المحرر موضوع: الثقافة والمواطنة والهّوية في العالم العربي *  (زيارة 758 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1284
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الثقافة والمواطنة والهّوية في العالم العربي *
مقتطفات من حوار مطوّل
مع المفكر د.عبد الحسين شعبان**

أ‌.   يوسف عبدالله محمود***

س1. كيف تقرأون "ثقافة المواطنة" في مجتمعاتنا العربية؟

ظلّت قضية المواطنة والبحث عن المشترك الإنساني هاجساً للكثير من الحركات والتيارات الاجتماعية، وقد أعادت حركات الاحتجاج الشبابية والشعبية هذه المسألة إلى الواجهة، خصوصاً في ظروف شحّ الحريات والبطالة وزيادة الشعور بضرورة تحقيق المساواة والكرامة الإنسانية.
وإذا كانت المواطنة تقوم على مبادئ وقيم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، فإن هذه المفاهيم المفترضة كانت غائبة أو مغيّبة أو محدودة التأثير في البلدان العربية، حيث تزداد الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة. وإذا كان هناك أسباباً موضوعية بحكم الهيمنة الاستعمارية الطويلة الأمد، فإن هناك أسباباً داخلية وذاتية أيضاً، لاسيّما وأن قسماً كبيراً منها يعيش في مرحلة ما قبل الدولة ويعاني من صراعات عرقية ودينية ولغوية وطائفية وعشائرية وغيرها.
وإذا كان ثمة اختلافات في تجارب وتوجّهات البلدان العربية، إلاّ أنها تجتمع في عدد من السمات والمشتركات العامة التي تعاني منها.
السمة الأولى انعدام تكافؤ الفرص سواءً على المستوى الداخلي أو على المستوى الدولي، فليس هناك تكافؤ فرص بين الأفراد، مثلما ليس هناك تكافؤ فرص بين الدول، في ظل علاقات دولية تمتاز بالهيمنة والتسيّد، فالقوى العظمى لها القدح المعلاّ سواء في العلاقات الدولية، أو على مستوى القرار في الأمم المتحدة بحكم وجود خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتمتلك حق الفيتو فيه وهي التي تقرر اتجاهاته السياسية الدولية.
إن هذا الوضع من شأنه أن يُحدث اختلالاً حاداً بين القوي والضعيف وبين الكبير والصغير، وبين من يملك وبين من لا يملك وهكذا، ونجم عن انعدام تكافؤ الفرص تفاوت في الدخل والوظيفة والمستوى الاجتماعي على مستوى الحاضر والمستقبل، ناهيكم عن النظام التعليمي والصحي، وبكل ما له علاقة بالجوع والفقر والأمية، التي يمكن أن تشكّل بؤراً للنزاع والعنف والإرهاب في المجتمع.
ولهذا فإن تأمين الاحتياجات الإنسانية المادية والروحية، للأفراد أو للشعوب، يمكنهم من توفير العيش الآمن بحيث تتاح الفرص بعدالة للجميع لتحقيق تطلعاته، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على السلام والازدهار، لاسيّما إذا توافرت فرص المساواة والعدل.
أما السمة الثانية التي تجمع الشعوب العربية فهي ضعف المواطنة وصراع الهوّيات وغياب الحكم الرشيد، وهذا يعني ضعف فرص الحرية باعتبارها قيمة عليا وضعف فرص المساواة، حيث لا تستقيم المواطنة دونها، وكما أن ضعف العدالة بما فيها الاجتماعية سيلحق ضرراً بليغاً بمسألة المواطنة، خصوصاً ما يتعلق بسدّ الاحتياجات الأساسية للناس، فلا يمكن الحديث عن المواطنة مع استمرار ظاهرة الفقر وسوء توزيع الثروة وتمتّع فئة قليلة بامتيازات كاملة وحرمان مجموع الشعب منها، أما المشاركة فهي تستند إلى الحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأسباب تتعلق باللون أو الدين أو اللغة أو الجنس أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
ويتطلّب ذلك سيادة القانون والمساواة أمامه، باعتباره الفيصل والحكم يخضع له  الحكام والمحكومين، ولن يتم ذلك دون مؤسسات وآليات للشفافية والمراقبة والمساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالتشريعات القائمة والقوانين النافذة، استناداً إلى المعايير الدولية على هذا الصعيد.
السمة الثالثة، غياب الخطط للتنمية الشاملة والمستدامة بمعناها الإنساني، الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحقوقي والقانوني، وبالطبع بالمعنى السياسي أيضاً. وهذا يتطلب استثمار الموارد باعتماد اقتصاد يعزّز الإنتاجية ويقوم على تنوّع السوق ويوفّر فرص عمل للجميع، مع مراعاة لخصوصية البلدان التي دمّرت اقتصادياتها الحروب والنزاعات الأهلية.
السمة الرابعة، ضعف مستوى التعليم وشحّ المعارف، ولا يمكن الحديث عن التنمية ذات الطابع الإنساني بوجود نسبة عالية من الأمية في العالم العربي حيث تزيد على 70 مليون أمي، ناهيكم عن انخفاض مستوى التعليم، وإذا كان هذا الرقم المخيف يتعلق بالأمية الأبجدية، فإن نسبة الأمية سترتفع كثيراً إذا ما احتسبنا عدم إمكانية التواصل مع العلوم والتكنولوجيا الحديثة.
إن هذه النسبة لا تشمل كبار السن فقط، بل نسبة الأمية الأبجدية لمن هم في سنيّ التعليم تبلغ أكثر من 13%، ويضاف إلى ذلك الفجوة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لاسيّما في الاستخدامات المحدودة للحاسوب، وفجوة المهارات، فالشباب هم الفئة الأكثر تأثّراً بتحدّيات سوق العمل الجديدة المرتبطة بالاتجاهات الاقتصادية المتغيّرة حيث تصل نسبة بطالة الشباب في الشرق الأوسط نحو 25%.
السمة الخامسة، هجرة العقول والأدمغة، وهي سمة عامة للبلدان العربية فالموهوبون والعلماء لا يمكنهم تحقيق ما يصبون إليه في بلدانهم، لأسباب تتعلق بشحّ فرص الحريات، ولاسيّما حرّية التعبير وحرّية البحث العلمي، وعدم توافر أجهزة ومعدّات كافية، ناهيكم عن استشراء ظاهرة البيروقراطية، وانتشار ظاهرة الفساد والرشا، وكذلك انعدام معايير التقييم والكفاءة، وخصوصاً في تزايد الحاجة إلى الولاء، وتدنّي مستوى الأجور وغيرها من الأسباب التي تشكّل بيئة طاردة للكفاءات العلمية، في حين أن بيئة الدول المتقدمة هي بيئة جاذبة للكفاءات، بما توفّره من حريات وظروف عمل مناسبة وأجهزة وأدوات ومردود مالي وأجواء نفسية واجتماعية مساعدة وتقييم إيجابي.
السمة السادسة، عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي أو ضعفه، سواءً الديني أو القومي أو اللغوي أو غيره، بل يمكن القول أن الضعف يشمل " قبول الآخر"، ولعلّ الشائع الغالب حالياً والذي برز على نحو حاد هو صراع الهوّيات في البلدان النامية، لاسيّما بين الهوّية العامة والهوّيات الفرعية، الأمر الذي يحتاج إلى إدارة سليمة للاعتراف بالمكوّنات والأطياف المتنوّعة والتعامل معها على أساس قواعد المساواة الكاملة في المواطنة، والاحتفاء بالتنوّع الثقافي واحترام الخصوصيات، وضمان حق التعبير بما يقي هذه المجتمعات من الانزلاق إلى التناحر حيث عانت طويلاً من الاستعمار والتدخل الخارجي والصراعات والنزاعات الأهلية وهضم الحقوق والحريات ، ويوفر عليها فرصة اللحاق بالأمم المتقدمة، ولاسيّما بإتباع تنمية بشرية مستدامة وتأمين كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، بعيداً عن محاولات الإلغاء والتهميش.
السمة السابعة، أن المجتمعات العربية تعاني من استمرار ظاهرة العنف والإرهاب، واللجوء إلى السلاح لحلّ الخلافات السياسية، الأمر الذي يضع جدلية القوة والضعف في إطار تناحري، إقصائي، في حين أن البحث عن السلام وتعزيز المناعة الاجتماعية بالموارد والمشترك الإنساني هي التي ينبغي أن تكون الأساس. ولعل متابعة لما يجري اليوم في العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن، من أعمال عنف وإرهاب، ولاسيّما بوجود داعش وجبهة النصرة، خير دليل على ذلك، الأمر الذي استوجب إقامة تحالف دولي لمجابهته، وخصوصاً بعد صدور القرار 2170 في 15 آب (أغسطس) 2014 ضمن الفصل السابع.
السمة الثامنة تغييب دور المرأة وعدم تمكينها بما يتناسب مع دورها كإنسان على قدم المساواة في الحقوق والكرامة وفي تولّي الوظائف العليا دون تمييز. ولعلّ وجود نصف المجتمع خارج دائرة التأثير والعمل والتنمية، هو انتقاص لمبدأ المواطنة الكاملة والتامة.
السمة التاسعة مشكلة اللاجئين والنازحين، وهؤلاء تتعاظم مشكلاتهم سواءً داخل البلدان العربية أو دول الجوار أو لدى البلدان الأوروبية والغربية، حيث تزداد ظاهرة الهجرة واللجوء، وهذه تسبّب أيضاً مشكلات خاصة بها، مثل الاندماج والبحث عن الهوّية وغيرها، وتؤدي أحياناً صراعات جديدة داخل المجتمعات المستقبِلة (بالكسر).
وينبغي البحث عن إيجاد حلول جذرية تضمن حقوق اللاجئين والنازحين، لاسيّما بحل المشكلات الحقيقية المتعلقة بقضايا الفقر والتهميش والعنف، ناهيكم عن بعض الكوارث الطبيعية، وبالأساس في مساعدة المجتمعات النامية والفقيرة من جانب الدول المتقدمة والغنية، فذلك واجب عليها أيضاً في بناء حياة دولية سليمة ومستقرة وتليق بالإنسان وكرامته ووفقاً للاتفاقيات الدولية لحقوق اللاجئين!
السمة العاشرة عدم احترام البيئة والتعامل معها بطريقة فيها الكثير من الاستخفاف واللامبالاة، بل وعدم الشعور بالمسؤولية، الأمر الذي يتطلب سنّ قوانين للمحافظة عليها وحمايتها وإدارتها على نحو مستديم، والالتزام بالمعاهدات والقوانين الدولية على هذا الصعيد وكذلك العمل على تفعيلها.
السمة الحادية عشر اتّساع ظاهرة الفساد في العالم الثالث بسبب غياب المساءلة، وضعف رقابة المجتمع المدني ومنظمات مكافحة الفساد، وأحياناً تتماهى الدولة والسلطة، وتتغوّل الأخيرة، على الدولة، بل تندغم السلطة بالمال والإعلام والتجارة والاستيراد والتصدير والثقافة والسياحة والرياضة على نحو شاذ، وهو ما جعل كاتب وروائي عراقي اسمه شمران الياسري " أبو كَاطع" يعلّق على ذلك في السبعينيات وبين الجد والهزل أهي دكتاتوريات حسب، أم طغم فاشية، ريفية أو بدوية؟!
وإذا ما دخل عنصر الدين أو المذهب وتم استغلالهما سلبياً، فالأمر ولا شك يضعنا أمام طغم فاشية دينية أيضاً. لعلّه دون تعاون شامل وتكامل وحلول محلية داخلية ودولية تتجاوز الحدود الإثنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مواجهة هذه المشاكل. وهو ما كان ميثاق جديد قد تبنّاه منتدى غرب أسيا- شمال أفريقيا مؤخراً بوصفة وثيقة للتعاون ترتكز على الكرامة الإنسانية وصولاً لتأمين العيش المشترك للأجيال الحالية والقادمة.
ويمكننا القول إن فكرة المواطنة لم تترسّخ بعد في الدولة العربية الحديثة، سواءً على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة) إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كأعظم منجز بشري، لاسيّما   في إطار المنتظم الاجتماعي لحماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة ارتبطت بالدولة الحديثة أو أخذت أبعادها الفكرية والحقوقية منها، ناهيكم عن أساسها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن.
اعتمدت فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر بالدرجة الأساس على بناء الدولة، لاسيّما بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد والحرية والسوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من  الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطور مفهوم الديمقراطية الناشئ وقبول مبدأ الاقتراع العام.
    أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد التطور الذي حصل بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، خصوصاً بتطور الحقوق المدنية والسياسية ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر لاسيّما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية.
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمةٍ في طريق تأمين الحقوق والحرّيات المدنية والسياسية وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحرّيات بالعدالة، وهو الأمر الذي نطلق عليه " المواطنة العضوية "، أي المواطنة التي تقوم على:
أولاً: قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً ، قاعدة الحرّية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها،  فهي المدخل والبوابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملك والتنقل وعدم التعرض إلى التعذيب ... الخ .
أما القاعدة الثالثة فهي تستند إلى فكرة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن تتحقق من خلال التنمية، وهو ما أطلق عليه التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستندة إلى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات لاسيّما التعليمية وتأمين حقوق المرأة و"الأقليات" وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وتقوم القاعدة الرابعة على الحق في المشاركة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي، إذ  لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة والحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأي اعتبار كان.
مثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب " دولتية " أو  ما يشابهها في العهد الراشدي الأول وما بعده أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسعت وتطورت في ظل الدولة العباسية وفيما بعد الدولة العثمانية، خصوصاً في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لاسيّما   فكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية -الإسلامية، لاسيّما   فيما يتعلق بتحديد مسألة  الهوّية  ناهيكم عن الحقوق الإنسانية، فإن هذا الحق، تساوقاً مع التطور الفقهي على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، رغم النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً للتطور الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط  القرن العشرين خصوصاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 1966 والعديد من الوثائق الدولية ، التي أكدت : أن لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول .
ويستخدم في القانون الدولي، مصطلح المواطنة الذي يوازيه مصطلح الجنسية بالتبادل فيما بينهما، حين يتم الحديث عن منح الأشخاص الحق في حماية دولةٍ ما إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنية، تلك التي تشكل ركناً أساسياً في هوية الفرد – الإنسان، ويمكن تعريف المواطنة الحيوية أو العضوية بأنها " الحق في الحصول والتمتع بالحقوق  بصورةٍ عادلة ".
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي ، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي أكدتها المادة 15من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، إلاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة ، بغض النظر عن أن حالات انعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة عن الافراد والجماعات الذين يمكنهم إثبات وجود علاقة حقيقية وفعالة بينهم وبين بلدهم، سواءً عن طريق رابطة الدم "البنوّة " للآباء رغم ان العديد من البلدان العربية ما زالت تحجب هذا الحق عن الانتساب إلى جنسية الأم، في حين إن القانون الدولي لحقوق الإنسان يعطي مثل هذا الحق، أو " طريق الأرض "، أي الولادة في الإقليم أو الحصول على جنسيته ومواطنته أو اكتساب الجنسية نظراً للإقامة الطويلة والمستمرة والتقدم بطلب إلى السلطات المسؤولة عن ذلك.
وإذا كان انشغال النخب العربية بفكرة "الأمة الإسلامية" أو "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر وربما في بدايات القرن العشرين، فإن الانبعاث القومي العربي بدأ يتعزز لاحقاً، حيث بدأت النخبة الثقافية والتنويرية الإسلامية والعلمانية، الاهتمام بالفكرة الحديثة عن الدولة التي تعتبر المواطنة أحد مظاهرها الأساسية، فالشعب والحكومة والأرض والسيادة أركان الدولة وعناصر وجودها، التي تستقيم وتتعزز في ظل احترام الحقوق والحريات وتكريس مبدأ المساواة الكاملة والمواطنة التامة في إطار سيادة القانون.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة والأقلية، وهذه النظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فالأقلية قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو " مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الأمور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لاسيّما  : الحقوق والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من التوجّه نحو المجتمع المدني ابتداءً بالانتقاص من مفهوم المواطنة إلى الضغوط الاجتماعية المسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة على بعض النخب "الأقلوية" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو " تسلطية"، لاسيّما بغياب مبادئ المساواة  وتهميش "الأقلية" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والإستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة!
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضد من تطور فكرة المساواة والحرية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة !!


2-   كثيراً ما يُساء فهم "الحداثة" ما قراءتكم لها؟ وما أهمية "البعد الاجتماعي" كمكّون لها؟

تندرج تحت  مفهوم الحداثة ثلاث مسائل أساسية وهذه من مكوّنات الدولة العصرية التي تتجلّى في :
المسألة الأولى- العقلانية
المسألة الثانية- الليبرالية
المسألة الثالثة- العلمانية
ولا شك في أن لتلك المسائل أبعاداً اجتماعية، حتى وإن كانت متداخلة أحياناً، ارتباطاً بقضايا التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، علماً بأن لكل بلد خصوصياته، مع وجود مشتركات ذات أبعاد إنسانية في المجالات المختلفة، التي تبدأ من الشكل لتصل إلى المضمون في الأدب والفن والعمران والجمال والعادات والتقاليد وغير ذلك. وإذا كانت الحداثة تعبيراً عمّا شهده القرن العشرين من تطور، ولاسيّما في مطلعه وخلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، فإن هذا المفهوم اختلط بعد ذلك بالعولمة واتخذ بُعداً تخطّى به مفهوم الحداثة التقليدي، ليدعى ما بعد الحداثة- ولنتوقف لنحدد ماذا نعني بالحداثة وما بعد الحداثة ؟
ما زال مصطلح " ما بعد الحداثة" حتى الآن يثير الكثير من الغموض والإبهام وربما الالتباس فيما نعني به، فهل هو آيديولوجي أو نظرية اجتماعية أو اتجاه أدبي نقدي؟ أم هو مشروع تحرر فكري وعملي نشأ من رحم مشروع الحداثة على حد تعبير هابر ماس ، والذي يمكن إعادة أصوله إلى فلسفة نيتشه التشاؤمية.
ومثلما انشغل مفهوم الحداثة بالحركة الجمالية التي تجلّت في القرن العشرين أو قبله بقليل وظلّ فضفاضاً ولزجاً، فإن ما بعد الحداثة هو الآخر يحمل ذات الاتساع والشمول، وقد تجلّت أفكار الحداثة بشكل خاص في الفنون البصرية والموسيقى والأدب والدراما، التي تجاوزت المعايير الفكتورية للفن من حيث استهلاكه وقصديته، الاّ أن الحركة امتدت لتشمل حقولاً واسعة، من الشعر إلى الرواية، وهكذا طبعت أعمال وولف وجويس وإليوت وبروست وريكله وغيرهم حداثة القرن العشرين. ويمكن إدراج الفنون والآداب والسينما والموسيقى وعلم الاجتماع وعلم الاتصال والتكنولوجيا والهندسة المعمارية والأزياء وغيرها في إطار ما بعد الحداثة، رغم أن البعض ينظر إليه باعتباره مفهوماً عائماً وغير محدد.
هناك من يعتبر تيار ما بعد الحداثة هو بداية لعهد جديد حيث انتهت السرديات الكبرى لجميع المذاهب والفلسفات الكبرى التي سعت لتفسير العالم على نحو شمولي، وهذه المذاهب كبّلت الفكر وساهمت في حجره في إطار ضيق، الأمر الذي ساهم في انتهاك حقوق الإنسان، خصوصاً بادعاء احتكار الحقيقة. وهكذا فإن التنوّع والتعددية والاختلاف والتفكيك واللاتحديد من سمات عهد ما بعد الحداثة، الذي يسعى لتجاوز التصورات العقلية بما فيه الذات العاقلة التي أرسى دعائمها ديكارت وصولاً إلى كانت حيث تمتاز أفكار ما بعد الحداثة بنقد الأساس العقلاني والذاتي للحداثة ذاتها.
ويعتبر المفكر آلان تورين أن فكر ما بعد الحداثة يشكل قطيعة مع أفكار الحداثة، حيث المجتمعات الصناعية المتضخمة التي لا تكفّ عن التسارع والاستهلاك الثقافي، فإذا كانت الحداثة قد استدعت سلطات مطلقة، فإن هذه السلطات تفككت في عهد ما بعد الحداثة، بحيث شكلت قطيعة أخرى مع النزعة التاريخية عن طريق إحلال التعددية الثقافية محل الوحدة، وهو ما أعطى سوق الفن أهمية جديدة، بحيث انتصرت المؤسسات الإنتاجية والاستهلاك على الأيروس والأمة.
وحسب قراءاتي المتواضعة للحداثة وما بعدها، فأستطيع القول لا يوجد تعريف جامع مانع لما نعنيه بالمفهوم، كما ان تحديده يفقده الكثير من معانيه المفتوحة ويدخله في إطار نسقي، لاسيما متى دخل "حيّز التنفيذ" كما يقال في القانون، ثم متى بالضبط كانت استخداماته قد بدأت متقطعة أو متصلة، خصوصاً وهو يتداخل ويتراكب ويتخالق مع مفهوم الحداثة ذاتها، التي ما تزال الكثير من الشعوب والأمم عند عتباتها الاولى أو ربما لم تلجها بعد، رغم أن أشكال التعبير عنها قد تبلورت في مطلع القرن الماضي، لدى شعوب وأمم أخرى وسادت عالمياً، الأمر الذي يجعل المفهوم ضبابياً، خصوصاً لجهة ارتباطه بالحداثة ذاتها التي ما تزال سارية المفعول، حيث يتقاطع الاقتصاد بالجنس والنظام الرقمي (الديجيتل) بالثقافة والفلسفة بالسياسة، والفن بالتجارة، والدين بالسلطة.
لقد استند مفهوم ما بعد الحداثة في ظل العولمة، خصوصاً في الطور المتقدم الجديد من الثورة العلمية التقنية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثورة الفضائية وثورة الجينيوم، الى قاعدة جوهرية تقوم على التعددية، باعتبارها دستوراً ناظماً للمجتمعات بالمعنى والنموذج ولا ينفصل عن الديمقراطية، والتنوّع وجدل الهويات، خصوصاً بانهيار الانظمة الشمولية في أوروبا الشرقية.
وهكذا فإن ما أفرزه عهد ما بعد الحداثة رغم انه في بداياته، إنما يعكس تعديلات علمية ومخططات حياتية ونماذج سلوك جديدة، وهذه تشكل الوجه المغاير للأنظمة التوتاليتارية، لانها ضد جميع أوجه التسلط والاستبداد القديمة والجديدة.
وإذا أردنا العودة الأولى لاستخدامات ما بعد الحداثة، فقد بدأت في منتصف القرن الماضي وهو ما تحدث به لوتس غيلد ستزير، لكن الرسام الانكليزي جون واتكنز جابمين وبعض رفاقه استخدموه منذ العام 1870، ثم استخدم على يد بانفتز في كتابه أزمة الحضارة  الغربية في العام 1917، مشيراً الى أن الأزمة هي أزمة الانسان، واستخدم مجدداً سمرفيلد، موجزاً لموسوعة أرنولد توينبي بإشارة الى المرحلة الراهنة التي تمرّ بها الحضارة الغربية (1947)، وذلك بتجاوز مفهوم الدولة القومية الى التكامل والاندماج العالمي.
ولهذا فإن صعوبة تحديد المفهوم زمانياً ومكانياً وتاريخياً ستظل سمة بارزة له، الاّ إذا أخذنا الانعكاسية ووعي الذات في تحديده من خلال رأسمالية السوق وبخاصة المتعددة الجنسيات في ظل تعددية عصرانية واجتماعية وتشكيلات علمية ومخططات حياتية ونماذج تعتمد على التنوّع وتقف بالضد من السيطرة والتسلط، وهو الأمر الذي يبرز من خلال تطور العالم عبر وسائل الاعلام والاتصال وظهور وانبعاث الثقافات المحلية وصعود فكرة الهوية وإضفاء التعددية الثقافية على مجتمعات واحدية، سواءً بقبول فكرة التنوّع أو بانفصال حركات وكيانات وتوزّعها على دول ومجتمعات، وذلك عبر تطور كوني قاد الى مجتمع صناعي متضخم والقطيعة من النزعة الثورية وحلول التنوّع الثقافي ومن ثم ظهور سوق الفن .
إن خطاب ما بعد الحداثة يحاول إيجاد قيم جديدة وبديلة عن مبادئ العقلانية والتنوير، لاسيما ببروز التعددية والاختلاف وتنامي الهويات القومية والفردانية وبحرية الاعتقاد والملبس والمأكل وأشكال الممارسات اليومية بالضد من وحدة الهوية، الأمر الذي يطرح أسئلة ساخنة وحادة حول المفهوم ومصيره شكلانياً وموضوعياً ومع أن وسائل الاتصال الالكتروني والانترنت وغيرها قد جعلت العالم كله قرية واحدة، لكن مجتمع ما بعد الحداثة لم يزل هلامياً  رغم وسائل التعبير الهائلة عنه، خصوصاً فيما يتعلق بالقيم الانسانية والعقلانية وصراع الحضارات وصدام الهويات، ولعل ما كانت تتعرض له فكرة الحداثة من نقد ايجابي وسلبي هي نفسها التي تتعرض لها فكرة ما بعد الحداثة.

س 4. ثمة من يرى من المؤرخين أننا لم نحسن قراءة تراثنا العربي والإسلامي ورؤيته في واقعه الصراعي. إلى أي حد تتفقون مع هذا الرأي؟

لو استعدت سؤالك الأول وربطته بسؤالك الثالث، لتحدثت عن الهوّية والثقافة والهوّية والعولمة، لاسيّما فيما يتعلق تاريخنا العربي الإسلامي، فالنظر إليه غالباً ما يتم إمّا بنظرة تقديس أو بنظرة تدنيس، أي إما بالتمجيد أو بالتنديد، في حين إن إشراكات تراثنا كبيرة ومهمة جداً على صعيد التقدم العلمي في المجالات المختلفة، وحين كانت أوروبا في القرون الوسطى تغطّ في ظلام عميق، كان العالم العربي- الإسلامي مزدهراً ومتقدماً وواعداً، ولكن ذلك لا يمنع من وجود نتوءات ونقاط مظلمة وسوداء في تاريخنا، الأمر الذي يحتاج  إلى قراءة ارتجاعية للماضي، بما له من عنصر إشراق وإشعاع، وبما عليه من نقاط ضعف قادت إلى دخولنا مرحلة مظلمة.
ولهذا لا ينبغي الوقوف عن التاريخ موقف التقليد باعتباره صالحاً كلّه لأن هذا سيقودنا إلى سلفية عمياء وإذا كان بعضه صالحاً لزمانه فقد لا يكون صالحاً في الوقت الحاضر. كما لا ينبغي الاستنكاف من تاريخنا، بزعم الرغبة في الدخول إلى عالم الحداثة، فتراثنا يحتوي على جوانب إنسانية عظيمة في المجالات المختلفة، وقد لا يكون في المجال متسعاً لتفصيلها في هذا السؤال، خصوصاً وأن التركيز سيكون على الهوّية، وفي كلا الحالين لا بدّ من القراءة النقدية لربط التراث بالمعاصرة على نحو حيوي بما يفيد حاضرنا ومستقبلنا.
تعتبر الهوّية موضوع جدل في الأدب السياسي، خصوصاً بجانبه الفكري والاجتماعي والثقافي، وقد احتدم هذا الجدل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتحلّل المنظومة السوفيتية، الأمر الذي دفع شعوباً وأمما وجماعات لتخوض صراعاً حاداً باسم الدين أحياناً وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى. وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمراً ملازماً لكل حديث عن الهوّية، إذ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز، في مجتمعات كانت الصورة الواحدية تطغى عليها.
لعلّ واحداً من أسباب "انتعاش" مسألة الهوّية إذا جاز التعبير هو تفكّك الأنظمة الشمولية، وشعور بعض الكيانات الخاصة "بالانعتاق" وتطلّعها ليكون لها شكلاً من أشكال الاستقلالية والخصوصية التي تجمعها وتعطيها كيانها الخاص، لاسيّما بعد تهميش وإلغاء ومحاولات صهر بمزاعم شتى، الأمر الذي قد يكون وراء اندفاع الكيانات والهوّيات   الفرعية، الجزئية، في البحث عن طريق جديدة لتحقيق ذاتها والتشبّث بخصوصياتها بعد طول "عداء" أو شعور "بالاستصغار" أو "فوقية" و"استعلاء" عانت منه، وقد تسبّب الفعل ومن ثم ردّ الفعل، في خلق فتن ونشوب حروب أهلية وتهجير قسري وإبادات، تارة بحجة الحفاظ على الهوّية التي يُراد اختراقها، لاسيّما الهوّيات الكبرى، وتارة بزعم تحقيق الهوّية  والتمسّك بها، خصوصاً للهوّيات الفرعية، التي يراد تذويبها أو إخضاعها!
وإذا كانت تحدّيات الهوّية داخلياً أساساً مستمراً لاحتدام الجدال والسجال والصراع، حيث ظل الموقف من الحقوق والحريات، وبخاصة من مبدأ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية، هو العامل الحاسم في الاحتدام والتناقض والتناحر أحياناً، فإن التحدّيات الخارجية لم تكن بعيدة عن ذلك، خصوصاً تداخلاتها وتأثيراتها المختلفة، وبالطبع فقد استثمر العنصر الخارجي إثارة النعرات وتأليب البعض على البعض الآخر، والتدخّل بحجة حماية هذا الفريق أو ذاك، لاسيّما للكيانات الفرعية، خصوصاً إذا شكّلت الكيانات الأساسية ذات الصفات العامة، عنصر تحدٍّ للقوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، التي بإمكانها التأثير عليها، وذلك بالعزف على هذا الوتر الحساس للهوّيات الفرعية، التي ستضعف الكيانات الكبرى، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " كلام حق يراد به باطل"!، لاسيّما إذا تعرّضت وحدة الدولة للتمزّق والمجتمع للتشظي!.
ولكن هل يمكن الحديث عن هوّية ثابتة أو متكاملة أو دون تغيير، باعتبارها معطى ساكن وسرمدي، حتى وإن كانت بعض عناصر  الهوّية  قابلة للثبات مثل الدين أو اللغة؟ أم أن  الهوّية  بشكل عام تخضع لنوع من التغيير في الفهم أولاً وفي التفسير ثانياً، وحتى لو بقيت الأصول قائمة، فان بعض عناصر  الهوّية  مثل العادات والفنون، فانها تتطور وتكون أكثر عرضة للتغيير حذفاً أو إضافة، لاسيّما علاقتها مع الثقافات والهوّيات الأخرى تأصيلاً أو استعارة، وهذه لا تأتي دفعة واحدة بالطبع، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدرّجية، تراكمية، طويلة الأمد، والأمر ينطبق على تفاعل وتداخل الهوّيات، خصوصاً من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
لقد ازداد جدل وصراع الهوّيات، في زمن العولمة، لاسيّما بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة لاعب أساسي في العلاقات الدولية، ولعلّ الشعور بالاستهداف كان فادحاً، من جانب الهوّيات الفرعية أو الصغرى، في حين شعرت بعض الهوّيات الكبرى، العامة، وكأن هيبتها بدأت تتصدع بحكم الثقافة الاستعلائية السائدة، أو من حاول توظيفها لخدمة أغراضه السياسية الفوقية، سواءً كانت دينية أو إثنية أو طائفية أو غير ذلك، الأمر الذي ساعد على الانكفاء من جهة والتشرنق أو التعصب والانغلاق وضيق الأفق من جهة أخرى، إزاء الآخر، خصوصاً بتفكك الدولة أو هشاشة وحدتها الوطنية في ظل المعادلات الجديدة، وبخاصة للتكوينات المختلفة.
وبدلاً من طلب الاستكانة أو الخضوع أو محاولة التسيّد من جانب الهوّيات الكبرى أو من يدعي تمثيلها من الفئات المهيمنة على الهوّيات الفرعية، الذي كان ناجماً عن الشعور بالتفوّق أو الأغلبية أو ادعاء الأفضليات، فإن نزعات رفض التعايش وعدم الرغبة في التواصل كانت قد تمت بالمقابل وكرّد فعل لمحاولات الهيمنة أو فرض الإرادة وعدم الامتثال لمبدأ المساواة، وبالطبع فإن الأساس الفكري والاجتماعي لمثل ذلك النهج، إنما ينجم عن سياسة عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، وتتجه مثل هذه السياسة وردود أفعالها صوب العزلة والقطيعة، بدلاً من التعايش والمشترك الإنساني.
الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوّية، وهي التي تعبّر عن الشعور بالانتماء، فالثقافة هي توالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة مع الآخر أيضاً، لاسيّما   إنسانياً، ومع التقاليد والعادات، التي تعكس سلوك وحياة الناس،
كما أنها مثل الكائن الحي الذي يخضع لقوانين التطور الحياتية ذاتها، وهي تمثّل رؤية شاملة للعالم تتجلى أو تتجسد فردياً أو مجتمعياً في المفاهيم والقيم وظواهر السلوك والممارسات المعنوية والعملية والحياتية، توحّدها اللغة، وإن تنوّعت تنوّع فئات المجتمع من حيث مواقفها الاجتماعية والفكرية، بما يشكل الخصوصية الثقافية والقومية العامة في المجتمع.
   بهذا المعنى فالثقافة هي مجمل أساليب المعيشة في حياة الشعب اليومية، التي تشمل عناصرها المترابطة في نسيج متكامل، الرؤية العامة، والقيم والمبادئ، والمفاهيم، والتقاليد، والعادات، والمعتقدات، والمقاييس والمعايير، والممارسات ، والأعراف، والقوانين، والأمثال، والمروّيات، والمناقب الأخلاقية، والقواعد السلوكية اليومية .
   قد يكون الاهتمام بالهوّية في ربع القرن الماضي ناجماً من تراجع دور الآيديولوجيات، لاسيّما بعد انخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي منذ نهاية عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، أو تحوّله من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وصعود الإسلام كعدو تقليدي للغرب بعد سيادة عهد "الليبرالية" الجديدة سياسياً واقتصادياً، التي ارتبطت موجتها الجديدة بظاهرة العولمة، لاسيّما في ظل الثورة العلمية- التقنية، خصوصاً في مجال تقنيات الاتصال والمعلومات، وسعت للهيمنة على السوق الدولية على مستوى الكرة الأرضية.
ولعلّ هذا التوّجه ارتبط بفكرة النظام العالمي الجديد، الذي اتّسم بمنطق السوق وتسليع مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية ، وإزالة الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال والسلع وخصخصة المؤسسات الاقتصادية وإلغاء ملكية الدولة لها، وتحكّم الشركات " فوق القومية" في السياسة الاقتصادية الدولية، وسعي المحافظون الجدد في الولايات المتحدة إلى جعل سلطة السوق مقدسة، وتحطيم كل العوائق التي تعترض طريقها، سواء كانت دولاً أم حكومات، مجتمعاً مدنياً ومنظمات غير حكومية، أو غيرها  .
 وهكذا أخذ دور الثقافة يتعاظم سواءً على الفرد أو الشعب أو الأمة أو الدولة، ويزداد تأثيرها على السياسة والاقتصاد على حد سواء، خصوصاً بعد أن سعت العولمة لتسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم الخاصة بـ " الهوّيات الأصغر الفرعية، بعد سيادة الهوّيات   الكبرى أو  الهوّية  الأكبر، من خلال تعميم نمط الاستهلاك والفردانية، خصوصاً العلاقة بين القوى المتسيّدة والنافذة في العلاقات الدولية وبين الأمم والشعوب والدول الصغيرة.


ربّ سائل يسأل، كيف تتشكّل الهوّية؟ هل هي ثابتة وكاملة وبالتالي مقفلة غير قابلة للتطور أم متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف!؟ واستكمالاً لهذا السؤال يلوح دور الإرادة للفعل أو للمعطى التاريخي الذي يقبل التطور والتراكم والتفاعل مع غيره، حيث تتمثل  الهوّية  في عناصر معرفية ونسق معتقدات وقيم ومعايير، وعلى الرغم من محاولات العولمة تحويل الثقافة إلى سلعة يتم تداولها على نطاق واسع، وخاضعة لسوق العرض والطلب والاحتكار، فإنه يمكن القول إن هناك ثلاث مستويات لتشكيل الهوية، فهناك:
المستوى الأول- الفردي، فلكل فرد هويته وخصوصيته.
وهناك المستوى الثاني- الجماعي أو المجتمعي أو الجمعي "الجمعوي" كما تسمى مغاربياً، وهي تمثّل المشترك للجماعة الإنسانية.
أما على المستوى الثالث فهو المستوى الوطني والقومي.
وفي كل الأحوال فان هذه المستويات الثلاث تتحدد بنوع المواجهة، اتفاقا أو اختلافاً مع الآخر، لاسيّما   الذي تواجهه قرباً أو بعداً، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري.
نجم صراع الهوّيات عن نزاعات اجتماعية- اقتصادية، لاسيّما   في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً علاقة البلدان المتقدمة صناعياً بالدول النامية، حيث تحاول الأولى ترويضها وتطويعها ونهب مواردها، وأحياناً يتخذ احتدام   الهوّيات   شكل صراع متنوّع، فيما يتعلق بنمط الحياة والسلوك ومنظومة القيم، حتى وإنْ اتّخذ شكلاً دينياً أو لغوياً أو قومياً، لكنه يُمثّل من حيث الجوهر محاولات لفرض الاستتباع وإملاء الإرادة من جانب القوى الكبرى، ومقاومة وممانعة من القوى الصغرى.
   وهناك نوع آخر من الاحتدام في الهوّيات، ينجم عن نزاعات إثنية أو دينية، وأحياناً تتداخل هذه النزاعات التي تكاد تكون سائدة حالياً في المجتمعات المتخلفة أو البلدان النامية أو ما يمكن أن يطلق عليه مجتمعات الأطراف أو بلدان الجنوب الفقير، بسبب ضعف الدولة المركزية من جهة وشحّ الحقوق والحريات وعدم تحقيق المساواة التامة والمواطنة الكاملة من جهة أخرى، لاسيّما في دول متعدّدة الأعراق والقوميات والإثنيات والأديان والطوائف، فسرعان ما تندلع الصراعات بين من يدعي تمثيل القومية الكبرى أو الدين السائد أو النافذ أو الطائفة الأكبر من موقع السلطة ومن خارجها أحياناً، وبين أقليات أو فئات مُستبعدة أو مهمّشة، فيستعين كل طرف بثقافته السائدة، عندها يندلع العنف ويحتدم الصراع وتتباعد الكيانات وتكبر الهوّات.
   يمكن القول بأن الصراع بين الهوّيات يكاد يختفي في المجتمعات المتقدّمة، وخصوصاً الذي اتّخذ بُعداً (إستئصالياً وإقصائياً) عنفياً وعسكرياً ومسلحاً، وحتى لو بقيت بعض ظلاله أو استحضر تاريخه، فإنما يتم ذلك على صعيد الفكرة والسياسة والتاريخ والمصالح الاقتصادية، لاسيّما بعد إسدال الستار على جوانبه المأسوية، حيث شهدت أوروبا، اتحاداً متميزاً ونافذاً أساسه المصالح الاقتصادية والمنافع المتبادلة وثقافة التسامح والتعايش والتعاون، بعد اعتماد مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً في البلدان النامية، وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، وإنْ لم يختفِ كلّياً في البلدان المتقدمة .
   ولعلّ مثال كندا ومطالبات إقليم الكيبك بالانفصال خير دليل على ذلك، علماً بأنه أكبر المقاطعات الكندية مساحة وثاني مقاطعة من حيث عدد السكان وعاصمتها مدينة كيبك وأهم مدنها مونتريال ولغتها الفرنسية وقد جرت محاولات الانفصال منذ العام 1980، في استفتاء عام، لكنها لم تحرز النتائج المرجوة. أما إسبانيا فإن إقليم الباسك المؤلف من 17 منطقة للحكم الذاتي، والتي تؤلف ثلاث مقاطعات، والذي يقع في شمال إسبانيا فإنه يطالب بالانفصال، هو الآخر، والأمر يمتد إلى جنوب فرنسا.
وفي بلجيكا التي تتألف من قوميتين رئيسيتين هما الجماعة الفلمنكية والجماعة الوالونية، فالأولى تدعو إلى توسيع الفيدرالية القائمة منذ العام 1993 إلى كونفدرالية تمهيداً للانفصال، ويعيش الفلمنكيون في الشمال في حين أن الوالونيين يعيشون في الجنوب، وبعضهم يعيش في الشمال وأصولهم ولغتهم فرنسية، ويرغب الفرانكفونيون في الشمال التواصل مع سكان الجنوب وفي الوقت نفسه الحفاظ على لغتهم وتراثهم وتاريخهم الخاص (الفرنسي)، الذي يتعرّض إلى ضغوط من الفلمنكيين الذين يسكنون في ضواحي بروكسل العاصمة وهم مدعومون من الفلاندر.
يؤلف الفرانكفونيون (الوالونيون) نحو 4 ملايين نسمة في حين أن الفلمنكيين يؤلفون نحو 6 ملايين نسمة، وبهذا المعنى يصبح هدف الأغلبية تحقيق الاستقلال، وقد تتعرض الوحدة البلجيكية الحالية إلى التصدّع، وهي الآن مهدّدة بالتقسيم إلى دولتين، وقد يكون بينهما طلاق بائن، مثلما حصل بين التشيك والسلوفاك، ولكنه طلاق مخملي وبالتراضي والسلم.
في العام 1993 قرر ممثلو التشيك والسلوفاك فك الارتباط الذي كان قائماً تحت اسم جمهورية تشيكوسلوفاكيا، واختاروا الحل السلمي بالتفاهم ثم إنهاء الفيدرالية القائمة بينهما وإعلانهما كجمهوريتين مستقلتين (جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك)، ولكن الأمر يختلف عن التجربة اليوغسلافية التي كانت مأسوية ودموية بامتياز وجاءت بعد حروب طاحنة وتركت مرارات وعذابات لا حدود لها على الجماعات المتنازعة بغض النظر عن حقوق الأطراف وتجاوز البعض عليها ومحاولة هضمها.
أما تجربة بريطانيا مع اسكتلندا في إطار المملكة المتحدة، فقد كانت رغبة أقسام كبيرة من سكان اسكتلنده الانفصال، لكن الاستفتاء الذي جرى في 20 أيلول (سبتمبر) 2014 كانت نتائجه 54% لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة الأمر الذي بسببه استقال الزعيم القومي الاستكلندي أليكس سالموند من قيادة الحزب الذي يدعو للانفصال، وهناك في العديد من البلدان المتقدمة مطالب انفصالية أو استقلالية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة الهوّية والخصوصية، لكن طريقة معالجتها كما رأينا تختلف عن معالجة البلدان النامية.
إن المجتمعات اللاديمقراطية وبخاصة في البلدان النامية شهدت احتدامات حادة ومعارك كبرى تحت راية الهوّية وهو ما حدث في أمريكا اللاتينية ويحدث في آسيا وأفريقيا، واستمر على نحو حاد في العراق والسودان (الذي انفصل جنوبه في العام 2010 في استفتاء شعبي صوّت سكان الجنوب لصالحه بنسبة زادت على 98%  بعد صراع مرير ودموي وخسائر مادية ومعنوية وبالأخص في الجانب البشري وتعطيل التنمية)، والصومال وأفغانستان ولبنان وسوريا واليمن والبحرين وليبيا حيث تتقدم   الهوّيات   الفرعية على الهوّية الجامعة، وقد استشرى الأمر في العراق بعد الاحتلال، رغم الدثار السميك من القوة والقمع الذي تغلّف به في السابق، لكنه سرعان ما انفجر، وبخاصة عند إقرار القسمة الطائفية- الإثنية التي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد أيار (مايو) 2003، وبالتحديد بعد تأسيس مجلس الحكم الانتقالي (13 تموز/يوليو 2013) وما أعقبه في ظل حكومات الاحتلال وما بعده.
وباستثناء ما حصل من معارك البوسنة والهرسك والصراع بين الصرب والكروات والمسلمين والمسيحيين، وما حصل بين روسيا والشيشان وفي جورجيا وألبانيا وأوكرانيا وهي كلها خرجت من عباءة الأنظمة الشمولية، فإن تعايش الهوّيات أمرٌ معترف به ومصان قانوناً وممارسة، وأخذ يشكل جزءًا من الثقافة المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية، وبخاصة فيما بينها، حتى أن انفصالاً مخملياً كان قد حصل بين التشيك والسلوفاك، بعد وحدة أو اتحاد دام عقوداً من الزمان، وذلك باتفاق الطرفين في 1 كانون الثاني (يناير) العام 1993 بعد أكثر من 3 سنوات من انهيار النظام الشمولي الاشتراكي السابق.
 الهوّية  إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات "إنها معرفتنا.. بما ، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة"!؟ .
يتبع   

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1284
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الهوّية  بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عما سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور  الهوّية  بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر .
   الهوّية بهذا المعنى ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً،  والتغيير هو الذي يطبع  الهوّية  وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، ولا يتعلّق الأمر بالقضايا السياسية حسب، بما فيها المواطنة وحقوقها، بل إن المسألة تمسّ بالصميم الجانب الثقافي، وهذا الأخير بقدر كونه معطىً مرتبطاً بالماضي والمستقبل، فإن الجانب السياسي له علاقة بالحاضر، الراهن، القائم، أما جوانب  الهوّية  الخصوصية الثلاث فلها علاقة بالأرض والتاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان) مثل علاقتها بالثقافة المشتركة السائدة في الأمة، وأخيراً علاقتها بالكيان القانوني لوحدة الوطن والأمة (اتحادهما في دولة مثلاً).
   لعلّ السؤال الذي يواجه البشر منذ الخليقة فردياً وجماعياً: من أنا أو من نحن، ثم يستكمل هذا السؤال من خلال أسئلة أخرى تتعلق بالعمل والمشروع، الذي يمثله الإنسان، نشأة وانتماءً كمعطى أول، وفيما بعد عملاً وصيرورة، كمعطىً ثاني الأول سيكون معطىً دون خيار، أما الثاني فهو خيار أي انه تفضيل بين خيارات، وبالتالي سيكون خياراً واعياً ومكتسباً، من خلال وعي وعملية خلق. وإذا كان الأول طبيعياً، فإن الثاني يعبّر عن الإرادة البشرية والتدخل الإنساني لإكساب  الهوّية  شكلاً جديداً مفتوحاً قابلاً للتطور.
وبهذا المعنى فالهوّية  لا تتكون بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهي عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة.
وكلّما كانت هوّية " الأنا" غير ملتبسة كلما استطاع الدخول في حوار متكافئ مع الآخر على المستوى الثقافي، أما إذا كانت  الهوّية  محط إشكاليات، فإنها ستكون معلّقة أو مرجأة أو متأرجحة حسب تعبير أدونيس الذي يقول: إنه لا يستطيع أن يعطيها وصفاً: الولادة، المواطنة، الجنسية، اللغة، الإبداع والتميّز، فردياً أو جماعياً.
 الهوّية الفردانية حتى وإنْ كان يُنظر إليها بارتياب في عالمنا العربي باعتبارها مصدر شك، حيث يتقدم عليها ويلغيها أحياناً الهوّية الأساس، كما تسمّى ونعني بها "هوّية الأمة" كما يقال، وعلى هذا المعيار الكلاّني الشمولي، يُنظر إلى الأقليات في دولة متعددة القوميات أو الأديان، بتخطّي وتجاوز أي حديث عن الخصوصية، التي ستعني حسب هذا المنطق، المساس بهوّية الأمة، الجماعة البشرية السائدة.
وقد تختلف أولويات هذه الجماعة باختلاف الآيديولوجيات والأفضليات، فتارة باسم القومية وأخرى باسم الدين وثالثة باسم المذهب ورابعة باسم الآيديولوجيا، وهكذا، فالمختلف لا يستحق سوى الإبعاد والإقصاء والنبذ وما عليه إلاّ الرضوخ والاستكانة وقبول حكم الأغلبية أو الجهة المهيمنة، وحسب أدونيس، فالأمر ليس نفياً للآخر بقدر ما هو نفي للذات في الآن، وبقدر انفتاح الذات على الآخر، فإن  الهوّية  تزداد غنىً، وبقدر ما تنكمش الذات وتتقلص في انتمائيتها، نشأة ومواطنة، تزداد فقراً، ولا يمكن طمس التغاير والتنوع والتعدد جزئياً أو كلياً.
   يمكن القول أن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهوّية  من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح معه.
الثقافة تشمل طريقة حياتنا كلها، وأخلاقنا، ومؤسساتنا، وأساليب عيشنا، وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به.
العالم، لاسيّما في ظل العولمة أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية- الإسلامية) لكنه كان ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: البابلية، والأشورية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والتركية، والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدد، وتآخت اللغة العربية مع اللغات الأخرى وتفاعلت واقتبست منها، فناً وأدباً وفكراً، إذ كان " العقل اليوناني" أحد مرتكزات الفكر الفلسفي العربي زائداً "النقل الإسلامي"، ولعبت الترجمة دوراً مهما في توسيع دائرة الثقافة العربية، المتعددة، محل الواحدية، وكانت الأندلس امتداداً خلاّقاً لبغداد.
لقد تغيّرت خصائص الثقافة اليوم بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فالتلفزيون والكومبيوتر والانترنيت ساهمت مساهمة كبيرة في هذا التغيير، ولعلّه بقدر التقارب الذي أحدثه، فقد جعلت التمايز والخصوصيات، سمة مميزة للهويات والثقافات المختلفة، حيث تسعى الشعوب لاكتشاف أساطيرها ورموزها وترسيخ ذاكرتها وتعزيز لغتها الخاصة، وبالخصوص عندما تخشى من التذويب أو الإقصاء، وقد حفّزت العولمة مثل هذا التهديد، خصوصاً عندما جعلت العالم كله "قرية واحدة" هي أقرب إلى "سوق" واحدة، فالهوّيات الطرفية (العالمثالثية) وقفت ضد هويات الهيمنة، والهوّيات الفرعية في الدولة الواحدة، سعت للتشبث بخصوصياتها إزاء محاولات الإقصاء والتهميش.
يتعذّر الحفاظ على الهوّية بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، وبدلاً من الانفتاح والتواصل والتعدد، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء والتوقع، ومثلما لكل إنسان لغته، فله هوّيته التي تتعزّز بالانفتاح مع الآخر، فردياً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هوّية، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني ، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هوّيته العامة عراقية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هوّية مكتسبة، وكنت قد أجبت على سؤال بخصوص الهوّية الذي كان محاوري قد وجّهه إليّ عندما قال: إن سؤال الهوّية يلحّ عليك دائماً.. أين أنت؟
فأجبت: هل يكفي رفع شعار الحفاظ على الهوّية في المنفى لكي نتمسك بالهوّية؟ أليس ثمة هم إنساني يتشكّل بمعزل عن الإرادة وبخاصة للجيل الثاني؟؟ ونقلتُ حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط، في أكتوبر (تشرين الأول) العام 2000 وحضرته نخبة متميزة من المثقفين، حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لظاهرة الازدواجية في الهوّية: حين أكون في المغرب أشعر بأنني مغربي عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي، وهنا يُثار تساؤل مشروع: وهل المكان هو الذي يحدد الهوّية؟ أم أن  الهوّية  التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل حيث اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى تتعزز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!
وإذا كان مثل هذا الأمر يواجه النخبة، خصوصاً من تكوّن وترعرع ثم انتقل ليواصل ويندمج في مجتمع جديد، فالأمر مختلف باختلاف درجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج وبالتالي حمل الثقافتين ومواصلة الاستفادة من النبع الأول، بالقدر الذي تتم فيه الاستفادة من المصادر الجديدة، المضافة.
الثقافة العليا التي تمحو الثقافات الأدنى أو تهّمشها هي ثقافات غير إنسانية، ولا هوّية خارج الإنسان، حيث يتحدّد أفق الهوّية بالانفتاح والتقدم بلا حدود أو نهايات، وهو أفقٌ مفتوح للتحرر من قيود الواقع، وهو أفقٌ رمزي، يوحّد بين البشر، على أساس المشترك الإنساني.
وإذا كان الإلحاح على الهوّية العمودية في ظروف تاريخية معيّنة أمراً مشروعاً، وضمن حدود التحرّر من الإستعمار والهمينة الخارجية، إلاّ أن الاستمرار في هذا الإلحاح خارج تلك الظروف، يصبح خطراً على  الهوّية  ذاتها، حيث يؤدي إلى الانكماش والانكفاء والانزواء، فالتعدّدية والتآلف من سمات الهوّيات المفتوحة التي ترفض الصهر والاستتباع مثلما ترفض الهيمنة والتسيّد، وتتشبث بالمعرفة وليس الهيمنة، بالموضوعية والعقلانية ، وليس الانعزالية والانغلاقية، هي التي ينبغي أن تطبع سجال الهوّيات وهو ما استهدفه الباحث عندما شرع بكتابة كتابه " جدل الهوّيات في العراق"، حيث وضع الواقع أمامه وحاول نقدياً ومن خلال قراءة جدلية للمكوّنات والكيانات الموحدة، المتعددة، العامة والفرعية، صياغة علاقة أساسها المشترك الإنساني، باقتراح حلول حقوقية- إنسانية، من خلال فكرة المواطنة ونبذ الطائفية.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة والأقلية، وهذه النظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فالأقلية قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو " مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الأمور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لاسيّما  : الحقوق والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من التوجّه نحو المجتمع المدني ابتداءً بالانتقاص من مفهوم المواطنة إلى الضغوط الاجتماعية المسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة على بعض النخب "الأقلوية" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو " تسلطية"، لاسيّما بغياب مبادئ المساواة  وتهميش "الأقلية" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والإستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة!
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضد من تطور فكرة المساواة والحرية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة !!



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة المنتدى (مجلة فكرية ثقافية تصدر عن منتدى الفكر العربي- عمان) العدد 216، تشرين الأول/اكتوبر 2014-    كانون الثاني /يناير 2015.
 **باحث ومستشار قانوني؛ وعضو مجلس أمناء منتدى الفكر العربي/ العراق وعضو الهيئة للاستشارية لمجلة المنتدى. وسيُنشر هذا الحوار كاملاً في كتاب قريباً يصدره كاتب الحوار.
***كاتب وناقد/الأردن.