لمناسبة تبنّيها في مجمع الاساقفة:
بين الكنيسة والشعب، تطلعات بشأن الرابطة الكلدانية
الأب نويل فرمان السناطي
من غير المرجح أن الاتجاهات القومية والأحزاب السياسية المتصلة بشعبنا، قد رأت في قيام الرابطة الكلدانية، مجرد رقم آخر، يضاف إلى ما بات يُسمَّى بـ "كيانات" شعبنا. ومن غير المتوقع أنهم ينظرون إليها، دونما اكتراث يُذكر، على أساس كونها مجرد جمعية ثقافية، لا تستدعي التوقف مليًا، ثم ومن باب أولى، على أساس أنها غير سياسية أصلا؛ لكن الملاحظ، بل المفارقة، أن بلورة تأسيس الرابطة وطرحها على بساط البحث والتداول، صاحبه ما قد يلفت النظر من صمت "سياسي" عميق يـُشمّ منه شيء من اللامبالاة؛ مع أنها انبثقت من تطلعات بطريرك له ثقله الكنسي والوطني والقومي، البطريرك لويس روفائيل الأول ساكو، وله كلمته محليا، أوربيا ودوليا، في الاحداث السياسية على الساحة؛ ويستثنى من هذا الشعور والانطباع، قيام نخبة من الأقلام المتمرسة الرصينة والنزيهة الملتصقة بالشأن الكنسي بقناعة وإيمان، واللصيقة بشفافية بالهاجس القومي، سواء كانت ضمن اطار تنظيمي أو خارجه؛ وقد تناولت هذه النخبة موضوع الرابطة بمهنية وحيادية واحتضان، وبروحية من التفهم لتوجّهات البطريرك الكلداني الرامية إلى ازدهار الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وأبنائها، نحو الوحدة والاصالة والتجدد.
الرابطة الكلدانية والكنيسة الكلدانية
من المعروف أيضا أن هذه الرابطة تترسخ برعاية قريبة من الكنيسة الكلدانية كمرشدة محبة لشعبها المؤمن بدليل كونها، كما سبق ذكره، مشروعًا مباشرًا صادرًا من البطريرك، وأن هذه الرعاية للشعب الكلداني المؤمن تشمل توجهه الثقافي والإنساني والفني والادبي والفولكلوري وأصالته التاريخية وتجذره. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الكنيسة الكلدانية ببطريركها، وهي في زمن متفرد وضمن رقعة جغرافية واسعة وطنيا وعاليا، تحمل صوتًا في المحفل الرسمي المحلي والعالمي، لما يتعلق بشؤون مؤمنيها وحياتهم الانسانية والوجدانية.
ونحن الآن، في أعقاب صدور البيان الختامي لسينودس أساقفة الكلدان، نعيش مرحلة الإعداد المباشر لقيام هذه الرابطة، بعد أن تبنـّاها أساقفة المجمع المقدس، وعُهدت إلى أيدي متخصـّصين تكنوقراط؛ وزاد المجمع فأوكلها إلى متابعة أساقفة يجمعون بين الحيوية والخبرة؛ إذ جاء في البيان الختامي: "تبنى الآباء مقترح البطريرك بتأسيس رابطة كلدانية عالمية، فتشكلت لجنة من الأساقفة لمتابعة التأسيس مكوّنة من الأساقفة يوسف توما، بشار وردة وميخائيل مقدسي عن العراق، والمطران ابراهيم ابراهيم عن أمريكا، ويشرف على عملية التأسيس غبطة البطريرك". ونعرف ما لهؤلاء الأحبار مجتمعين من باع طويل في الشأن الإعلامي والتعامل الحكيم مع المحافل الرسمية والاجتماعية، الى جانب ضلوعهم الأكاديمي في الشأن الاثني وترابطه المتوازن مع الجانب الروحي والانتعاش الوجداني.
جهة متفاعلة ومنفتحة على رقعة واسعة وطنيا وعالميا
تكتسب الرابطة ثقلها وأهميتها الخاصة كونها تقوم على مساحة ديمغرافية لعدد واسع من المسيحيين الكلدان في العراق الحالي لحدّ كتابة هذه السطور وقراءتها؛ نقول الحالي، وذلك في أعقاب أحداث الموصل وكركوك وسواهما من مدن العراق، وما ألقته من ظلال على مواطنينا العراقيين والنهرينيين وخصوصا أبناء شعبنا ذي الجذور العميقة الضاربة في تاريخ البلاد. هذه المساحة الديمغرافية الممتدة أيضًا إلى الافق التاريخي لأرض ما بين النهرين؛ وهي تمتد في الخارج أيضا إلى مختلف اصقاع العالم.
وأكثر من هذا فإن الرابطة تنفتح بأبناء الكنيسة الكلدانية، إلى سائر الأشقاء في الإيمان والجذور من مسيحيي البلاد والمنطقة ومواطنيهم في الخارج، متأسّسةً على الأمانة للدعوة الروحية المسكونية الكنسية الجامعة لرسالة البشرى السارة، الإنجيل.
وللرابطة الكلدانية العتيدة أن تغترف من خبرة الرابطة السريانية في لبنان الشرق الاوسط، والتي برزت بحجمها الإعلامي والمعنوي في ظروف الاستلاب والاختطافات، كمنبر نيـّر وصوت مسموع لمسيحيي لبنان والشرق الاوسط، انطلاقا من خصوصيتهم كأبناء للشعب السورايا الآرامي وتفاعلا مع أشقائهم الشرق أوسطيين في الإيمان.
وللرابطة الكلدانية أن تتناظر مع تاريخ العمق الماروني – السرياني، المنفتح إلى الإشراقة المسيحية عربيًا، في لبنان الأرز وخارجه؛ وكذلك مع الكنيسة المارونية، التي أثبتت الأيام كيف ترسخت كبعد متميّز لمسيحيي المنطقة؛ بحيث سبق للبطريرك لويس ساكو في احد لقاءات الاساقفة بلبنان، وبفخر وتواضع ومحبة وتأصل، سبق له وأن دعا للحبر الماروني البطريرك بشارة الراعي، بالعمادة الروحية والمسيحية والأخوية بين أحبار المنطقة الكاثوليك، مع الإنفتاح في خدمة المحبة إلى سائر الأحبار المسيحيين.
برعاية كنسية، الرابطة بمديات متنوعة منفتحة دونما توجس من أجندة خارجية أو سياسية
في مثل هذه الظروف، التي يمكن فيها التحسس من التدخل الحزبي والتكتلي في الشأن الكنسي، لعلّ قاعات الكنائس تفتح أبوابها مشرعة لأبناء الرابطة وأعضائها ومُريديها واصدقائها؛ وقد يكون لها إذا سُمح لي بتوقع ذلك وتنفيذه ميدانيًا، حصة من الإعلانات والتوصيات، في منبر ما بعد الطقوس الدينية، وذلك بدون أي حساسية مما سمي في العراق الحالي، بعد سنة 2003 بالأجندة السياسية لهذا الحزب أو التكتل أو ذاك، ولا بأي منافسة انتخابية.
هذا، كما أعتقد، قد يجعل الشعب المؤمن المرتاد الى الكنيسة بمواظبة واقتناع، أن يحتضن هذه الرابطة دونما خشية أن تتقاذفه هذه التيارات أو تلك؛ وفي الوقت عينه، مع إبقاء وإنماء المودة للأهل والأصدقاء والأقارب المنخرطين في الشأن السياسي.
كما أن أبناء الكنيسة، سيتمكن من يشاء منهم، خارجًا عن الرابطة، أن يختار هذا التوجه السياسي أو ذاك، برؤية أوضح، أمام حيادية كنسية مطلقة إزاء العمل الحزبي السياسي، مسترشدا بقناعته على وفق ما يراه في هذا المشروع السياسي أو ذاك، ومستنيرًا بخبرة شعبنا تجاه مختلف الاحزاب، سياسية كانت أو وظيفية، سواءًا قبل أحداث الموصل 2014 أو بعدها.
هذا ما يجعل من الرابطة، في كنيسة كاثوليكية، كلدانية كانت أو سريانية أو مارونية أو أرمنية أو قبطية، تتيح التميّز المشروع والواجب، بين عالمين، الروحي والمدني، متعاشقين بشفافية، غير متداخلين، وبلا ضبابية، على وفق اتجاهات ابنائها؛ فيكون فيهم من سيكتشف ما في داخله من رغبة خاصة للعمل السياسي والقيادي على مستوى الوطن، وخدمةً للرقعة الجغرافية ذات الكثافة المسيحية؛ ويتبين من الجانب الآخر، من يهتم بالشأن الديني والثقافي والفولكلوري والتاريخي والأدبي لشعبنا السورايا في إطار مدني لرابطة مثل الرابطة الكلدانية.
هذه أفكار تم اجترارها منذ أسابيع بل أشهر، مع إعلان الرغبة البطريركية في قيام الرابطة الكلدانية، وعلى مدى ما تم متابعته، خلال المدة المنصرمة، من أفكار وأبحاث بهذا الشأن؛ حتى تكلل كل هذا بأن أقرّها آباء المجمع المقدس، لتنطلق بمتابعة فريق أسقفي فاعل وطنيا وعالميا.
وبعد، لم تكن هذه الصحبة تودّ، رغم كل الحبور الذي تنضح به، أن ترسم صورة مثالية ذهبية عن الرابطة، لكنها جاءت لتنشد كل العناصر التي تبشر بديمومة الرابطة وبكونها حقًا خطوة مفصلية، خطوة على الطريق الصحيح.