قصتي مع الكُتب ـ البحث عن اللآليء
:مُلاحظة.المقال من جزئين، ألأول: قصتي مع الكتب (البحث عن اللآليء)، والثاني: (رحلة الكُتب عبر تأريخ البشر)، والذي سأنشره لاحقاً
(البحث عن اللآليء)
**********
إبتدأ تأريخ صداقتي مع الكتب في يوم قائظ من أيام صيف عام 1955 أثناء العطلة الدراسية الصيفية، كنتُ يومها في العاشرة من عمري، طالب نجح إلى الصف الثالث الإبتدائي.
كان أخي وإثنتان من أخواتي -وثلاثتهم أكبر مني سناً- يقرأون بعض الكتب في إحدى غرف البيت، حيث وفرت لهم والدتي المروحة الكهربائية النقالة وأعدت لهم شربت النارنج المنعش المقطوف من حديقة الدار، الذي تتخلله قطع الثلج الصغيرة
أحسستُ بتوحدي بعد أن رفض الكل مُلاعبتي أو حتى إعارتي إهتمامهم، كانوا يستلقون بكسل وهم يقرأون القصص والروايات بتلذذ وإنقطاع كُلي عن ما حولهم وبطريقة جادة أثارت غيرتي، لِذا رحتُ أتفنن في مشاكستهم ومعاكستهم وإزعاجهم بكل وسيلة مُمكنة ومنها الغناء بصوت عال. لم تنفع معي التهديدات الوجهة لي والتي أطلقتها والدتي من المطبخ، لعلمي بأنها لم تضرب أي منا إلا في ما ندر، ولأسباب وجيهة جداً
بعد عدة مشاحنات بيني وبين (الفرسان الثلاثة) أجلستني أختي الكبيرة بجانبها وجلبت من أحد الرفوف كِتاباً من كتب (طرزان) ربيب القرود وملك الغابة، وبدأت تقرأ لي بداية تلك القصة الجميلة، وأثناء القراءة رحتُ أتصور من خلال صورة الكِتاب طرزاناً بعضلاته المفتولة وشعره الأشقر الطويل وسكينه المتدلية من جنبه، والقردة تلاعبه وتتصارخ معه، والغابة الجميلة بكل وحوشها وعنفوانها ومخاطرها وأسرارها وغموضها!!
وفجأةً إنقطعت أختي عن تكملة القراءة!، ولما سألتها المزيد قالت لي بكل جدية: أنت في الصف الثالث الأن، وبإمكانك القراءة لو حاولتَ، ربما ستكون صعبة عليك في البداية لكنكَ ستتعودها بالمران وتوالي الأيام، ولو صادفتك كلمة صعبة لا تعرف معناها فما عليك إلا سؤالنا، وستشكرني في يوم ما
!!.أما أخي نبيل فعلق بسخرية وتهكم كعادته معي: المران على القراءة مهم جداً. ثم إبتسم بتخابث مُعقباً على كلامهِ: والتكرار يُعلم الحمار
إستغرقتني قراءة ذلك الكتاب بضعة أيام، لأن خبرتي في عالم القراءة كانت متواضعة جداً، وكنتُ أقرأ بصورة بطيئة تُعطيني الوقت الكافي لتصور ورسم الحدث عبر خيالي وكأنه حقيقة سينمائية واقعة تحدث أمامي!، ولا زلتُ لحد اليوم أرفض القراءة الإجترارية السريعة، بل الوك الحدث والمعنى والتفسير والإستنتاج والتأويل وحتى النقد وكأنني الوك طعامي، وهي عادة تأصلت بيَ، أن الوك وأمضغ طعامي وقرائتي بصورة بطيئة .. لكنها لذيدة ومُفيدة
في نهاية العطلة الصيفية لتلك السنة كنتُ قد قرأتُ أغلب كتب البيت التي كانت على مستوى فكر من هم في أعمارنا، ولم أكن مُهيئاً بعد لقراءة الكتب والمجلات القليلة الصعبة العائدة لوالدي، لكنني في السنوات التي تلت قرأتُ كل الأعداد العائدة لوالدي- من مجلات (طبيبك، المختار، الهلال) والتي أعطتني ثقافة شمولية في الكثير من معارف الحياة-بصورة عامة
في سن الخامسة عشر كنتُ قد قرأت كل الكتب التي إستطعتُ إليها وصولاً، ما عدى كتب السياسة، حيث كنتُ أُحس دائماً بحالة إختناق فكري ونفسي عند قرائتها، ولحد اليوم تخلو مكتبتي من أي كتاب سياسي، ولا أريد أن أسجل هنا رأياً مُطولاً في السياسة والسياسيين، لكني فقط أقول وبإختصار أن السياسة -بالنسبة لي- عاهرة ميئوسٌ من أخلاقياتها
كانت عدوى القراءة تُصيب كل من أصادقه، وكان في محلتنا وما يُجاورها مجموعة كبيرة من الأصدقاء يتعاطون قراءة الكتب بشغف وتلهف وعطش، وكنا نُعيرُ كتبنا لبعضنا البعض، وأثناء الموسم الدراسي كنا نضع تلك الكتب داخل كتب المدرسة كي نُقنع ذوينا إننا مُنصرفون لدروسنا اليومية المدرسية، لكنها كانت حيلة بريئة لم تعبر على والدي الشاطر، ولهذا تركناها أنا وأخي وأخواتي لغيرنا خوفاً من العقاب!
في العطلة الصيفية المدرسية، بين الموسم الدراسي والآخر، كُنا ـأخي وأناـ نجلس ليلاً مع بضعة أصدقاء تحت واحدة من مصابيح الشارع فوق الحشيش الذي زرعناه على المسافة الفاصلة بين الرصيف وأسوار بيوتنا، لنناقش بكل جد مواضيع كثيرة قرأناها في هذا الكتاب أو ذاك، أو لنتكلم عن البنات الجميلات اللاتي كُنا نحلم بنظرة منهن أو إبتسامة أو لتورد خدودهن لكلمة إعجاب يُطلقها أحدنا لواحدة منهنَ، وكانت المسكينة تخشى حتى من إظهار إبتسامة مجاملة عابرة لأحدنا خوفاً من أن يصل الخبر لشقيقها الفحل "وحش الشاشة" الذي يتطلب الموقف الإجتماعي المعهود منه أن يقوم "ببسط" كل من له إهتمام بأخته "بسطة" عراقية "غسل ولبس"!!، وأحياناً كان السحر ينقلب على الساحر ويتذوق الأخ طعم "البسطة" حين لا تتطابق حسابات الحقل مع حصاد البيدر
كُنا نتكلم فيما بيننا بكل إسراف وإطناب ومبالغة عن أُناس محظوظين نعرفهم يملكون مكتبات عامرة في بيوتهم يسيل لها لعابنا كما يسيل لعاب طفلٍ صغير لمرأى الحلوى
وتشاء الصدف أن يكون إبن عمتي وصديقي صلاح -وهو بعمري- في شلتنا الواردة الذكر، حيث كان بيتهم على مبعدة ميل مِن بيتنا، وكان قد أخبرنا يوماً أن شقيقه الأكبر عمراً ( وليد ) يملك في غرفة نومهِ مكتبة فيها مئات الكتب الحديثة، لكنه لم يسبق أن سمح لشقيقه صلاح بالدخول لتلك الغرفة غير مرة أو مرتين ولدقائق معدودات
كان وليد شاباً مثقفاً جداً يُجيد الخط والرسم وله أذواق موسيقية راقية غربية وشرقية، وكان يُسرف في شراء الكتب والأسطوانات الموسيقية ومواد الرسم وأنواع الطوابع العالمية الثمينة، وكان والده (زوج عمتي) الغني -حسب مقاييس ذلك الزمن- يمده بما يشاء من نقود لدعم هواياته وتمويلها، ولم يكن وليد يسمح لأخوته وأخواته الأصغر منه سناً بالدخول لغرفته (المتحف) تلك، ربما خوفاً من عبثهم، لكنه إستجاب لتوسلاتي خاصةً بعد تدخل ووساطة والدي -خاله- وعمتي -والدته- في الموضوع
كانت مكتبته تحوي مئات الكتب الرائعة المنتقاة بعناية، وكلها تقريباً مجلدة بحرفية وأناقة عالية، وتنام بوقار فوق رفوف خشبية جدارية تأخذ تقريباً نصف مساحة غرفة نومه الكبيرة المستطيلة الشكل
لا زلتُ أذكر الصمت والرهبة اللذان إمتلكاني وأنا أقف أمام أول مكتبة لإنسان أعرفه عن قرب، إبتلعتُ ريقي وأنا أتناول بعض تلك الكتب لأقرأ عناوينها، وكان أول كتاب وقع في يدي لعنترة إبن شداد العبسي، ورحتُ أتهامس مع صلاح وكلي رهبة فكأنني داخل كاتدرائية أو معبد أو ضريح تأريخي، بينما وقف وليد مبتسماً بفخر وإعتزاز وقد راقه وأعجبه جداً مدى الإحترام والشغف الذي أبديناه أنا وصلاح تجاه كتبه، لذلك وعدني خيراً في مسألة تسليفي كتبه تباعاً شرط أن أحترمها وأعيدها سالمة كما كانت
خلال فترة زمنية ليست بالقصيرة كنتُ قد إستنفذتُ قراءة أغلب كتب مكتبة وليد، عدى الكتب السياسية والفلسفية
الحق … لقد إستطاعت تلك الكتب وغيرها الكثير أن تُغير المفاهيم البسيطة المتواضعة وحتى المغلوطة في حياتي وفكري، وأن ترشدني بطريقة مباشرة جداً لقطبي الخير والشر والحق والباطل وأن ترسم لي صورة واضحة عن مسيرة الإنسان التأريخية وبداياته وتأريخه المكتشف لحد الأن وأن تقول لي أغلب الحقيقة عن الكثير الذي حولي، وقادتني بصورة ناضجة إلى إتخاذ موقف حياتي من أغلب الأمور التي كانت حولي، علمتني أن الإنسان موقف، وبدون إتخاذ موقف واضح وعادل فالإنسان هو كائن يعبر الزمن بلا أي تأثير إيجابي مفروض، بل يمكن له أن يكون علامة إستفهام سلبية كبيرة ومُعَوِق لأغلب ما هو جيد حوله
لا زلتُ أذكر أن غالبية كتب وليد كانت لِكُتاب غربيين كلاسيكيين معروفين عالمياً، ولم يكن في مكتبته إلا بعض الكتب لمؤلفين شرقيين، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني لا أستسيغ في بداياتي كُتاب الروايات العرب إلا ما ندر منهم مثل نجيب محفوظ وجرجي زيدان وجبران خليل جبران والبعض القليل الآخر، بينما تمتعتُ وغصتُ حتى أنفي في الكتب الروائية الغربية المُترجمة التي كانت تملك كل أحاسيسي وعواطفي وتجعلني أبكي أحياناً كالطفل الصغير لبعض أحداث تلك القصص مثال قصة: ( نساء صغيرات )، ( الممر الشمالي الغربي )، ( كل شيئ هادئ في الميدان الغربي )، ( الشيخ والبحر )، ( لمن تقرع الأجراس ؟ )، ( عشيق الليدي تشاترلي )، ( أعمدة الحكمة السبعة )، ( قصة الحضارة )، ( ذهب مع الريح )، والكثير الكثير من الروايات الأجنبية الأخرى. ولم أبدأ بقراءة أعمال الكُتاب العرب إلا من خلال قراءاتي للبحوث والمصادر والدراسات التأريخية والتراثية بعد سن الثلاثين وبعد أن لم تعد الروايات والقصص تُرضي عطشي الجديد للتأريخ والتراث اللذان أصبحا -نوعاً ما- هوايتي وتخصصي وهدفي في السنوات الأخيرة، وقد عرفتُ وتيقنتُ من خلال كل قرائاتي بأن التأريخ هو أهم علم يجب أن تصل معارفه إلى كل المثقفين، لأن التأريخ يقول لنا كيف كانت بدايات الإنسان ورحلة تطوره وتطور عقله ومفاهيمه ودينه وآلهتهِ، ويُعطينا الخلفية الكافية تقريباً لأن نرى ما لا يستطيع أن يراه الآخرون حول الإنسان الحقيقي وأغلب أسراره وتطوره منذ بداياته ولحد الآن
لِذا فنصيحتي الأولى دائماً لمن حولي هي: ضرورة قراءة التأريخ ثم التأريخ ثم التأريخ
ضمن مجموعتنا حيث كُنا نسكن، كان هناك صديق رائع إسمه (سردار داود سلمان البياتي)، كان قد (إكتشف) أن آلاف الكتب المستعملة تُباع بأسعار رخيصة جداً في سوق (السراي) وعلى أرصفة الشوارع !!. وهكذا بدأت رحلاتنا الأسبوعية لسوق السراي وشارع المتنبي حيث ترقد أشهر المكتبات البغدادية
في كل رحلة كُنا نُنقب ولساعات طويلة بين مئات وآلاف الكتب المنثورة بصورة عشوائية على أرصفة الشوارع، وكثيراً ما كُنا نجد كتباً قَيِمَة كُنا ندفع فيها أسعاراً بخسة جداً ومُضحكة في زهدها حيث كانت تتراوح بين (25 ) فلساً ومائة فلس وتبعاً لرغبة الشاري ومدى شطارته في التعامل مع باعة الكتب المحترفين في فن التعامل والمراوغة والحذلقة والتشاطر. وكُنا نُسمي رحلة الذهاب الأسبوعية والتنقيب عن الكتب في سوق السراي وغيره ب: البحث عن اللآلِيء
صديقي سردار كان ينتقي دائماً الكتب السياسية اليسارية والماركسية وكل ما له علاقة بالإشتراكية والشيوعية والرأسمالية والسياسة العالمية، كان سردار الذي يكبرني بثلاث أو أربع سنوات أحد القادة الشباب لقوى اليسار حيث كُنا نسكن، ورغم صغر عمره إلا أنه كان أشهر من نارٍ على علم يومها، بسبب شجاعته اللامتناهية وجرأته وصلابته في كل المواقف المتحدية للطرف السياسي الآخر من قوميين وبعثيين وأخوان مسلمين، وقد دفع فيما بعد ثمناً باهضاً جداً بسبب يساريته ومدى فاعليته في الحزب الشيوعي العراقي، لكنه تمكن أخيراً من التخرج من كلية الهندسة ومن ثم الهجرة إلى دول الخليج مع زوجته، ورُزق بولدين وعاش بسعادة إلى حد اليوم
أما أنا فكانت تستهويني منذ البداية كل الكتب التي لها علاقة بتأريخ وتراث وادي الرافدين وتأريخ المنطقة العربية بصورة عامة، ولهذا تركتُ في عمر مُبكر قراءة الروايات والقصص إلى قراءة كل ما له علاقة بالمصادر والمراجع والبحوث والمعلومات، كذلك ومنذ أيام مراهقتي إستهوتني بشكل غريب وعميق أبواب القصة القصيرة والشعر الحر
الكتب الوحيدة التي أُعيد قرائتها كل بضعة أشهر هي كتب الشعر، وخاصةً تلك التي للبياتي وقباني والسياب ومطر والمتنبي والمعري والجواهري الكبير، فالشعر كالإعصار والزوبعة لا يتركان نفس الحدث أو التأثير في كل زيارة لهما، حيث نفس القصيدة تُعطيني معاني ومفاهيم وإنطباعات ووقع وتأثير مختلف وجديد كلما أعدتُ قرائتها في أزمنة متقطعة ومتباعدة، والحق هو ليس إختلافاً في القصيدة بقدر ما هو إختلاف في النفس البشرية ومداركها ومفاهيمها وتحولاتها التي قد تكون شبه جذرية أحياناً بين فترة زمنية وأخرى، لكن القصيدة تبقى لذيذة في كل الأحوال وتُعطينا طعماً مختلفاً في كل مرة، لكنه يبقى ممتعاً أبداً.
لازلنا أنا وسردار على إتصال هاتفي لحد اليوم رغم إننا لم نلتقي ببعضنا منذ أربعين سنة، ولا يزال بنكهته وشخصيته المتواضعة من أمتع الأصدقاء الذين كانوا في حياتي، وأشكره من أعماق قلبي لأنه كان من أوائل المعجبين الداعمين لكتاباتي، والمشجعين كي أكون كاتباً ولو بحجم متواضع. لك ولعائلتك أطلب السعادة والخير والموفقية يا صديقي العزيز سردار داود سلمان البياتي
وبسبب قراءاتي المكثفة المتواصلة فقد كتبتُ الشعر الحر والقصة القصيرة وأنا في عمر مبكر. ولمدة ثلاث سنوات متتالية في نهاية الستينات حصلتُ على الجائزة الأولى في بعض نوادي الشبيبة المسيحية في بغداد، في مضمار الشعر الحر والقصة القصيرة، وبعد هجرتي لأميركا تحولتُ لكتابة المقالات والبحوث في المجلات والصحف المهجرية الصادرة في أميركا ولندن، وفي السنوات الثلاث الأخيرة كنتُ أنشر في موقع الحوار المتمدن الذي إنسحبتُ من الكتابة فيه قبل سنتين بسبب عدم ديمقراطيته ولا عدالته في تقييم وإحترام كتابه
أما قصتي مع المسرح فهي أطول من أن يتضمنها هذا المقال، وهي تجربة شخصية وبإجتهادات صبورة وعملية. إبتدأت بكتابة وإخراج وتمثيل بعض المسرحيات المتواضعة الساخرة الهادفة في العراق، لريع النادي المسيحي الذي كنتُ أنتمي له، وإنتهت بتكوين فرقة مسرحية للهواة في ولاية مشيكان بعد هجرتي من العراق، قمتُ خلالها بتقديم خمسة عروض مسرحية كلها بفصلين، وكانت قد لاقت نجاحاً جماهيرياً أفتخر به، لكني تركت العمل المسرحي لأسباب قاهرة ربما سأكتب عنها وعن تجربتي المسرحية شبه المحترفة في أوقات لاحقة
بعد إنقلاب شباط ( 1963 ) في العراق، ومقتل الزعيم عبد الكريم قاسم، وهيمنة القوميين العرب والبعثيين على السلطة، راح صبيان ( الحرس القومي ) يقتحمون بيوت الناس الآمنين لإلقاء القبض على كل من يظنون أنه ضدهم، وكانوا كلما وجدوا مكتبة في أحدى الدور يقومون بإلقاء القبض على رجال الدار!، فالكتب كانت رمزاً للثقافة وكانت تعني لهم ( اليسار ) وكل ما هو غير مساند لإرهابهم الذي تمخض لاحقاً عن مجازر بشعة بحق كل المخلصين العراقيين!. وكم يُذكرني موقف البعثيين والقومييين تجاه الكتب والثقافة بموقف (غوبلز) وزير حكومة هتلر، الذي قال يوماً: كلما سمعت كلمة ( ثقافة ) تمتد أصابعي تتحسس مسدسي بصورة غريزية
كان النظام السياسي المتخلف ومنذ الأيام الأولى لإنقلاب شباط 1963 معادياً لكل المثقفين العراقيين، وكأنه يعترف بهولاكيته ودونيته وإعتماده على العنف كوسيلة للحكم!، لِذا قام أهالي بغداد بصورة خاصة والعراق بصورة عامة بإتلاف آلاف الكتب التي يمتلكونها خوفاً من بطش لئام وزعاطيط الحرس القومي يومذاك، وتشاء الصدف أن يكون إبن عمتي (وليد) خارج البيت ذات يوم، وكانت تسكن معهم عمتي الثانية المسنة العانس، وكانت إمرأة متواضعة المدارك وطيبة ومسالمة لدرجة كبيرة وعلى نياتها كما نقول في وصفنا الشعبي، وقد سَمعَت من الجيران أن الحرس القومي يقومون بحملة تفتيش لبيوت الناس، ويُصادرون الأسلحة والكتب حين عثورهم عليها، ويصادرون حتى الناس إن لم يكونوا على شاكلتهم وأخلاقهم ومبادئهم الطحلبية الهشة، وهكذا راحت عمتي تنقل -ولساعات طويلة-َ كتب إبن أختها المسكين (وليد) لتلقي بها في باطن ال (سبتك تانك)، وهي حفرة عميقة داخل حديقة الدار مسقفة ومبنية بالطابوق وتوجد في كل دار في المناطق السكنية التي لا تحوي أنابيب الصرف الصحي، وهي طبعاً لخزن فضلات الإنسان والمياه الوسخة حيث لم تكن هناك شبكة مجاري الصرف الصحي في أغلب مناطق بغداد
عند عودة وليد للبيت مساءً عرف من أخوته وأخواته مصير أغلب كتبه الغالية المدللة، فلزم الصمت وصعد لغرفته وإعتصم فيها حزناً لعدة أيام، بعدها رفض الحديث عن الموضوع. وليد توفاه الأجل في العراق قبل أكثر من سنة
لكل مِنا مشاعر مختلفة تجاه الكتب والقراءة والثقافة والمعرفة والتعلم وغيرها من الأمورالحضارية. أذكر أن أقصى أمنيات والدتي ( ألأمية ) الراحلة كانت في تعلم القراءة والكتابة، وقد حققت أمنيتها الغالية تلك في مدارس (محو الأمية) في زمن الزعيم عبد الكريم قاسم. ويوم نالت الشهادة مع بضعة نساء من محلتنا جلست تبكي ونحنُ نُهنئها ونقدم لها الشاي والكعك وأخواتي يهللون حولها!، لقد كان الأمر بالنسبة لها كبيراً جداً جداً، وأحسَسْتُ يومها أن والدتي كانت تحمل عقدة نفسية كبيرة أيام أميتها!، أذكر أنها كانت دائماً تطلب مِنا أن نقرأ لها، مرة من المرات زعلت بكل جدية من والدي حين عَيَرَها بأميتها أثناء خصام صغير بينهما، وقالت له وهي ترتجف إنفعالاً وغضباً: لو كانت ظروف حياتي وعائلتي قد سمحت لي بالتعلم كما سمحت لكَ ظروفك .. لكنتُ اليوم أعلَمُ منك بعشرات المرات!. مما دعا والدي للإعتذار منها، فالرجل لم يكن يعرف أنه ضرب على وترها الحساس!. وأعتقد أنها كانت تقصد من كلامها: بأن الإنسان أحياناً من صنع ظروفه
على عكس ذلك تماماً كان جارنا ( أبو جبار ) يضرب أولاده وبناته بكل شدة وقسوة ولؤم إذا ضبطهم يقرأون غير كتبهم المدرسية أو القرآن، معتقداً أن الكتب من غوايات الشيطان!!، وأن تعلم القراءة هو لغاية واحدة فقط وهي: قراءة القرآن وترسيخ الدين!. كان ( أبو جبار ) معلماً في المدرسة المتوسطة التي كنتُ أحد طلابها، وحين كان يغضب على طالب ما كان يقول له: محد فسدكم وأخذ عقلكم غير الكتب
أذكر أن أول فتاة صادقتها في العراق كانت قد أهدتني كتاب شعر لنزار قباني، وأن أول شيئ وضَعْتُهُ في حقيبة سفري وأنا أغادر العراق -إلى غير رجعة- كان ديوان شعر لعبد الوهاب البياتي (الذي يأتي ولا يأتي
أما علوان -كببجي السوق القريب من بيتنا- فكان يُغلف لفة الكباب بورقة من أوراق الجرائد أو المجلات!، ولا زلتُ أحتفظ بآخر ورقة لف لي داخلها ساندويج الكباب الذي إبتعته منه، وكان فيها موضوع رائع للكاتبة الكبيرة غادة السمان، وها قد ذهب علوان والهباب والكباب وبقيت غادة السمان حية في كل كتبها التي أقتنيتها فيما بعد، وكانت سبباً كبيراً في صقل معرفتي بأبعاد القصة القصيرة
أما (بشرى) التي كانت تُبادلني الحب ثم هربت من حياتي لأنها مسلمة وخافت من أن تفتك بها عشيرتها، فقد كانت تستعمل كتب والدها المتنفذ لحفظ وتجفيف فراشاتها التي تصطادها من حديقة الدار
إمرأة من أقاربي أوصت زوجها وأولادها أن يضعوا تحت وسادتها في كفنها بعد أن تموت دستة اللعب (ورق قمار) !، وأنا أوصيتُ عائلتي بأن يضعوا تحت وسادة تابوتي كتاب شعر لشاعر شرقي لم يُهادن الداينصورات والمسوخ
بعض الناس في جاليتنا العراقية في المهجر -من طبقة الأغنياء المُترفين- لهم مكتبات فخمة في قصورهم الفارهة تمتلآ بالكتب السميكة التي جمعوها بطريقة عشوائية لإكمال شكل ورونق غرفة المكتبة!، ولا تهمهم نوعية الكتب ماداموا لن يقرأوها!، المهم هو سمكها وتجليدها الأنيق، مثال سلسلة كتب (الأنسكلو بيديا) بأعدادها الكثيرة، أو مجموعة (قصة الحضارة - ول ديورانت)، فالكتب بالنسبة لبعض الناس ليست سوى قطع ضرورية مُكملة لآثاث البيت وزينته وأبهته، بالضبط كالأريكة والكرسي والستائر والسجاجيد!، وكلما إلتقطوا صورة تذكارية .. يُحرصون أن تكون المكتبة في خلفية الصورة
قبل سنوات قالت لي إبنتي يوم كانت لا تزال طالبة، بأن أغلب تلاميذ مَدرَستِها يعتبرون كل من يقرأ الكتب ( Nerd*- نِرد )!!!!!.ولكن .. والحق يُقال فالمجتمع الأميركي مشهور ومعروف بالقراءة، وممكن للكاتب هنا أن يكون مليونيراً بسبب عدد القراء من الشعب الأميركي !، ونادراً ما يوجد أميركي لا يقرأ أو يقتني الكتب، وربما كان ما قالته إبنتي ينحصر في مجموعة من الطلبة وفي سن معين
وعلى عكس ذلك كُنا في مدارس بغداد نُطلق على الشبان الذين لا يقرأون تسمية أو نعت: (يندل دربة) .. وتعني الحمار الذي يعرف طريقه من كثرة الذهاب والإياب في نفس الدرب، وعلى عكسنا كانت غالبية المجتمع العراقي التي لم تكن تقرأ ولا تُعير للكتب أي إهتمام من أي نوع
*************************
Nerd*
نِرد: كلمة إنكليزية غير فصحى تُستعمل في وصف الطالب الذي يقرأ كثيراً وشكله ولباسه غير إعتياديان ولا يشترك مع بقية الطلبة في الفعاليات الرياضية لأسباب عديدة منها عدم لياقته البدنية، ويكون إنطوائياً وخجولاً وقليل الجرأة والإختلاط، وربما يقابلها كمعنى في لغتنا كلمة ( بهلول أو أثول ). هذا علماً بأن غالبية ال ( نِرد ) في أميركا يصبحون من أهم العلماء والمفكرين والسياسيين والشخصيات المهمة لاحقاً في حياتهم العملية
في سنة 1951 نشرت مجلة (نيوز ويك) تقريراً عن أن هذه الكلمة ظهرت كإستخدام شعبي في مدينة ديترويت \مشيكان لأول مرة، وبحلول أوائل الستينات إنتشر إستخدام كلمة ( نِرد ) في جميع أنحاء أميركا وحتى إسكتلندا
.تحياتي لكل القراء
. الجزء الثاني من هذا المقال سيتم نشره قريباً بعون العقل
المجد للإنسان
طلعت ميشو. كاتب وناقد عراقي
tommisho@gmail.com