شحّاذون، لكن ليسوا فقراء!
كان التسوّل فيما مضى، يقتصر على أولئك الذين يعانون من وطأة الفَقر والجوع والمرض، أناس تقطَّعت بهم سبل العيش، فلم يجدوا بُدّاً من ركوب الصعاب، في صراع مرير مع قسوة الزمن، فلجأوا إلى هذا الأسلوب المهين، يسألون الصَّدَقة والإحسان بـ (إلحاح)، حفاظاً على حياتهم من الهلاك، أو القضاء جوعاً..
أما اليوم، فقد اختلفت الصورة تماماً، إذ لم يعد التسوّل يقتصر على أولئك الذين كانوا يفترشون الأرصفة ويتسكعون في الشوارع، أو عند مداخل الأزقة الضيقة، فقد وَلجَ عالم الشِّحاذة متسولون جدد، البعض منهم لم يعش، أو يعايش الفَقر من قبل، ولم يذق طعم الحرمان أو العَوَز في حياته..
إذن، ما الذي يدفع بهؤلاء إلى هذا المنزلق الخطير، أو إلى هذا الدرب الحقير؟!
إنّها عقدة المال التي تحكّمت في النفوس المريضة. هذه الآفة الخطيرة التي انتشرت في وسطنا الإجتماعي، الذي لا تعرف فيه من مع من، ولا من فيه ضد من، في ظروف تتداخل فيها الشؤون والشجون مع بعضها، تداخلاً غريباً، إلى درجة تثير الريبة والشك..
وشحّاذو هذا الزمان أنواع :
منهم من يشحذ موقفاً لصالحه في قضية معينة، يسعى إلى كسبها، حتى لو كان ذلك على حساب كرامته وشرفه..
ومنهم من يشحذ الشهرة، ويهرق ماء وجهه على الأعتاب، ويأخذ على ذلك شيئاً فشيئاً، حتى تتحول الشِّحاذة عنده إلى حالة مرضية، لا تنفع معها كل العلاجات..
وهناك، نوع آخر، يشحذ المديح والتصفيق من بعض المنتفعين المصطفين حوله، وبفعل التكرار، يخال أنّ الدنيا كلّها تصفّق له، وأنّ الناس يُسبِّحون بحمده.. وهذا النوع من الشحّاذين جدير بالشفقة والعطف، لأنه أتعس الناس على وجه الأرض.
إنّ أكبر المتسولين، من لا تبدو عليه مظاهر التسول، أو لايدل أي تصرف فيه على أنه متسوّل، بل على العكس، إنّ كلّ ما فيه، وما يبدو عليه ، يعطي الإنطباع بأنّه بريء من هذه التهمة الوضيعة التي لصقت به..
وأخطر المتسولين، ذاك الذي يُتقن دغدغة المشاعر، فيعتمد أكثر الكلمات تأثيراً في استدراج العواطف واستمالة القلوب..
إنَّها لَمفارقة عجيبة، حقّاً، أن تتحول الشِّحاذة في هذه الأيام إلى شرفٍ رفيع، يسعى إليه البعض من ذوي العاهات، الذين يعانون من عقدة الشعور بالنقص، وهم بذلك يناقضون أنفسهم فيما يقدمونه من تنازلات على حساب كرامتهم، في سبيل أن يحصلوا على لقب (الشحّاذ الأشطر) أو( الرأس الأكبر) في الشِّحاذة!
وما أكثر الذين يتسابقون على حمل هذا اللقب التأريخي في هذه الأيام..
وصاحب هذا اللقب الوضيع، عادة ما ينرفز ويعنفص، إذا لم تُكِل له المديح، أو لم تعطِهِ من طرْفِ اللسانِ حلاوةً، ويأخذ على خاطره منك، إذا لم تخلع عليه صفة (الرأس الأكبر)..
والرأس الأكبر هنا، يعني المخطّط.. والشحّاذ، هو من أكبر المخطّطين. فهو يعرف في أي وقت يجب عليه أن يتحرك، ويتقدم خطوة إلى الأمام. كأنّه عالم نفساني، يدرس الوجوه بإمعان.. يدرس الوجوه، ثم يقترب من الهدف.. يعرف كيف يختار أكثر الجمل تهذيباً وإثارةً للمشاعر.. يصطفي أبرع المواقف، لكي يقنعك بأنَّه شحّاذ متمرّس. وحين تقتنع أو تُشفق عليه أو تُسايره، يخالُكَ (الفريسة التي كان يبحث عنها منذ زمن)، فيهيِّىء نفسه للطعام، ويستعد للوجبة الدسمة.
هؤلاء، هم الشحّاذين الحقيقيين، أصحاب خبرة وممارسة، فنانون في أساليب الاستجداء.. ولكي تشاهدهم على الطبيعة، راقبهم من بعيد، وراقب تصرفاتهم، ولكن حذاري أن تقترب منهم، أو تحتك بهم، لأنك ستتلوث، فالشِّحاذة، مرض سريع العدوى، الواحد يصيب رفيقه، والرفيق يصيب رفيقه الآخر، وهكذا دواليك، حتى لا يعود هناك مكان للصالحين، إلاّ قليلاً. نعم، إلاّ قليلاً، فالصالحون موجودون دائماً، موجودون في كل مكان وزمان.. هم وجه الخير الدائم. هم هدير البحر وصوت الريح. هم دفء الشمس في أيام الشتاء الباردة..
أمّا أولئك الشحّاذون الذين يسيرون في درب الشِّحاذة ورؤوسهم مرفوعة، فهنيئاً لهم هذا العار الذي ألحقوه بأنفسهم. هنيئاً لهم هذا السقوط المروّع، وأياديهم ممدودة للإستعطاء، وألسنتهم ممدودة للإستجداء، وعيونهم ممدودة للنحيب والبكاء.
فلْيُمَرِّغوا أنوفَهم في الوحل، ويبكوا حالَهم..
ليبكوا، حتى تجفَّ مآقيهم.. ولْنبكِ عليهم، لا معهم.
و لكن، هل يستحقون أن نبكي عليهم؟
لا، فدموعنا أنبل وأغلى بكثير من أن تُذرَفَ على أولئك الذين ركبوا العار، ورفعوا شعار: ( نعم، نعم للشِّحاذة، لا، للكرامة)..