الكنيسة الكلدانية بين اللغة والدين
بقلم الدكتور وليد القس اسطيفاناثيرت موءخرا ردود فعل كثيرة حول دعوة غبطة البطريرك مار لويس ساكو حول تجديد وترجمة طقوس الكنيسة الكلدانية وجعلها اكثر سهولة للفهم والاستيعاب من قبل الموءمنين خاصة في المدن الكبيرة وبلدان المهجر التي يعيش فيها الكثير من أبناء الكنيسة الكلدانية. في المقال المنشور عن موقع إعلام البطريركية الالكتروني وعلى الرابط أدناه
http://saint-adday.com/permalink/7786.htmlالفقرة التي اثارت كل ردود الفعل هذه, نقتبسها كما هي من المقال.
اقتباس
مسألة الطقوس الكنسية
ولما كنا بصدد نظرة مجملة لواقع الكنيسة وتحدياتها لا بد لنا من الانتقال الى موضوع آخر يضع ايضا على المحك، خصوصيتنا الكنسية والطقسية.
إن طقوسنا كانت بالسريانية الشرقية وبعضها ترجم الى العربية والى السريانية المحكية ( سورث). أما اليوم فإن الغالبية لا تفهم هذه اللغة، ليس فقط من المؤمنين، لكن لا يملك ناصيتها العديد من الكهنة ممن يمارسون الصلوات الليتورجية باللغة الطقسية الأصلية. المؤمنون بحاجة لا فقط الى ترجمة الطقوس ترجمة حرفية، بل الى التأوين والتجديد لتتلاءم مع ثقافتهم الجديدة وحساسياتهم وواقعهم. فنحن بحاجة الى طقس مفهوم بالعربية والإنكليزية والكوردية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية والهولندية والفلامكنية.... الخ. وهذا ليس سهلا فمعظم طقوسنا تعود الى القرن السابع واعدت لمجتمع زراعي ولا تتماشى مع ثقافة المجتمع الجديد وعقليته وتنوعه. المهم ان نساعد مؤمنينا على الصلاة وليس على أداء طقوس غير مفهومة ولا تشدهم وتغني روحيتهم. الطقوس من اجل الانسان وليس العكس كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم.
انتهى الاقتباس.
من خلال قراءتي لبعض المقالات التي كتبها نخبة من مثقفي شعبنا حول هذا الموضوع والردود التي اثيرت حول هذه المقالات من مجموعة اخرى من مثقفينا. استنتجت بان ردود الفعل تصنف هؤلاء الإخوة المثقفين الى مجموعتين. المجموعة الاولى تنتقد دعوة غبطة البطريرك وترى فيها خطر جسيم على اللغة والتراث وبالتالي على الهوية الخاصة بابناء شعبنا. والمجموعة الثانية تدعم دعوة غبطته في التجديد والترجمة وترى فيها الفائدة الروحية للموءمنين في عصرنا هذا حيث العولمة والتكنلوجيا وأدوات التواصل الاجتماعي متوفرة لكل شخص. ولابد للكنيسة ان تواكب تطورات العصر.
وهنا لو حاولنا تحليل وجهة نظر كل مجموعة على حدى . سنجدها معقولة ومنطقية جدا.
اذا ما هو الحل ؟
سأبدي رأي الشخصي في هذه المعضلة، أنا اتفق مع المجموعتين وفي نفس الوقت لا اتفق معهما الاثنتين ولا غرابة او فلسفة في ذلك. لان اللغة والتراث والهوية مسالة ضرورية جدا لأي شعب، وخاصة شعبنا المسيحي في الشرق الاوسط وسط التحديات الكبيرة التي يواجهها من اضطهادات، كالقتل والتهجير القسري من ارض الآباء والاجداد، ومحاولة تفريغ الشرق الأوسط من المكون المسيحي بشكل عام. لذلك الحفاظ على اللغة والتراث مسالة في غاية الأهمية.
ايضاً إيصال الرسالة الروحية المسيحية الى الموءمنين وتبنى كل السبل الممكنة لتسهيل هذه المهمة يعتبر حق مشروع للكنيسة لان هذه هي رسالتها الجوهرية، والكنيسة في رسالتها الروحية تعتبر اللغة وسيلة وليست غاية. الغاية هي خلاص النفس البشرية التي تتحق منذ موت الرب المسيح على الصليب وقيامته. وهنا لن ندخل في كل التفاصيل والشرح اللاهوتي لرسالة الكنيسة الروحية. هذه هي الجوانب التي اتفق بها مع المجموعتين لانها منطقية وعادلة وبنفس الوقت ضرورية جدا.
وهنا لابد ان أوضح الجوانب التي لا اتفق بها مع المجموعتين.
كما نعلم جميعا بان تاريخ شعبنا مليء بشخصيات فذة مثقفة ونابغة في جميع العلوم ومنذ قديم الزمان والى يومنا هذا. ما يسمى حضارة الدولة الاسلامية وعلى مر عقودها، اعتمدت وبشكل كامل على ثقافة وغزارة الانتاج الأدبي والفني لابناء الشعب المسيحي حين كان الجميع تحت خيمة كنيسة المشرق وحيث كانت تترجم الكتب اللاتينية الى السريانية وثم الى العربية او من اليونانية الى العربية مباشرة. ليس عن طريق العرب بل الناطقين بالسريانية، والتاريخ يشهد بذلك. وهولاء الأدباء كان قسم منهم من اكليروس كنيسة المشرق والقسم الاخر من العلمانيين. هذه الكتب المترجمة شملت جميع المجالات العلمية والأدبية. حينها كانت لغتنا اكثر حيوية من العربية. وأحدثت نهضة كبيرة في حدود الدولة الاسلامية وسميت بالحضارة العربية. وتم طمس لغتنا ولم يصلنا من النتاج الأدبي الوفير الا القليل. ولكن ما كان يخص النتاج الديني مثل الحوذرا، وهو إرث لاهوتي عقائدي عميق وكنز كنسي عظيم قبل أن يكون إرث لغوي فكنيسة المشرق حافظت عليه رغم الاضطهاد والانقسامات. ولولا الكنيسة لما كان وصل منه غير القليل من المخطوطات ولم ليكن احد سيجيد القراءة سوى نَفَر قليل من الباحثين كما هو حال اللغات القديمة المندثرة. اذا يعود الفضل، كل الفضل الى الكنيسة بالحفاظ على اللغة والتراث. حملت هذا العبء لسنين طويلة. ولكن حين أخذت الكنيسة على عاتقها هذا الحمل الثقيل سبب لها مشكلة وهي الضعف في التبشير بين الامم الاخرى فتوقف انتشار الكنيسة بعد ان كانت وصلت الى الهند والصين. وأصبح الانتماء للكنيسة بالوراثة فقط لانه ليس من المعقول ان تبشر بين الامم الاخرى وهذه الامم لا تجيد السريانية ولا تستطيع فهم واستيعاب الطقوس والأسرار. لم تكن كنيسة المشرق تستعمل السلاح لتجبر الامم وتفرض عليهم تعلم اللغة السريانية، وإلا لكان الاجبار لكل من يرغب بالانتماء لكنيسة المشرق لان يتعلم لغتها اولا. وهو كذلك لحد يومنا هذا، والدليل على ذلك عندما اثيرت قضية التبشير بالمسيحية بين الإخوة اليزيديين، تسارع المسؤلين والكتاب من جميع فروع كنيسة المشرق بإشهار براءة الذمة من هذه القضية، لان كنائسنا المشرقية ليست كنائس تبشيرية. وهذا ما حدث للكنيسة الاولى ايام الرسل لولا تدخل الروح القدس حين طلب بعض من الرسل من الامم الوثنية ان تعتنق الدين اليهودي اولا ثم يقدروا ان يعتمذوا ويعتنقوا المسيحية. حينها تدخل الروح القدس وظهر الرب لهامة الرسل مار بطرس في الروءية ليخبره بان اعتناق اليهودية ليس شرط لاعتناق المسيحية.
لذلك يجب على المثقفين والمهتمين بالحفاظ على اللغة والتاريخ ان يشكروا الكنيسة على هذا الجميل الذي اسدته للغة والتراث. والى حين سقوط النظام السابق لم يكن مسموح بتداول اللغة والقيام بتعليمها ونشرها الا في حدود الكنيسة، وإلا اعتبرت تمس الأمن الوطني وعقوبتها تصل الى الموت احيانا. اما الان وحتى مع ازدياد التعصب الديني ضد المسيحيين، لكن تعلم السريانية وتعليمها لم يعد جريمة يحاسب عليها القانون. اذا لياخذ المثقفين والمهتمين باللغة والشأن القومي على عاتقهم احياء اللغة والتراث المشرقي ويحللوا الكنيسة من هذا العبء الثقيل وبذلك تتفرغ هي للامور الروحية. كان يؤسسوا مدارس تدرس اللغة السريانية بكل لهجاتها، وان يقوموا بترجمة الكتب الأدبية والثقافية وحتى العلمية الى السريانية. لحد الان لا يوجد كتب علمية كافية بلغتنا الأصيلة. مثل كتب العلوم والجغرافية والفيزياء او الرياضيات او الطب او الهندسة. الفرصة الان سانحة لاحياء هذه اللغة العريقة مرة اخرى كما كانت سابقا لغة العلم والأدب والثقافة لان التكنلوجيا الحديثة وفرت كل المستلزمات للقيام بهذه المهمة ولدينا أناس كفوءين للقيام بذلك من ذوي الاختصاص. وان لا نطلب من الكنيسة ان تقوم بهذه المهمة وحدها ونلومها ان لم تفعل وكان الحفاظ على اللغة هو واجب الهي مقدس يجب ان تقوم به الكنيسة. في الحقيقة والحق يقال ان الكنيسة لا زالت تحاول تعليم اللغة لتنشئة جيل جديد من الشمامسة لخدمة المذبح المقدس. لكنه ان الاوان لكي يأخذ هذا الدور الجانب العلماني من الموءمنين.
لهذا انا لا اتفق مع المجموعة الاولى بان تلوم الكنيسة على الاخفاق في الحفاظ على اللغة والتراث.
اما المجموعة الثانية فعدم اتفاقي معهم يرتكز على التبريرات التي يقدمونها بان عدم فهم واستيعاب الطقوس الكنسية من قبل الموءمنين سببه اللغة الغير مفهومة وطول مدة القداس او الأسرار فقط. ولكن الحقيقة هي قلة التركيز على محاولة شرح محتويات هذه الطقوس والأسرار وربطها بالايمان والعقيدة المسيحية لأنها ليست مجرد عادات وتقاليد توارثناها من آباءنا وأجدادنا.( هكذا كانت تجرى وهكذا يجب ان تبقى لأننا تعلمناها وتعودنا عليها بهذه الصيغة ). كثير من الكهنة يتلون الصلوات اثناء القداس او إعطاء احد الاسرار الكنسية بلغة مفهومة للموءمنين كالعربية او الانكليزية او السورث المحكي، ولكن بسرعة فائقة وكأنه يسابق الزمن، فهل نتوقع من الموءمنين الحاضرين ان ينسجموا مع هذه الصلوات التي تتلى بهذه السرعة الرهيبة؟ كم من الكهنة يستمتع بتلاوة الصلوات ليرتقي بسامعيه الى المعنى الروحي لها؟. ام انهم لا يريدون ان تطول مدة القداس لكي لا يمل الجموع؟. الموءمن الذي يحضر القداس يجب ان يكون منسجما مع كل صلاة وكل حركة يقوم بها الكاهن ويفهم أقسام القداس والى ماذا توحي، وإلا ما الفائدة من حضور القداس. المشكلة ليست فقط اللغة. بل في عدم محاولة جعل هذه الطقوس والصلوات ذو معنى وغير مملة. لتعمل الكنيسة ما بوسعها لجعل الموءمنين يفهموا و يستمتعوا بالطقوس. وما الضرر اذا كانت تتلى باللغة الأصلية للمحافظة على الصيغة الشعرية واللحن الأصلي مع وجود ترجمة حرفية الى جانبها بلغة اخرى مفهومة. وبذلك يتعلم الشعب معنى هذه الصلوات ويشاركون فيها بدلا من الاستماع فقط. الان الكنيسة تحاول السير وراء رغبات الناس لكي لا يذهبوا الى كنائس اخرى او يصيبهم الملل او النعاس اذا طالت القداديس او المراسيم بعض الشيء. يجب على الكنيسة ان تسير قدام الناس وليس خلفهم. وايضاً تقع المسؤولية على الشعب لان معظمهم لا يحاول بذل بعض الجهد والوقت في دراسة وفهم الطقوس او تعلم لغة الآباء وتعليمها لأولادهم.
والخلاصة من كل ما تقدم هو ان يتحمل كل واحد منا مسؤوليته الكاملة في هذا الاخفاق سواءا كان في فقدان اللغة او البرود الروحي لدى الشعب المسيحي. وعدم معالجة الواحد باهمال الاخر. الكل يجب ان يعمل بجد، الإكليروس والعلمانيين وبالتعاون مع بعضهم البعض للحفاظ على اللغة والتراث وايضاً إيصال الرسالة الروحية.