فيضان نهر الحقيقة
ثمّة مثل يقول: (( تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت )).
هل يمكن أن يصل الزيف في حياة الإنسان إلى درجة تجعله يعيش هذا الوهم الكبير، ويصدق حتى كذبه على نفسه؟
وهل صار الحقد في هذه الدنيا أهم ما يخفيه الإنسان في داخله؟
في زمن، يتحالف فيه الجهل مع التخلف، والعنف مع التعصب والتطرف، ما أحوجنا إلى صوت جريء وهادىء في آنٍ معاً.
ما أحوجنا إلى صوت يهدر في الضمائر، ويكون متراس دفاع ورسالة بناء لغدٍ أفضل، صوت لا يعرف الخفوت أو المهادنة، قادر على أن يعلو على ضجيج الظلامية في أي مكان، صوت مميّز و معبّر عن موقف شجاع.
ما أحوجنا إلى العصا المستقيمة في زمن الالتواءات والانحرافات.
ما أحوجنا إلى الكلمة الهادفة المؤثرة في حياة المجتمع، إلى صوت المثقف الذي يطمح في أن يكون مؤثراً في حياة الناس، ويكون نقطة استدلال يمكن العودة إليها في حالات التيه.
نحن بأمس الحاجة إلى صوت لايعرف التراجع أبداً، إلاّ إذا تعثّر أو أخفق، بعد أن يكون قد استفاد من التجربة.
ما أحوجنا إلى قلم يندّد ويحذّر ويقدم نقداً موضوعياً بنزاهة قادرة وجرأة أكيدة، بالمنطق الرزين، بهدوء وبدون فتح نار، بكثير من التأني، بعيداً كل البعد عن التشنج أو العصبية، وبعيداً عن التذبذب في الموقف، مع التسليم بأنّ هذه المهمة ليست سهلة أو حتى ميسّرة أساساً، وأنّ من يسلك هذا الدرب الوعر لابد من أن يتعب ويتحمل ويقاسي، بسبب الصعوبات البالغة التي قد يواجهها وسط أحابيل السياسة ومكائدها وإغراءاتها أيضاً. وعلينا أن نتحسب بأنّ الناس ليسوا سواسية بالنوازع، وإن كانوا سواسية بالخلق، فمنهم من يعرف الحقيقة لكنّه يتعامى عنها، ويتعمد تشويهها، بدافع الحقد والضغينة والكراهية، أملاً في التشفي. ومنهم من لايعرف الحقيقة، لأنه بعيد عنها، فيجهلها. كما أنّ هناك من لا يريد أن يعرف الحقيقة ،لأنها لا تعنيه، فلا شأن له بها . وهناك أيضاً، من لا يميّز بين الألوان والمواقف والمسمّيات: الأبيض والأسود، الصافي والعكر، الحلو والمر. كلّها سواء بالنسبة له، لأنه عديم المذاق والإحساس. المهم عنده إشباع رغباته وطموحاته، حتى لو كان ذلك بشكل رخيص. فالحياة عنده فرصة يجب استغلالها واستثمارها بأية وسيلة، و إنْ كانت وسيلة قذرة أو غير شريفة.
لكل صنف من هؤلاء ردوده الخاصة به، تقرّه وتحركه نوازعه، ولكن باتجاهات مختلفة ودرجات متفاوتة. أيّاً كانت ردود الأفعال تلك، يجب عدم الالتفات إلى الوراء، بل السير قدماً بخطىً حثيثة نحو الأمام، حتى تنتصر إرادة الحق على الشر، و نحافظ على القيم والمبادىء التي ورثناها عن الآباء والأجداد، وحتى تبقى لفتة العز والشموخ إلى الأبد. فلابد لنهر الحقيقة أن يتفجّر يوماً ما، فتجرف مياهه بعيداً كل من يحاول إحباط الهمم وثبط العزائم، وكل من يحيك الأكاذيب وينسج الأضاليل وينشر الإفتراءات، هنا وهناك.