يقول السيد لوسيان :
..فكل شخص مشارك هنا يمتلك حقائق وافكار مختلفة وكل شخص يحاول ان يجعل الاخرين يعترفون برايه وافكاره وفي نفس الوقت هو لا يعترف بحقائق الاخرين لانه لا يعترف سوى بما يؤمن هو به , لانه ببساطة اقصائي لا يعترف بحقائق الاخرين...
في الحقيقة انا لا اشارك السيد لوسيان بهذه الفرضية فليس كل الناس يدعون بامتلاك الحقيقة ، فمن غسلت ادمغتهم بيقينيات هم من يعتقدون هذا الأعتقاد الذي ذهب اليه السيد لوسيان ، فثمة فلاسفة ومفكرين لا يدعون هذا الأدعاء . لنأخذ مثلاً الفيلسوف البريطاني برتراند رسل حينما سئل إن كان مستعداً للموت في سبيل ما يعتقده ، فأجاب بالطبع كلا ، إذ بعد هذا كله ، ربما كنت على خطأ .
فلا يوجد في الكون حقائق مطلقة ، ولهذا ينبغي ان نمتاز قليلاً بالتواضع ، خصوصاً بالنسبة للذين يعتقدون انهم يملكون اليقينيات ولا يقبلون اي مناقشة وهم معروفون في المنبر الحر هذا لا داعي لذكر اسماءهم .
تحياتي
حبيب
الدكتور حبيب
برتراند رسل تعرض لعقوبة السجن لانه لم يرد التخلي عن افكاره, وفي هذا السجن وفي تلك الفترة كان من الممكن ان يتم قتله ايضا. وبسبب كتاب له تم ابعاده عن عمله وهو بالرغم من ذلك لم يتنازل. ولكن مع هذا بتراند رسل غير اراءه لعدة مرات وانتقل خلال حياته من فلسفة الى فلسفة اخرى ولهذا ايضا قال بانه قد يكون مخطئا في الاقتباس اللذي انت وضعته. ولكن عندما يغير الانسان اراءه لانه وجد شئ يعتبره اصح من ما كان يؤمن به في السابق فهذا لا يعني بانه لا يؤمن باي شئ, فهو عندما يغير رايه ويؤمن بشئ جديد فانه يعتبر هذه الفكرة الجديدة حقيقة.
انت تتحدث عن الحقيقة المطلقة فهل فكرت ما هي الحقيقة المطلقة؟
تعريف عام للحقيقة المطلقة: الحقيقة تصبح مطلقة اذا اصبحت موضوعية , موضوعية بمعنى ليست حقيقة ذاتية, وعندما لا تكون حقيقة تؤمن بها فقط ذات واحد فانها ستصبح موضوعية بشرط واحد وهو ان يؤمن بها كل وجميع البشر على الكرة الارضية وبان لا يشك فيها احد, لان وجود الشك يجعلها نسبية وهكذا تصبح غير موضوعية وبالتالي غير مطلقة.
ولكن ماذا يعني هذا التعريف لنا؟
هذا التعريف له علاقة بنا بنقطتين:
نحن نقسم الحياة عند استعمال اللغة الى ثنائيات فنقول الحق والباطل والخير والشر اسود وابيض الحقيقة والكذب الخ. ونحن في نفس الوقت عندما ناخذ قراراتنا في كل مجالات الحياة فاننا ننطلق من الاعتماد على مقايس وعلى ما يؤمن به كل شخص منا وحيث لكل منا مقايسه ولهذا افكارنا مختلفة وقراراتنا مختلفة. وعندما يقرر اي شخص بناء على ما يؤمن به وانطلاقا منه فانه يعتبر ما يؤمن به بانه حقيقة , لان ليس هناك شخص حتى لو كان مجنون يقرر شيئا وفي نفس الوقت يعتبر ما يؤمن به بانه كذب وليس حقيقة. وكل شخص يعتبر حقيقته بانها صحيحة ويعتبرها مطلقة , ولكن هل هي فعلا مطلقة؟ كلا لان هناك من يشك بها او لا يعترف بها, هكذا اشخاص يتمرضون ويشعرون هنا بحاجة بان يبحثوا بان يعترف الاخرين بما يؤمنون به.
ومن هنا ظهرت هذه الخلافات الايمانية في المنبر الحر, حيث كل شخص يحاول اقصاء والغاء الافكار الاخرى ليتم الاعتراف فقط بما يؤمن به هو وهذا لتصبح حقيقته موضوعية مطلقة غير نسبية.
السؤال التالي هو كيف سيفعل ذلك؟
هناك من سيقول بانه يمتلك ادلة على حقيقته, ولكن كل شخص حتى لو كان مجنون يمتلك ايضا قناعات معينة وتبريرات التي يعتبرها ايضا ادلة.
ولكن الادلة غير موجودة في اي مكان ولا احد يمتلك ادلة وخاصة في قضية الدراسات التاريخية ليس هناك ادلة. اذا كان هناك امكانية لتقديم الادلة فهذا ينبغي ان يكون ممكنا في الرياضيات والفيزياء لانها من اوجدت القوانين وطرق البرهنة . ولكن العلم لا يمتلك ادلة على اي شئ. القواعد الرئيسية التي يعتمد عليها العلم لم يقدم العلم عنها اية ادلة. ولاذكر احدها فالسببية تعتبر روح العلم ولكن لم يقدم العلم عنها اية ادلة. العلم يقول بان لكل فعل تاثير, ونحن بالطبع لا نعرف اي شئ عن الفعل وانما نرى فقط التاثير, التاثير سيكون مثلا سقوط تفاحة, اما لماذا سقطت فهذا لا بد من وجود فعل له. طيب انا استطيع ان اغير المقولة واقول "لو لم يكن هناك فعل فلن يكون هناك تاثير", بمعنى "اذا لم يكن هناك جاذبية فلن يكون هناك سقوط للتفاحة على الارض", طيب كيف سيبرهن العلم ذلك؟ سيكون على العلم اثبات ذلك بان يظهر لنا بان بدون الفعل فان هذا فعلا لن يحدث, ولكن نحن اذا فصلنا بين الفعل والتاثير فماذا سترى؟ وسيكون السؤال هل هذا اصلا ممكن؟ بمعنى هل يمكن لنا فصل الجاذبية لنرى بان التفاحة لن تسقط لو لا وجودها؟ بالطبع لا , الجاذبية لا يمكن حجبها. وهذا يعني بانها نظرية اذن خاطئة لان تقديم الادلة غير ممكن وما لا يوجد ادلة عنه من المفترض عدم القبول به وهكذا اكون قد دحضت السببية كاملة. اذن لماذا تم القبول بنظرية وجود الجاذبية وبالسببية التي لا يراها احد ولا توجد اية ادلة عليها؟ الجواب لان هناك فقط ايمان بها. العلم كله قائم على الايمان وليس هناك ادلة على اي شئ, وهناك الكثيرين يشكون بكل الحقائق العلمية لانها ليست موضوعية وليست مطلقة. حتى قضية ان الارض ليست مسطحة ليس هناك ادلة قاطعة بين العلماء لاثبات بان الارض ليست مسطحة , والحواس وما تقوله لا يتم اعتبارها ادلة في العلم. وربما سيقول لي شخص فيما اذا كنت اشك بان لون التفاحة هو احمر؟ نعم انا اشك جدا, فالتفاحة ترسل موجات التي تسقط على العين ويحللها الدماغ ليقول لنا بان لونها احمر, بمعنى ان لونها احمر داخل دماغنا, فما هو لون التفاحة خارج الدماغ؟ ما هي حقيقة الاشياء بنفسها بحد ذاتها؟ بالطبع لا احد يعرف حقيقة اي شئ.
ولكن هل يمكن تسير العلم بدون تسمية الحقائق العلمية بالموضوعية والمطلقة؟ هل سيقولون لطلاب المدارس بان ما يدرسونه قد يكون كله كذب؟ لهذا قضية الحديث عن المطلق والموضوعي ليس ابدا بهذه السهولة. المؤوسسة العلمية لن تتنازل يوما عن ادعاء الموضوعية ولن تتنازل عن اعتبار حقائقها بانها مطلقة وهذه المؤوسسة ابعدت واقصت عدة نظريات بدون ان تمتلك اية ادلة عن عدم صحتها, والعلماء اللذين تم ابعاد واقصاء نظرياتهم متشبثين بها ويحاولون اقناع الاخرين بها وايضا بدون ان يمتلكوا ادلة عليها, وهذا كله ما نسميه بالصراع والجدل بين العلماء.
النتيجة النهائية: ليس هناك حقائق مطلقة ولكن بدون الايمان بوجود الحقائق المطلقة لن نتمكن من تسير العلم ولن يتمكن احد بان يفكر او يقرر. ولكن قرارات وافكار كل شخص مع هذا ليست ثابتة وانما تتغير وفي كل مرة سيعتبرها حقائق مطلقة ولهذا في كل مرة سيسعى بان يعترف الاخرين بها
هذا الموضوع معقد جدا ولهذا سميته بالدعوة للتفكير فقط.
فاذا كان تقديم الادلة غير ممكن في العلم وخاصة في الرياضيات والفيزياء فان تقديم الادلة في المجالات الاخرى لا تحتاج الى اية مناقشة فهي مستحيلة.
كل اللذي قلته سيعتبره العديدن شئ صحيح, ولكن هل انا اطلب منهم ان يتخلوا عن ما يؤمنوا به وبان لا يعتبرونه حقيقة؟ كلا لان هذا غير ممكن كما وضحت اعلاه, فطبيعة الانسان والطبيعة والحياة لا يمكن لي ان اغيرها؟ وانا ايضا لست ماركسي ولا منظر لارسم حياة الاخرين بدلا عنهم.
ولكن ما اقوله هو كيف يمكن حل المشكلة اعلاه؟ كيف يمكن حل المشكلة حيث كل شخص لابد ان يؤمن بحقائق وهو يريد ان يعترف بها الاخرين وفي نفس الوقت لا يعترف بحقائق الاخرين؟ وفوق هذا كله لا احد يمتلك ادلة لا يمكن الشك فيها... هذا السؤال من اهم الاسئلة لانه يحدد كيف يكون اسلوب التعامل بين الافراد وكيف يكون شكل التعايش... وهنا اعيد واقول بان شكل اي تعامل وتعايش يعتمد اذن على قرار كل فرد , فكل شئ عبارة عن مجموع القرارات الفردية.
هناك من سيفكر ليقول انا سافعل ما اريد وطز في الاخرين وما يؤمنون به. ولكن هكذا شخص ما يفعله سيكون عبارة عن مشاركة في تشكيل نوعية ثقافة سيئة وهذه الثقافة نفسها ستقوم بايذائه, فليس هناك شخص عبارة عن مركز ومحور الكون لتدور الكواكب حوله وانما يعيش مع الاخرين.