مناجاة... أينَ أنتِ
د. صباح قيّا في المرحلة الثانية من دراستي في كلية طب بغداد , كان يشارك غرفتي في القسم الداخلي أحد طلبة المرحلة الأولى من كلية طب الأسنان . كنت املك مذياعاً قديما يطلق عليه " راديو أبو الساعة " جلبته من البيت , و كان المذياع الأول الذي اشتراه المرحوم والدي ثم انتفت الحاجة اليه فأصبح ضمن ما موجود في الدار من " عتيك متيك " الى أن " كمركته " كما يقال ، رغم اضطراري لتأديبه أحيانا براحة يدي كي يستمر بالبث ولو مع بعض " الخرخشة " . شاءت الصدف ان أنهض صباح يوم بعد زميلي الذي كان عند المغاسل المشتركة لطابقنا وسبق له أن فتح المذياع على غير عادته . أطفأته بعفوية . رأيت الغضب يتطاير من عينيه بعد عودته الى الغرفة وخاطبني بعصبية واضحة .. لماذا أطفأت الراديو ؟ أجبته : هل هنالك مشكلة.. أننا لم نتعود فتحه ونحن نتهيأ للذهاب الى الكلية . اصر بأني تعمدت ذلك حيث كانت فقرة تلاوة القرآن الصباحي . لم يعر اهتماما باعتذاري وكل محاولاتي لأقناعه بأن ما حدث لم يكن مقصوداً . فبدأ يكرر صارخاً بصوتٍ عالٍ .. قتلك حلال ... قتلك حلال .. قتلك حلال ... وأنا انظر اليه مشدوهاً وقد عقدت المفاجأة لساني .. تسارع الطلبة الى غرفتي ... وعندما علموا بحقيقة الأمر لاقى منهم الإستهجان والملامة ’ حيث كانت الأفكار العلمانية والإتجاهات القومية هي السائدة آنذاك في الحرم الجامعي ولم تكن للحركات الدينية وحتى المعتدلة منها أي دور يذكر ... اضطر زميلي بعد أن خذله أقرانه من نفس الدين وحتى نفس المذهب الى الإعتراف بتسرعه ... هذا مثال بسيط
يجسد " ثقافة القتل " ... والتي قد تنضج أو تتلاشى بتأثير عوامل متعددة ومتشابكة ...المهم أنها ذابت عند شريك غرفتي وصرنا ولا نزال أصدقاء متآخين .
مرت سنونٌ طويلة ... أطل على شعبنا المسلوب الإرادة الحصار الجائر .... كنت ألاحظ الأعمار الصغيرة واليافعة من أبناء منطقتي يتوجهون فرحين مبتسمين أيام الجمع لأداء الصلاة في الجامع الذي لا يبعد كثيراً عن داري .. لكن ، وللأسف الشديد، ينعكس المظهر حال خروجهم من الجامع .. أرى في وجوههم تعابير الحقد والكراهية والغضب .. أشعر من نظراتهم المخيفة بأن غريزة الخطيئة أقرب اليهم منها الى الشيطان . لا غرابة في ذلك ما دام الخطيب يهدد ويتوعد ... أقتلوهم ... ألكفرة .. ألملحدين ... ألصليبيين المشركين .. أعداء الله ورسوله .. أجركم عند الله عظيم .. ستفتح لكم أبواب الجنة والنعيم ... هذا مثال آخر على
" ثقافة القتل " ... ولكن تأثيراته خطيرة وعواقبه وخيمة ... يعاد المشهد في كل خطبة وبانتظام .. أناس في عمر الزهور يغسل دماغها تدريجياً .. من العسير أن يتلاشى مثل هذا التطعيم ، بل حتما سينضج عند الكثيرين ... هذا ما حصل بالفعل ونحن شهوده ...
مارس الإنسان القتل منذ بدء الخليقة .. ألأخ قتل أخاه ضمن أول عائلة وردت في الكتاب المقدس ... أفراد العائلة الحاكمة يتخلص البعض منهم من البعض الآخر بخبث ووحشية طمعا في اعتلاء سدة الحكم . دولٌ اكتسحت أخرى .. أمبراطوريات أبادت مثيلاتها ... حروب ومطاحنات على مدار التاريخ ... ألأسباب متنوعة والحجج كثيرة ... يبقى الهدف واحدا .. ألدمار والقتل لمن لا يرضخ ..
ظهرت العذراء أمنا مرات عديدة ... لم تظهر لأيقاف الأقتتال والحد من الحروب وبغي الأنسان على أخيه الإنسان ... ظهرت تدعونا للتوبة والصلوات ... تباركنا للتشبث بالخالق ونلتصق بالإيمان ... ذلك هو طريق المحبة والسلام ... هل من يسمع ؟
مناجاة... أينَ أنتِ
د. صباح قيّا أماهُ مهما كتبتُ لنْ آتيكِ بالجديدِ
فما قيلَ قبلَ اليومِ لا يُجارى بالمزيدِ
شعبكِ في متاهاتِ الأرضِ يشقى كالعبيدِ
يا شفيعةَ الخَلْقِ أمَّ الوجودِ أينِ أنتِ
نحنُ مِنْ أجلكِ للشهادةِ جمعُنا يمضي
مذ حملنا رايةَ الصَلْبِ نشرناها بومْضِ
نفخَ الشيطانُ ناراً كيْ علينا هو يقضي
ولهيبُ الشرِّ يشتدُّ ويلْظي أينَ أنتِ
هَوَذا الكنائسُ صِرْحُها قد أمسى خرابا
أرعبوأ الكُهّان فيها وأذاقوهمْ عذابا
زيلتْ الصلبانُ عنها أشبعوا الناسَ حِرابا
يقرعُ الناقوسُ في حزنٍ سرابا أينَ أنتِ
هلعٌ في كلِّ دارٍ أو معاناةُ مصائبْ
طفلةٌ تصرخُ ماءً ونساءٌ لا تُجاوبْ
ورجالُ الحيِّ ليلاً في عذاباتٍ تناوبْ
وسياطُ الذلِّ تُدمي كلَّ جانبْ أينّ أنتِ
دخلوا دارَ العذارى واستباحوأ حُرُماتِهْ
قُصَّراً كُنَّ الصبايا تِلْكَ مِنْ صُلْبِ سِماتِهْ
أيُّ دينٍ يختلي الجسمَ المُسَجّى بِمماتِهْ
كيفَ يا العذراءُ نرضى بِزُناتِهْ أينَ أنتِ
ما شادَ على الأرضِ سنيناً أفْنتْهُ دقائقْ
مَنْ سيحكي قصةَ الدينِ بتصويرِ الحقائقْ
لا بناءٌ لا رموزٌ لا ولا حتّى رقائقْ
أعدموأ تاريخَ مجدٍ بحرائقْ أينَ أنتِ
نحنُ لا نقوى على قهرِ الغزاةِ بالمعاركْ
قد جَبَلْنا الدينَ سِلْماً رغمَ موجاتِ المهالكْ
كمْ شهيدٍ عانقَ الموتَ صليباً بهِ ماسِكْ
وحصادُ السيفِ قسّيسٌ وناسِكْ أينَ أنتِ
لا نظُنُّ الغربَ عنّا في دِفاعٍ أو قتالِ
فَهْوَ لا يسْنُدُ ديناً لا يُجازيهِ بمالِ
دينُهُ الدولارُ حصراً ببديلٍ لا يبالي
لمْ يكُنْ قيصرُ مِنْ هذي الخصالِ أينَ أنتِ
نحنُ لا نملُكُ غيرَ مجدِ الألهِ سلاحا
لمْ نُقاتِلْ برصاصٍ أو نبادلْهُمْ رماحا
كمْ رِقابٍ نُحِرَتْ جَهْراً فزادَتْها جراحا
دمُها السفيحُ يرويهِ سياحا أينَ أنتِ
ذنبُنا أنَّ المسيحَ في ثنايانا يَشُِعُّ
إبنُكِ نالَ صليباً نحنُ للصلبانِ نَبْعُ
خدُّنا الأيمَنُ كالأيسرِ صَفْعاً لهُ يدعو
كمْ مِنَ الأديانِ للغفرانِ شَرْعُ أينَ أنتِ
قبلَ ألفيْنِ مِنَ اليومِ تَعَمَّدْنا مسيحَ
جاءَنا توما الرسولُ دَلَّنا الدربَ الصحيحَ
ومعَ بغيَ الزمانَ أصبحَ الشعبُ شحيحَ
منْ يُداوي الوطنَ الأمَّ الجريحَ أينَ أنتِ
قد هجرنا البلدَ الغالي بأسمالِ المتاعِ
بعضُنا لاقى نجاحاً والكثيرُ في ضَياعِ
تركَ الأبنُ أباهُ وتوارى في البقاعِ
قسوةُ العيْشِ وقلبٌ في صراعِ أينَ أنتِ
يا تُرى هل نتركُ الأيمانَ أمْ نبقى عليْه
مَنْ سِوانا جابَهَ الليْثَ براحاتِ يديْهِ
وعويلُ الحقدِ للأجسادِ أنْ تُرمى إليْهِِ
مَجَّدَتْ والطُعْمُ يُلهي ساعِدَيْهِ أينَ أنتِ
مريمُ العذراءُ يا أسمى النساءِ الطاهراتِ
قد ظهرتِ في زمانٍ ودعوتِ للصلاةِ
سنُصَلّي اليومَ حيّاً أمْ يُساقُ للمماتِ
وصدى التسبيحِ يدوي للخطاةِ أينَ انتِ
نحنُ لا ننشُدُ أنْ نبصُرَ قِواماً بَهِيّا
صورةُ العذراءِ بالقلبِ وبالأفكارِ تحيا
كلُّ ما ندعوهُ رحماكِ لمَنْ صارَ شقِيّا
وغدى الجورُ على الدهرِ عتِيّا أينَ أنتِ