طفلة من جبل سنجار
قصة قصيرة في زمن النزوح
غسان سالم شعبو
ـ قره قوش
لم أعهد أبي من قبل كما عهدته اليوم، فصبره الجميل ولطفه الكبير وحدقات عينيه الجريئة وعزيمته التي لم يقهرها هذا الجبل، الذي كان يوما ما سبب هناءنا وسعادتنا، قد غدا اليوم رمز تعاستنا وموتنا. حينما باغتنا العدو على حين غرة وتسلل على بلدتنا وهتك أعراضنا وعمل فينا ما لم يعمله المتوحشون وما لم نسمع منه عن البهائم. فأبي إستطاع في هذه اللحظة أن يندفع بي نحو الخلاص. وجعلني أفتخر به أكثر عندما همس بوجه والدتي أن نسرع صوب قمة الجبل. فتأبط أمتعتنا ووضع يده حول خصري وحملني، ثم تبعته والدتي وعملت بالمثل وفي خفة الريح إندفعنا خارج بلدتنا، ومضينا نجتاز المرتفعات غير آبهين بوعورة المكان وقساوة الصخور واشتداد حرارة القيض التي طالما كانت عائقاً لنا في تحديد جرينا ووجهتنا. وكان أبي بين الحين والآخر يلتفت نحو ركن بيتنا وفي ذات الوقت كان يعرف تحديد وجهتنا نحو القمة.
ـ أنظر يا أبي إنهم يرشقوننا برشاشاتهم ..
صرخت وأنا أحاول التسلق بين ذراعيه فشدني بقوة وقال:
ـ لا تخافي يا إبنتي الصغيرة لن يلحقوا بنا فأنا أعرف وجهتي.
كنت أخال نفسي عرضة لرشاشاتهم الغادرة التي لمحتها تطيح بعدد كبير من أبناء بلدتي سنجار المنكوبة. ورأيتهم يندسون بين البيوت ووسط الشوارع والأزقة، ويقتلون الرجال ويقتادون الصبايا سبايا بوحشية مقرفة ووجوههم المسخة تنم عن حقدهم المستتر بشعاراتهم الرعناء. وكنت أشعر بدنو الخطر منّا، لكني وضعت كل ثقتي بأبي الذي طالما تحلى بقدر من الصبر والشجاعة والمسؤولية في الكثير من المواقف. رأيته يضع يده على خدي ويتحسس وجهي ليعطيني قدراً من الشجاعة ويداه تحتضنني بقوة. وكنت أشعر بلحيته الكثة البيضاء، أما عينيه فقد كانتا تقدحان شرراً وإصراراً للنجاة. فأغمضت عينيّ وأرتميت برأسي مستسلمة بين ذراعيه، وأنا واثقة بحكمة أبي. كأنه يقودني إلى مزرعتنا لنجني منها ثمار الصيف ككل يوم.
ـ يا لها من معجزة لقد وطئنا قمة الجبل بسرعة لا تضاهيها سرعة الغزلان ..
قلت ذلك لأبي وأمي مازالت تتخطى آخر المرتفع وتتشبث بشجرة التوت البري. والقمة الصخرية مكتظة بالجموع النازحة. وكم هالني منظر الكثيرين ممن نجو مثلنا وهم يتهافتون لعلق أوراق شجر التوت البري ليرووا جوعهم وظمأؤهم بذات الوقت. وهم يحدقون في الفراغ البعيد الذي بالكاد يُسمع منه أنّات من وقعوا فريسة بأيدي العتاة القذرين. فرفعتُ يدي مزهوة بنجاتي، ورأيت والدي مسترخياً غير آبه بمن حوله، لكن يداه لم تترك يداي النحيلتين فنظرت إليه ملياً وجذبتُ أصابعه نحوي بقوة فلاح لي إصفرار وجهه النحيل ووعيت على أنه يحتضر، فبالكاد كان يجر أنفاسه. فتبعثر الكلام بين شفتيّ وتمنيت أن أكون غائصة في أحلامي لأبعد عنه شبح الموت. وجذبت يداه صوب قلبي لأعطيه دفقاً من نبضاتي الصغيرة عربون وفاء. وألقيت نظرة إلى والدتي التي تسمرت في مكانها فاغرة فاها أمام بسمته الأخيرة، كمن يريد أن يودعنا بعد مشقة الطريق والهلع الذي كابدنا، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة فإلتفت الجميع نحوي ورمقوني بنظرة حزن صامتين.
كانت عيناي تترقرق بالدمع وأنا أسترسل بلحيته الشائكة البيضاء فغرست أصابعي وسط لحيته وأسندت راسي بجانبه وأنا أتمتم كلمات الشكر والثناء لشجاعته وإنقاذي.