المسيحيون في بلاد الرافدين، تاريخ عريق ومستقبل غامض
عادل دنوعنوان كتاب أخاذ يدفع السامع الى الغوص للبحث عنه والتحليق لقراءة ما بين دفتيه، ولكن للذي لا يعرف فان الكتاب صدر باللغة الفرنسية كتبه البروفيسور افرام عيسى يوسف الاستاذ والباحث الذي اصدر ثلاثة عشر كتابا ترجم اغلبها الى لغات عدة منها التركية والعربية.
الدكتور افرام هو احد ابناء شعبنا الغيورين الذين لم يتوانوا يوما من ان يجدوا فرصا بعد اخرى محاولين ايصال نكبات شعبنا التي مر بها على مدى تاريخه الى العالم.
نسوق هذه المقدمة لان اتيحت لنا الفرصة الرائعة على يد تفقتا ملتقى سيدني الثقافي مساء الثلاثاء السادس من ايار 2014 وعلى قاعة لانتانا في سيدني ان نجلس وجها لوجه مع عملاق اخر من بني جلدتنا البروفيسور الدكتور افرام عيسى يوسف الذي حضر من فرنسا ليتحفنا بخلاصة تاريخية في وضع المسيحيين في بلاد الرافدين وليتحدث عن تاريخهم العريق وليخلص الى الحاضر البائس الغامض.
بعد ان رحب به مقدم ومدير اللقاء الاستاذ مدحت البازي معرفا اياه على الحضور الذي غصت القاعة به، قال الدكتور افرام انه كان يتمنى ان يرى سيدني ويلتقي بمعارفه واقاربه وان يتحدث الى مثقفي شعبه ويتحاور معهم في شؤون وشجون شعبنا.
وابتدأ محاضرته بتسمية حضارة شعبنا بالعريقة وجاب في اصولها واصول تواجد المسيحيين في بلاد الرافدين وكيف انتشرت المسيحية في الامبراطورية الرومانية بادئ ذي بدء ثم المناطق المتحضرة والخاضعة للاغريق والكتواجدة في بلدان الشرق. ومن هذه المناطق بلدان سريانية كانت فيها منافسة قوية بين اللغة الاغريقية وبين اللغة السريانية الحديثة.
ومن اشهر هذه البلدان اورفا او اورهاي التي كانت لغتها السريانية ولكنها خاضعة للرومان رغم انها كانت تتمتع بادارة ذاتية من نوع ما ويحكمها ملوكها..
كان المسيح مواطنا رومانيا اصله من بني يهود تكلم الارامية والسريانية هي فرع من الارامية التي انتشرت في بلاد النهرين العليا في مناطق ديار بكر وماردين والجزيرة وغيرها.
وبانتشار المسيحية في هذه الاصقاع ووصلت الى ساليق وقطيسفون التي اصبحت حاضرة البلاد المسيحية في الشرق ومستقرا للبطريركية.
عندما جاء الساسانيون الفرس من الشرق واسسوا دولتهم منذ القرن الثالث للميلاد، كان ان سمحت الامبراطورية الرومانية للديانة المسيحية بالانتشار والازدهار في ربوعها، مما جعل الفرس يكنون العداء والكره للمسيحيين في بقاعهم وشرعوا اضطهادهم شر اضطهاد منذ شابور الثاني الذي دشن الاضطهاد الاول.
الا انه رغم الاضطهاد فقد انتشرت المسيحية، وبانتشارها ظهرت الاجتهادات والبدع والجدالات العنيفة حول كيان المسيح وطبيعته وليجتمع اباء الكنائس في 431 في مجمع ناقشوا فيه ماهية المسيح، لجمع المختلفين .. وكان ان ركزت كنيسة المشرق واعطت اهمية كبيره لجانب المسيح الانسان. ثم انفصل وابتعد مسيحيوا الشرق عن مسيحيي الغرب.. ورغم الصعوبات والمشاكل الكثيرة الا ان كنيسة المشرق تمكنت من تاسيس مؤسسات وابرشيات ومراكز ثقافية .. اذ فكر الاباء ان الاحتفاظ بالمسيحية ونشرها يتم عن طريق التعليم لذا اشتهرت مدارس كثيرة منها نصيبين بفضل مار افرام السرياني اصبحت مدرسة جامعية يتلقى فيها الطالب العلوم والطب والفلسفة وعلم السرتاريا مما حدا بالرومان والفرس ان يبعثوا بطلبتهم اليها للدراسة وتعلم الكثير فيها.
واكد الدكتور افرام انه حضر مؤتمرا حول موضوع تاسيس هذه المدرسة ومؤتمرا اخرا حول موضوع تاريخ هذه المدرسة العريقة.
وحدث انهيار في الامبراطوريتين بسبب الحروب لمدة طويلة حتى سيطر هرقل على قسم من بلاد النهرين مما سبب في ضعف الساسانيين. وحدث ان استولى العرب المسلمون القادمون من الجزيرة العربية على العراق وهزموا الفرس ثم الرومان. واعتقد رؤساء الكنيسة انه ربما يكونون هؤلاء في صالحهم بسبب ما رأت الكنيسة وابنائها من اضطهاد وما عانوه من عذاب.. ولكن خاب املهم.
في بداية الحكم الاموي فرض عبد الملك بن مروان الذي بدأ خلافته عام 685 الضريبة على المسيحيين. ثم عمر الذي حكم للفترة 717- 720 فرض نظاما سمي بنظام الذمي المقصود به اليهود والمسيحيين الذين يعيشون تحت الحكم الاسلامي وصارت هذه مثل كابوس جاثم فوق رؤوس المسيحيين في الشرق حتى يوم انهيار الدولة العثمانية. وكان نظام الذمي يؤدي الى ان يكون المسيحي مواطن من درجة ثانية وخاضع دائما للمسلم، ويدفع الجزية.
اما يزيد الثاني فقد فرض على المسيحيين ان يلبسوا اشارات وملابس خاصة لكيما يُعرفوا في خروجهم من البيت وتجوالهم.
اما العباسيون (750- 1258) فقد كانوا اكثر انفتاحا من الامويين وبعدما قام ابو جعفر المنصور ببناء بغداد عام 762 ونقل عاصمته اليها اهتم بالعمران واستتباب الامن وجلب الى بغداد الطبيب كيوركيس بختيشوع ليصبح طبيب الخليفة لمدة طويلة. وفي عهد الخلافة العباسية اهتم الخلفاء ببناء مؤسسات واهتموا بالفلسفة والفكر والعلوم وبما ان العرب لم يكن لديهم اسس في العلوم ولم يكن لديهم اطباء وفلاسفة فكان التساؤل كيف تدخل علوم ذلك العصر الى الدولة؟ لم يكن غير السريان من يُعول عليهم لاستقدام هذه العلوم وترجمتها الى العربية سواء من الاغريقية او من السريانية وبرعوا في الترجمة واستحداث المصطلحات والمفردات المفهومة من قبل العرب.
ويؤكد كتاب ابن القفطي وابن النديم وابن ابي اصيبعة ان الفكر والحضارة والفلسفة دخلت من باب الفلاسفة السريان ولم تكن بشكل مفاجئ.
في ظل هذه الظروف وجد المسيحيون هدوءا وازدهارا واتسعت الكنيسة واتجهت نحو الشرق متوغلة في ايران وافغانستان حتى وصلت الصين.. وتأسست في كل هذه البقاع ابرشيات، وقد وصل عدد الابرشيات في القرن الثاني عشر الى 250 ابرشية ممتدة على كل الشرق واسيا. حسب الدارسين فان المسيحية في الشرق صارت تقابل المسيحية في الغرب. واكتسب البطريرك اهمية كبيرة وكان مقره في بغداد واراد العباسيون ان يكون بمثابة خليفة للمسيحيين.
لم يدم الامر طويلا فان مجئ المتوكل (847- 862) صار منطلقا لمهاجمة ومحاربة الفلاسفة والمفكرين لانه كان ينتمي الى الطريقة الاشعرية لذا فقد حارب المعتزلة. اما السريان فقد مروا بصعوبات جمة اذ اصبح المسيحيون وكأنهم مصدر للتطور الفكري والفلسفي الذي لم يتوافق مع ارائهم فعاد الخليفة ليفرض لبس الاشارات والملابس الخاصة على المسيحيين لتمييزهم .
بعد سنوات مريرة عاشها المسيحيون في ظل الحكم العنصري استطاع الطبيب يوحنا بن ماسويه ان يتدخل لدى الخليفة ليرفع الحيف وتلك الاضطهادات والتمييز.
اضاف الدكتور افرام الفترات التاريخية الاخرى التي لم تخل من الاضطهادات وعقب قائلا:
قدم السلاجقة واستولوا على الحكم في العراق بناء على طلب من الخليفة الضعيف الذي اصبح تحت رحمة السلطان السلجوقي، حينها دخلت البلاد في الثقافة التركية وكان همهم توسيع سيطرتهم ولذا لم يكن وجودهم مؤثرا كبيرا في موضوع اضطهاد المسيحيين. وتبع السلاجقة حكم المغول وكانوا قبائل صغيرة في اواسط اسيا توحدت في عصر جنكيزخان الذي وجههم لاحتلال معظم الشرق وبدخولهم بغداد بقيادة هولاكو قتلوا الخليفة العباسي واجتاحوا بلاد الشام. لم يترك المغول بغداد مدينة سالمة بل حطموها واحرقوا ونهبوا وعاثوا الفساد فيها بلا تمييز بين عقيدة او دين وطالبوا البطريرك مكيخا البقاء في مقره لان زوجة هولاكو كانت مسيحية فقد كانت الامور تسير بهذا الاتجاه المتسامح نوعا ما الى ان تحولت الى كازان عام 1304 الذي جعل من الاسلام الدين الرسمي عندها بدأت المسيحية بالتراجع وواجهت الاهمال رغم ان احد بطاركتها هو مار يوآلاها الثالث كان مغوليا.
فترة اخرى بدأت عاش فيها المسيحيون تحت نير واضطهاد وكان ذلك في عهد الحكم العثماني حتى سقوطها مطلع القرن العشرين. وفرض السلاطين نظام الذمي بل واسسوا نظاما سياسيا اخر هو نظام الملة وجعلوا من كل رئيس كنيسة رئيس مليا وكان في العادة البطريرك ليكون مسؤولا امام السلطات عن جمع الضرائب وقمع الارادات المناهضة للسياسة العثمانية وعمل السلطين بهذا النظام للسيطرة على جميع الملل والنحل التي كانت تعيش تحت سيطرتهم وبسبب كرههم للاحزاب وتشكيلات سياسية اخرى.
عمل السلاطين العثمانيون على اقامة علاقات مع الغرب فاتفقوا مع الفرنسيين والانكليز على تمتين العلاقات التجارية وبناء مراكز تجارية في كل انحاء الدولة العثمانية. وعندما دخل الغرب تجاريا دخل مع التجار ارساليات دينية لاغراض عديدة. ففي عام 1623 استقر الرهبان الاوغسطينيون في البصرة للقيام باعادة الهراطقة الى تعاليم المسيحية التي يؤمن بها الغرب وكذلك للتبشير. كما استقر الكبوشيون في بغداد عام 1628. اما الدومنيكان فقد استقروا في الموصل عام 1750 وفي مناطق كوردستان واسسوا ارساليات في العمادية مثلا وفي اماكن اخرى. اسس الدومنيكان معهد مار يوحنا الحبيب عام 1856 في الموصل لنشر الثقافة واللغة الفرنسية ولاعداد الكهنة.
وبتاثير الارساليات والخلافات الداخلية قامت شريحة من كنيسة المشرق باقامة علاقات مع الكنيسة في روما واصبحوا كاثوليكا واتخذوا اسما لهم وهو الكلدان وكان مقره في ديار بكر. بعد عقود فقدت الكنيسة الكلدانية سيطرتها فعادت الى اصلها النسطوري. وبسبب هذه الانقسامات والظروف المعقدة اصبحت الكنيسة ضعيفة الى ان حصل انفصام وانقسام اخر عام 1830 بين الموصل – القوش ومناطق اخرى العمادية وقودجانس نشطت حركة الكثلكة مرة اخرى وتأرجحت العلاقات مع روما صعودا وهبوطا. حضر البطريرك يوسف ادودو عام 1868 المجمع الفاتيكاني الاول وبسبب عدم موافقته على اقرار معصومية البابا وبسبب فكره وسياسته تجاه مسيحيي ملبار اصبح موقفه ضعيفا لدى الغرب.
كان الاكراد اثناء الحكم العثماني يعيشون في منطقة واسعة شمال بلاد النهرين وجنوب تركيا حاليا وكان لهم دور كبير في انجاح العمليات العسكرية العثمانية ضد الدولة الصفوية. وطالب الاكراد ان يكون لهم امارات تخضع للسلطان ولكن تتمتع بحكم ذاتي نوعا ما وتشكلت خمسة امارات منها امارة هكاري وكانت عاصمتها جولمرك وكان للمسيحيين في المنطقة نظام خاص، فكان البطريرك هو الرئيس الديني والمدني في ان واحد يحكم جماعته سياسيا وروحيا وكان يسمى النظام بنظام عشيرت اما المسيحيون في مناطق اخرى خضعوا لنظام رايت. وعند قيام امارة بوتان ارادوا التحالف مع المسيحيين فرفض المسيحيون فشن هؤلاء الحرب عليهم.
اما الامارات الثلاثة الاخرى فهي امارة بهدينان في منطقة العمادية تنحدر من سلالة سيف الدين. وامارة سوران في مناطق السليمانية ويذكر التاريخ ان اميرها ميره كور ذبح الايزيديين والمسيحيين حتى بلدة القوش .
نحن المسيحيون عشنا مع هؤلاء الاقوام وخاصة الكردية خمسة قرون ونرى حتى تشابه بعض اكلاتنا ورقصاتنا واغانينا وتراثنا مع تراث الاكراد. ولكن لم تخل المناطق من اعتداءات واضطهادات لاسباب عديدة.
ماذا جرى لنا نحن المسيحيين ؟ حين قامت الحرب الكونية الاولى التي لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل، ولم نكن منافسين سياسيين رغم ذلك صار لنا ضحايا بما يقدر عددهم بمائتي وخمسين الف ضحية.. فما ان بدأت الاضطهادات ضد الارمن حتى راح ابناء شعبنا ضحايا الغدر والخيانة والضطهاد الديني والعرقي وانتهت ابرشيات كثيرة بفعل المذابح فعلى سبيل المثال انتهت ابرشية سعرد وماردين ودياربكر وكانت هذه المناطق مشتركة يعيش فيها الارمن والكلدان والاشوريين والسريان.
وكانت السلطات العثمانية قد طالبت والي الموصل حيدر بك القضاء على المسيحيين في الموصل ولكنه تماطل وارجأ الاوامر لانه كان يتلقى رشاوى كثيرة.
معاهدة السلام في باريس
حاول ابناء الرافدين ان يكون لهم حصة في هذا المؤتمر للمطالبة بالحقوق مثل بقية الشعوب في المنطقة، فشاركت ستة منظمات في هذا المؤتمر الى جانب الاكراد وكذلك البطريرك مار عمانوئيل الثاني الذي التقى برؤساء عديدون والبابا وطالبهم بالوقوف مع مطالب المسيحيين. وتم اتخاذ القرار في تنظيم دولة في الشمال وان تشمل بلدا للمسيحيين تضمن فيها حقوقهم ولكن للاسف لم يتم تنفيذ اي من هذه القرارات.
وعملت الحكومة العراقية الحديثة على اقناع الغرب والانكليز انها في خدمة الاكراد والمسيحيين ولكن ما ان اتيحت الفرصة لهم حتى قتلوا عددا كبيرا في سميل عام 1933 وصارت ضمانة حقوقنا ماساة لنا . واستمر تهميش ابناء شعبنا حتى حكم البعثيون وقاموا بتاميم مدارسنا وامموا جامعة الحكمة اليسوعية وامموا الاكليريكيات وقاد الكهنة الى الجيش للخدمة العسكرية ولم تنتهي بكارثة كبيرة عام 1976 حين قامت السلطة البعثية بابادة وتحطيم 182 قرية مسيحية في مناطق الشمال مما اضطر اهاليها الى الهجرة واحس المسيحيون انهم مواطنون من الدرجة الثانية .
هذا كان ماضي المسيحيين .. وقال الدكتور مضيفا انكم لم تاتوا الى هنا نتيجة جوعكم او لانكم فقراء بل لحفظ كرامتكم انكم واباؤكم شعرتم بالاهانة .. ان المآسي والحروب طعنت في شخصية المسيحي .. وادت هذه الى هجرة ثلاثة ارباع بني شعبنا من العراق بعد 2000 سنة من العطاء السخي الفاعل لبلاد النهرين .. اعطينا العلم والفلسفة .. فصرنا اليوم غرباء.
كان هذا ختام حديث الدكتور افرام. وفتح مدير اللقاء الاستاذ مدحت البازي الباب للاسئلة التي اثارت بعضها اهتمام الباحث الاستاذ القدير الدكتور افرام واجاب عنها بمسرة.
وفي الختام نسرد بصورة مختصرة بعض ما يفي بالتعرف على هذه الشخصية البارزة. ولد الدكتور افرام عام 1944 في سناط شمال زاخو ودخل معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل ثم سافر الى فرنسا ليدرس في قسم دراسة الحضارات القديمة في جامعة نيس كما درس لنيل شهادة دكتوراه ثانية في فلسفة القرون الوسطى.
عاد الى بغداد عام 1980 لغرض التعيين كتدريسي في الجامعة الا ان الاوضاع الغير المستقرة وظهور بوادر الحرب، سافر ثانية الى فرنسا ليعمل مدرسا في جامعة تولوز الكاثوليكية لمادة الفلسفة العربية ومادة الحضارات. ثم تعين في جامعة باريس مدرسا. وتعين مديرا للقسم الشرقي في دار نشر لامارتان اكبر دور النشر في باريس.
له اسهامات كبيرة وكثيرة في تعريف العالم بقضايا شعبنا طوال تاريخه الطويل فقد القى عشرات المحاضرات في مؤتمرات دولية تناولت تاريخ شعبنا وتراثه وفلاسفته واسهامة حضارته وخدمته للبشرية فكريا وثقافيا وعلميا.