سرطان الفكر.. هل من علاج ( 2 ) ؟
د. صباح قيّا قبل عقد من الزمان ، وصلت مع عائلتي المملكة المتحدة . شاءت الصدف أن نشتري جهاز الحاسوب من محل صاحبه من أصول باكستانية ، والذي كمعظم القادمين من تلك الديار لا بد أن يسأل عن أصلنا وفصلنا ، متى وصلنا وما هو عملنا ، وأسئلة متعددة أخرى تشبع عنده رغبة الفضول من جهة ، وتوهمه بأنها احدى الأساليب الناجحة لكسب الزبائن من جهة أخرى . ورغم المصلوب على الصليب البارز على صدر زوجتي إلا أنه يخاطبنا وكأننا من دينه ما دمنا ننتمي إلى بلاد الرافدين العزيزة .... لم نكترث لأسئلته الشخصية ولا لأعتقاده فينا إطلاقاً حيث كما يقال " أخذناه على كد عقله " . ثم تغير منحى حديثه متهماً الأنكليز بأنهم يضطهدوهم ويخططون لتدميرهم ونحن معهم باعتبارنا من ملّته ، وعلينا أن نتكاتف ونتحد ونعمل بحذر لنفشل نواياهم ونحافظ على إيماننا ... سألته : هل كنت في باكستان تملك محلاً كهذا وهل حالتك المادية كما هي الآن ؟ ... هل كنت تملك منزلا كالذي تسكنه هنا ؟ ... عدد من اولادك أكمل الجامعة والبقية ستنهيها لاحقاً ، فهل أوصد أحد طريق مستقبلهم ؟ .... أنت تذهب للجامع وتمارس شعائرك الدينية بحرية تامة ، فهل من اعترض سبيلك ؟ ... أين يا أخي الأضطهاد والتدمير ؟ ... إنه فقط في عقلك المريض وعقل أمثالك .. تفتح لكم الدول أبوابها وتنقذكم من عذاب بلدانكم و تنقلكم من حياة البؤس والعبودية إلى أجواء النعيم والرفاهية ، ورغم ذلك تضمرون لها الحقد والكراهية ولكل من لا يسير على خطى الآيات القرانية .... بدل أن تعلموا أطفالكم المحبة والعيش بسلام مع بني الإنسان رغم تباين الإيمان ، تلقنونهم الضغينة وتزرعون في قلوبهم روح العداوة والنكران .. حتما سينشأ جيل وربما تعقبه أجيال مشبعة بمنهج الغدر والعدوان ، تسلب وتسبي .. تذبح وتقتل باسم ما جاء في كتاب القرآن
.. إنه فكر يصيب حامله كالسرطان .. لو ترك من دون علاج سينتشر إلى كل البلدان ويقضي على إبداعات العقل في كل مكان ولأيّ زمان .
من السذاجة الأعتقاد بأن الحركات الأسلامية المتطرفة تغسل دماغ اتباعها بغية القيام بمثل تلك الأعمال غير الإنسانية وتحت راية " الله أكبر . بل على العكس .. ينفذون ما يناط اليهم بقناعة تامة واندفاع يدل على عمق إيمانهم بما هم فاعلين... كيف للواعي أن يصدق بأن غسيل الدماغ يصيب مهناً متعددة من أطباء ومهندسين وعلماء وأدباء ... ذكوراً وإناثاً بأعمار متباينة .. أقواماً من بلدان شتى .. جنسيات وأعراقاً متباعدة ... . إنه في حقيقة الأمر فكر يستند إلى آيات يؤمن حاملوه بأنها منزلة من خالق الكون ، والجنة من نصيب من يطبق هذا الفكر قولاً وعملاً
. ومن العسير جداً القضاء على فكر يرتبط بالله . فالتاريخ يدلنا على افكار وفلسفات من صنع الأنسان غابت بعد انتعاش مرحلي وتوارت الى حد ما عن الوجود مثل الوجودية والفوضوية والمثالية وما شاكل وآخرها الماركسية ، ولكن لا يذكر لنا عن فلسفة تتعلق بالأيمان بالله واندثرت عدا بعض البدع الفرعية التي ظهرت وحاربها الأصل مثل الخوارج وأيضاً الذين ألهوا الأمام علي
.. ورغم حد السيف ألذي أجبر الكثير من المسيحيين سابقاً على اعتناق فلسفة دينية جديدة إلا أن المسيحية ظلت صامدة بعقيدتها وأهلها حتى هذا اليوم وستظل للآت من الزمان . ولا أزال عند قناعتي برفض " غسيل الدماغ " بين حتى القاتل باسم الله .. فإذا قبلت ذلك فيعني إذن قبولي " غسيل الدماغ " بين المسيحيين الأوائل الذين من شدة إيمانهم صاروا طعماً للاسود .. لا بد النظر لما يجري الآن بموضوعية وعدم الأنزلاق خلف العاطفة ومعالجة هذا الداء الفكري بعقلانية بغية إيجاد أفضل السبل للحد من انتشاره على أقل تقدير .
بصراحة وبدون مجاملة أو إساءة لأي كان .. يمكن القول بأن
" داعش" هي الأسلام الحقيقي .. فما يحدث الآن هو امتداد لما حصل في بداية الدعوة الأسلامية وخلال غزواتها . أنتشر الدين بحد السيف وعلى منهاج " أسلم تسلم " .... ولكن مضى ذلك الزمان
ولا بد اليوم من التفريق بين " مفهوم الأسلام " الذي كتبه التاريخ وتعيده " داعش " للأسف الشديد ، وبن المسلمين الذين تشعبوا إلى فرق ومذاهب واتجاهات متقاربة في بعضها ومتباعدة في بعضها الآخر . منها لا يزال يتقبل " إسلام أيام زمان " ، وأخرى ترفضه بل بعضها اجتهد لتعزيز رفضه . وبصراحة أكثر .. استطاع الشيعة من خلال منهج " الأجتهاد " أن يقتربوا كثيراً من الواقع بتغييرهم مفاهيم كثيرة ، وأن يبتعدوا نوعاً ما عن " مفهوم الأسلام " كما كان .. كما أن " المرجعية " وقاعدة " تقليد الأعلم " أوجدت في الوسط الشيعي نوعا من النظام والأنضباط وحالت دون ظهور البدع والأفكار الشاذة ... وكما هو معلوم أن لفتوى " المرجعية " تأثير كبير للالتزام والتقيد بمضمونها . ومن النادر أن تظهر " فتوى " ذات تأثير سلبي على المجتمع بكامله أو على بعض أطيافه . وقد يكون لذلك علاقة بما قيل " مات عليٌ مسيحياً " . ولا أبالغ في الرأي بأن
الشيعي يقترب من جوهر المسيحية عند تعمقه في مذهبه . وقد عرف الخليفة عمر بن الخطاب رغم كونه مقرباً من السنة بالعادل لأنه اجتهد كثيراً مع النصوص وخاصة المحمدية منها فلذلك تميزت خلافته بالكثير من المآثر والخصال الأنسانية .
يفتقر السنة منهج " الأجتهاد " .. ويصرون على ان " لا اجتهاد مع النص " ... يمجدون الفترة المحمدية وغزواتها التدميرية ، ويعظمون عهد الخلفاء وعدالة حكم الخلافة حسب اعتقادهم ، أمنيتهم العودة لذلك الزمان . فلا غرابة أن يظهر منهم وبينهم " داعش " و " القاعدة " و " النصرة " وما شاكل .. كلها تمارس أبشع أنواع ألقهر والتسلط في سبيل الله ... تلتزم بالنص الوارد في آيات القتل والدمار دون الأخذ بنظر الأعتبار تطور الكون واختلاف الظرف والمكان . تبشر بهذا الفكر وتدعو له .. تبقى النتيجة واحدة .. وهي امتداده لمسافات شاسعة وبين جماعات تزداد عدداً وبسرعة غير معهودة
... كانت القاعدة فقط .. واليوم " داعش " ومن يدور في فلكيهما .. وفي الغد تتفرع كالأخطبوط وتزحف إلى كل مكان إن ترك الفكر كما هو الآن ... متى يستفيق العالم المتحضر ويضيق قليلاً على حرية الأنسان ؟ .. ليبحث عن الخلايا النائمة التي تعمل بصمت وفي الخفاء .. والتي تبشر للتعصب والتطرف ، ثم العنف والأرهاب ... متى تحدد من لهجة خطباء الجوامع والمساجد وتفرض عليهم الألتزام بألأحكام السلمية لكتاب القران والأبتعاد عن كل ما يغرس بذور العنف والدمار ، وليعلموا الأجيال كيف تتأقلم وتتكيف وتتعايش بألفة ومودة في كل مكان وزمان ؟ ....
فالمهجر تربة خصبة لنمو مثل هذا الفكر وتصديره ، والظاهر أن ذلك يسر قيادته المذهبية التي التزمت وتلتزم الصمت ، ولم يصدر منها ولا اعلم متى يصدر منها موقف جديً وعكسي ً تجاه ما يجري عل الساحة ... وللأسف الشديد أن
السني يغدو ارهابياً عند تعمقه في مذهبه .. فمن سيعالج ذلك ؟ ....