المحرر موضوع: ذكريات في الغربة (3) ... "قصر الدموع" وذكريات اخرى  (زيارة 1289 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سامي مدالو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
ذكريات في الغربة (3) ... "قصر الدموع" وذكريات اخرى


سامي الياس مدالو

بعد الانتظار في "قصر الدموع" لاكثر من ساعة في طابور العابرين من برلين الغربية الى برلين الشرقية، طلب مني ضابط الحدود الالماني الشرقي، بعد تصفحه لجواز سفري العراقي، ان اصطحبه الى احدى الغرف المخصصة لاستجواب من يشكون بهم من زوار عاصمتهم. "ما هو غرض زيارتك الى برلين الديمقراطية؟" ، اراد الضابط معرفته مني، بعد ان عرض علي الجلوس على كرسي خشبي امام منضدة خشبية مربعة صغيرة، ليجلس هو في الجهة المقابلة. هذا ما جرى في بداية الستينات من القرن العشرين.

"اود زيارة صديق عراقي من ابناء مدينتي يقوم هنا بالتخصص ونيل شهادة الدكتوراه"، اجبته بعد الجلوس والقاء نظرة خاطفة على محيطي. ضابط الحدود، الذي كان يكبرني حسب تقديري سنوات قليلة فقط، سألني بعد ذلك عن مهنتي وأشياء اخرى لا اتذكرها الان، ليأمرني بعد ذلك: "ضع كل محتويات جيوبك على المنضدة رجاءً"، مؤشراً بيده اليمنى على المنضدة امامنا.

بعد تأمله بدقة لحاجياتي المبعثرة على المنضدة امامه، وكأنه يفتقد شيئاً معيناً، سألني مجدداً: "هل بحوزتك نقود جمهورية المانيا الديمقراطية؟".  "كلاّ"، كان جوابي السريع والقصير. "اذاً ارجوك ان تخلع احذيتك وملابسك، عدا الداخلية منها" ...  بعد ان خاب امله ثانية في العثور على ما هو محرم ادخاله الى برلين الشرقية، طلب مني ان ارتدي ثيابي واجمع حاجياتي.

ربما كمحاولة منه لتلطيف جو التحقيق المتشنج وللاعتذار الغير المباشر مني عن الاستجواب والفحص المزعج ، بدأ يحاورني في السياسة. "ما هو رأيك في نظامنا الاشتراكي"، سألني، راغباً معرفة رأيي في المانيا الشرقية. لم اشعر في تلك اللحظة بتاتاً باية رغبة بالدخول بنقاش سياسي مع ضابط لحدود دولة انوي الدخول الى عاصمتها.

"لندع النظامين، الاشتراكي والرأسمالي، يتنافسان مع بعضهما، لنرى بعد فترة زمنية كافية ايهما الافضل"، اجبته، محاولاً بالحقيقة التهرب من النقاش الجدي، بل متمنياً في اعماقي ان يكتفي بذلك و "يطلق سراحي!". لحسن حظي انهى الان كلامه وطلب مني بلطف ملحوظ مغادرة غرفة التحقيق بصحبته...

غادرت "قصر الدموع" بمزيج من الغضب والفرح. منزعجاً من تصرف ضابط الحدود، وسعيداً بقرب لقائي بالصديق ابن بلدتي. اخبرت صديقي بما جرى وقررت تقليص عدد زياراتي الى "الجانب الآخر" الى الحد الضروري.


 


"قصر الدموع"
اسم ساخري اطلقه سكان برلين على احدى اهم نقاط العبور
بين برلين الغربية وبرلين الشرقية
ـــــــــــــــ
هذه لقطة في الجانب الشرقي ـ هنا كان سكان برلين الشرقية
 يستقبلون زوارهم من الجانب الاخر
ويذرفون الدموع حين وداعهم، حيث لا امكانية لهم بالقيام بزيارة معاكسة
***

 


"قصر الدموع"
هوالآن الاسم الرسمي لذلك المنفذ الشهير بين برلين الغربية وبرلين الشرقية
ويحوي معرض دائمي بعنوان
"تجارب الحدود ـ يوميات المانيا المقسّمة"
***

8 شباط 1963 ـ الكارثة الوطنية

وقع علينا خبر الانقلاب العسكري في 8 شباط 1963 ضد حكومة عبدالكريم قاسم الوطنية كالصاعقة. اسئلة كثيرة شغلتنا في تلك الايام حتى الارهاق الفكري ونحن نبعد الاف الاميال عن مجرى الاحداث. لعل اهم سؤالين لنا انذاك كانا: ماذا يجري بالفعل في الوطن؟ وما هو مصير الاهل والاقارب والاصدقاء؟ 

تناقلت وسائل الاعلام الالمانية المختلفة التطورات في العراق بشكل اخبار وتعليقات، ولكنها عجزت عن اشباع عطشنا كعراقيين على معرفة الحقيقة في الوطن النائي. ولشدة تلهفنا لسماع اخبار الوطن بالتفصيل، أصبحنا كالمدمنين بسماع الموجات القصيرة العربية، علّنا نسمع خبراً يسرنا بفشل الانقلاب ودحر الانقلابيين. قلما غادرنا المذياع في اوقات فراغنا. فخاب املنا، وبدأنا نصدّق اسخف الاشاعات عن "مقاومة الشعب العراقي الباسل" ضد الانقلابيين... وصدّقنا ما لا يصدّقه عاقل في الزمن العادي، حالنا حال الغريق المتشبث بالقش.




الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم
اغتاله الانقلابيون في 9 شباط 1963
***

 


علم الجمهورية العراقية من 1958 الى 1963
الغي بعد انقلاب 8 شباط 1963
***

 


هل هناك من يتذكرهذا الشعار؟
***

بعد فترة غير قصيرة وببطئ، بدأت تصلنا رويداً اخبار الوطن والاهل المحزنة والمخيفة. لا اتذكر هنا، كيف ومتى بالضبط علمتُ بأعتقال اقربائي. كنا نقرأ الرسائل القليلة التي تصلنا من الاهل مرات عديدة، علّها تحوي بين سطورها معلومات يود كاتبها اخفائها على الرقيب العسكري وايصالها لنا.

زملاء من جمعيتنا ـ جمعية الطلبة العراقيين في المانيا الاتحادية وبرلين الغربية ـ  نظموا بعد ايام مظاهرة احتجاجية ضد الانقلاب القومي البعثي امام السفارة العراقية في العاصمة الالمانية بون، محاولين دخولها لتسليم عريضة احتجاج على ما يجري في الوطن. لعدم اخذ الموافقة مقدماً بالتظاهر، قامت الشرطة الالمانية بأعتقال عدداً  منهم وتوقيفهم لبضعة ايام.

صندوق التضامن

تفاجأ عدد من طلاب البعثة في مطلع شهر اذار 1963 بقطع رواتبهم لاسباب سياسية وبحجة معارضتهم للانقلاب والحكومة الجديدة. كما ومُنع ذوي طلاب اخرين من امكانية تحويل نقود لابنائهم الذين يدرسون على حسابهم الخاص. ولحسن الحظ لم يتم قطع رواتب جميع طلاب البعثة المعارضين للوضع الجديد في الوطن.

بعد نقاش مسهب في الهيئة العامة لفرع الجمعية في برلين الغربية، قررنا تشكيل ما سميناه بـ "صندوق التضامن مع الزملاء المتضررين من اجراءات الحكومة". تعهّد في هذا الاجتماع طلاب البعثة الذين لم تقطع مخصصاتهم، بالتبرع الاختياري بعشر راتبهم الشهري لصندوق التضامن، ليتمكن المتضررون من مواصلة دراستهم حتى التوصل الى حل اخر.

اتذكّر هنا الكلام المازح لزميل ذو روح عراقية اصيلة مرحة ، حيث لم يبخل علينا يوماً ما بكلام  فكاهي جميل حتى في اصعب الاوقات واكبر المحن. على خلفية نقاشنا الدائم في كل اجتماعات الهيئة العامة تقريباً بصدد اهمية تأجير مقر للجمعية في برلين الغربية، نهض هذا الزميل، الذي كان دوماً من اشد المتحمسين لفكرة المقر، ليدلي بمداخلته المازحة.

بجدية مصطنعة حاول زميلنا العزيز اقناع الحضور بأهمية ايجاد مقر للجمعية، ليقول كلامه الذي انعشنا ودعانا ننسى محنتنا للحظات: "زملاء، لازم نشوفلنا باسرع وقت ممكن مقر للجمعية. زين اذا ما عدنا مقر، وين راح نحط الصندوق (وكأنه يصف صندوق خشبي كبير!). يعني قابل نظل شايليه على جتافنا ونتمشى بيه ليل نهار؟ وبعدين ... يعني انتو ما خايفين عليه مثلاً ينباگ، لو يوگع  وينكسر؟". ما احوجنا لمثل هذا الزميل في هذا الزمان.

ما العمل؟

بعد ان خاب املنا نهائياً بأمكانية قوة ما في العراق بصد الانقلاب وقهر الانقلابيين، بدأنا نفكر في ما نستطيع القيام به بأمكانياتنا المتواضعة في الغربة. تنوير الرأي العام الالماني بالوضع في العراق اعتبرناه من اهم واجباتنا في هذه الفترة، فطبعنا بيانات باللغتين الالمانية والعربية ووزعناها في الجامعات والمعاهد الدراسية. كما قمنا بتنظيم اجتماعات تنويرية باللغة الالمانية حضرها عشرات الاشخاص، وزعنا خلالها بطاقات بريدية للاحتجاج لدى السفارة العراقية ضد الاعتقالات العشوائية الواسعة النطاق في العراق.




الماني يعلن تضامنه مع الشعب العراقي المنكوب بتبرعه
لدى كاتب المقال (واقف في اليمين)
***

بعد فترة وجيزة من الانقلاب، ، شكلت شخصيات وطنية عراقية معروفة "اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي" في براغ، وتم اختيار الشاعر العراقي الوطني الكبير محمد مهدي الجواهري لرئاستها. اصدرت هذه اللجنة مجلة فكرية سياسية بأسم "الغد"، قامت جمعيتنا بنشرها في الاوساط  العراقية والعربية في المانيا. كما وشرفنا الجواهري الخالد بحضور اجتماع تضامني مع الشعب العراقي في برلين الغربية، حيث القى بهذه المناسبة عدداً من قصائدة الشهيرة.


***
سلاماً وفي يقظتي والمنام ، وفي كل ساع ٍ وفي كل عام ِ
تهادي طيوف الهداة الضخام ، تطايح هاماً على اثر هام ِ
ودقت مسامير خجلى عطاشى ، بكف ِ المسيح فطارت رشاشا
بقايا دم للعصور التوالي تخضب بالمجد هامَ الرجال
حماة الحمى والليالي تعودُ ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ
سيورق غصنٌ ، ويخضر عودُ ، ويستنهض الجيل منكم عميدُ

***

الحلقات السابقة للذكريات في الغربة:

1 ـ شباب في الغربة وقصة الزميل الضائع
http://www.ankawa.com/forum/index.php?PHPSESSID=qk39oaqq0ph4op9op37ah1ssd4&topic=668668.0

2 ـ الايام الاولى في الغربة
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,702296.0.html

3 ـ وكانّنا في لقاء عالمي للشبيبة
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,704817.0.html

 4 ـ  ذكريات في الغربة ... برلين قبل نصف قرن (1)
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,712019.0.html

5 - ذكريات في الغربة (2) ... جدار برلين والكذبة التاريخية
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,716578.0.html