسة التي تعتمدها الأحزاب الآشورية، ليبقى ملفّ القضيّة الآشورية حتى أجل غير مُسَمّى على رفوف غطتها الغبار في أرشيفات دول حلفاء الحرب العالمية الأولى فيما لا تزال القوميّة الآشورية تعاني من غطرسة باقي القوميات والأديان على أرضها... والهجرة تتزايد فيما لا يزال الآشوريّون في المهجر يتغنّون بأمجاد الإمبراطوريّة الآشورية قبل آلاف السنين.
ولو أجرينا عمليّة حسابية بسيطة حول نسبة الآشوريين المهجرين من العراق في العالم لرأينا بأنهم يشكلون نسبة 30% من العراقيين المهجّرين عموماً، بينما يُشكل الآشوريون المقيمون في العراق نسبة 5% من العراقيين المقيمين عموماً، مما يوضح بشكل لا يقبل الجدل بأن الآشوريين هم أكثر من عانى بين كافة فئات الشعب العراقي. ففي حال استمرّت المنظمات الآشورية في مسارها الإنهزامي، والإكتفاء بالخطاب الوطني الفارغ (أي بدون النظر إلى الشؤون الآشورية بما يتوافق مع مطالب الآخرين)، فعندها لن يبقى آشوري واحد في آشور خلال السنين القادمة.
ولو تناولنا العناوين أعلاه للاحظنا بأن السبب الرئيسي لواقعيتها هو فعلاً الضعف الآشوري في آشور، ولكن في هذه الحال على المنظمات الآشورية التي تتذرّع بالضعف، مدّ يدها إلى أخواتها في أنحاء العالم ومشاركتها في القرار السياسي الآشوري عوضاً عن وضع العصي في دواليب كل من يحاول العمل على الساحة العراقية، فعلى التيارات الآشورية كافة أن تعي بأنه من غير المنطقي إنفراد أيّة منظمة باتخاذ القرارات في العراق أو في أي مكان آخر في العالم. وعلى كافة المنظمات التعاون فيما بينها وإجراء تغيير جذري في الحركة القوميّة الآشورية المعاصرة، والخروج من روتين التعدديّة في القرارات، باعتماد قرار مركزي صادر عن جبهة آشوريّة متماسكة وليس تحالفات خيالية مؤقتة. ففي ظلّ الخطر المحيط بالقوميّة الآشورية وعدم تفهّم فئات الشعب العراقي وتيّاراته لضروريات المرحلة المقبلة من أجل الحفاظ على وحدة العراق، على الآشوريين بدورهم إذاً التطلع إلى مستقبلٍ أكثر إشراقاً في المراحل المقبلة.
من هنا، وبما أن الحركة الديموقراطيّة الآشورية هي من يُعتبر صاحب القرار الآشوري بالنسبة لمجلس الحكم، عليها إذن كسر طوق الإستسلام الذي خنق آمال الآشوريين لعقود، والكفّ عن التخاذل والخضوع للآخرين، والحفاظ على كرامة القوميّة الآشورية وذلك بالمساهمة بالخطوات التالية (إلى جانب باقي المنظمات الآشورية):
1-الإنسحاب من أيّة جبهة تهدف إلى تغيير هوية الأرض والشعب الآشوريين، والإنضمام عوضاً عن ذلك إلى جبهة آشورية مع الحفاظ على أطيب العلاقات مع كافة فئات الشعب العراقي (العرب والأكراد والتركمان ). فإنه حقاً من المعيب أن تعمل حركة آشوريّة في جبهة كردويّة فيما تتباعد عن باقي المنظمات الآشورية.
2-تمثيل القوميّة الآشورية في أي منبر عراقي رسمي على أساس "جبهة آشورية" تعمل في العراق، والتخلي عن سياسة "الحزب الواحد" الموروثة عن الأنظمة المتخلفة التي كُتب على الشعب الآشوري العيش في ظلها.
3-إعتماد الخطاب الوطني السليم (أي الأخذ بعين الإعتبار مصلحة القوميّة الآشورية).
4-عَقد مؤتمر مفتوح في أقرب وقت بمشاركة المنظمات الآشورية وإطلاق برنامج واضح وصريح إزاء "اللبننة" التي تلوح في أفق السماء العراقيّة.
5-العمل على تصحيح ما وردَ أعلاه بخصوص الإنهزاميّة والرضوخ للأمر الواقع من قبل المنظمات الآشورية بشكلٍ عام، فالمنظمات السياسية يتم تأسيسها لتغيير الواقع، وليس للخضوع له.
الهوامش: 1 - كانت تمتد من شواطيء لبنان وسوريا اليوم إلى مدينة "لو-يانغ-شي" في الصين وكانت نقطة منافسة بين عدّة قوى في العالم كونها طريق القوافل التجارية إلى الصين والهند.
2 - "البحث عن نينوى"، العالم والرحالة أوستن هنري لايارد، دار سكون للنشر – 1994، ص: 18-19
3 - فريدريك أنجيلز، "ماذا سيحلّ بتركيا الأوروبية ؟"، المجلد التاسع – ص: 31 – بالرجوع إلى البرفسور كوستانتين ماتييف "المسألة الآشورية في العصر الحديث".
4 - وهو ميخائيل نيكولايفيتش (1832 – 1909)، الإبن الرابع للقيصر نيكولاي الأوّل، والقائد العام للجيوش الروسية ورئيس مجلس الإمبراطورية آنذاك.
5 - النص الكامل للرسالة: “The Nestorians and their Muslim Neighbors” By Prof. John Joseph, P: 99
6 - توماس إدوارد لورنس، "أعمدة الحكمة السبع"، عمّان – 2001، ص: 12.
7 - Arfa, “The Kurds, A Historical and Political Study” – 1966, P: 52 ، بالرجوع إلى: "الآشوريّون والمسألة الآشورية في العصر الحديث". .
8 - حول نزوح آشوريي الجبال إلى سهول آشور، بحث للكاتب بعنوان "يوم الشهيد الآشوري"، صحيفة "النهار" اللبنانية، 09/آب/2001 - وصحيفة "التلغراف"- 13/آب/2001
9 - “Information Sur Le Kurdistan”, Centre D’etudes Kurdes, 1966, P: 34-41
- “The Tragedy Of The Assyrians”, Lt.Colonel R. S. Stafford, 1935, P: 65
10- “The Tragedy Of The Assyrians”, Lt.Colonel R. S. Stafford, 1935, P: 57
11- "الآثوريّون في العراق" – رياض الحيدري، ص: 235- القاهرة، 1977
12- للتفاصيل، مقالة للكاتب بعنوان "الآشوريون في المغالطات التاريخيّة" - مجلة "الشراع" اللبنانية، 10/تمّوز/2000
13- صحيفة "العرب" - 7/10/1918، أنظر: "نشأة العراق الحديث"، البروفسور هنري فوستر – ترجمة سليم طه التكريتي، الجزء الأوّل، ص: 99-100
14 - Julie Scott Meisami, "Persian Historiography to the End of the Twelfth Century", 1999, p. 179
15 - للتفاصيل، بحث للكاتب حول اضطهاد الآشوريين فيما يُسَمّى "كردستان"، والفدرالية المطروحة – صحيفة "النهار"- 01/تشرين أوّل/2002
16 – تصريح السيد جلال طلباني لصحيفة "الحياة"، عدد: 11/01/1995.