المحرر موضوع: جســــد زهيـــــــر بــــــــردى علــــى طاولـــــــة مقهــــــى شرقــــــــي  (زيارة 1023 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل مال الله فرج

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 558
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

جســــد زهيـــــــر بــــــــردى
علــــى طاولـــــــة مقهــــــى شرقــــــــي
............................................

  مال اللـــــه فــــــــرج
Malalah_faraj@yahoo.com
 ...............................................

يبقى الجسد الانساني الحي وظله ومكنوناته ورعوده وزوابعه وعربدته ومواسم امطاره مثل لغز هلامي ينكمش هنا ويتمدد هنالك ويتلصص ويسترق السمع وينتشي ويبكي ويثمل ويبتهج وينشج ويتداخل مع كل الاشياء حوله، حتى امسى بلغة الادباء والشعراء ليس التعبير عن الحياة وفصولها ومكامن الابداع والعطاء والوجع فيها حسب، لكنه الرمز لكل الاشياء مجتمعة فهو الحب والكره والعشق والتمرد والثورة والوجع، والهمس والجدب والعطاء والامل واليأس والصراخ والنظام والفوضى ولمسة الحب وطعنة الغدر وشفافية البوح الرومانسية وجحود الخيانة، وهو السجن والحرية في ان وهو دموية الحكام المستبدين وشفافية الفلاسفة المصلحين وهو رومانسية الانثى المتفجرة ورعودها  ونزواتها وتوقها للاشباع في هنيهات الغرام الملتهبة، وهو تمرد فروسية الذكر وتوقه لاقتحام عنيف لكل القلاع التي تصادفه في لحظات الحرب الجسدية لينتشي متماهيا ومتباهيا بفحولته واختراقاته العميقة لجسد فتح كل ابواب قلعته امام غزوه الذكوري رافعا راية الاستسلام ومطالبا  بالمزيد ، ولان الجسد هو الانسان في كل زمان ومكان، فانه امسى خليطا من كل هذه العواصف والاعاصير والتناقضات والتشابهات والتعبير بحيويته عن كل مسارب الحياة وساحاتها وسكان قصورها الخرافية واكواخها الطينية على حد سواء.
من هنا وقف الشاعر( زهيـــر بهنـــام بــــردى) ، متماهيا بمفردة الجسد عبر ديوانه الاخير الذي صدر في دمشق واحتفى المثقفون والشعراء والادباء بتوقيعه في اربيل عبر احتفالية نظمها اتحاد الادباء والكتاب السريان، تحت عنوان (جســد فـــي مقهـــى شـــرقي) ليمسك عبر قصائده النثرية بتلابيب القارئ بحرفية شعرية مرهفة ملقيا به وسط دوامة بحر زاخر بالمعاني الثرة والدلالات المختلفة، وليتركه تائها بين مفاهيم ودلالات وايحاءات ورموز تأخذه بعيدا ليجد نفسه يعدو لاهثا وراء المعنى في خضم شفافية الكلمة ومحاولة الامساك باللحظة والتملي بها وهو يجد نفسه ضائعا في خضم جزالة المعاني التي تصوغ افقا مفتوحا على جميع التوقعات، ملبدا بسحب كثيفة تمطر فيضا من قصائد تتوزع في كل الجهات مشكلة بغزارتها وتنوعها صورا متداخلة  متنوعة من المستحيل الامساك مرة واحدة بما تحمله من فيض كل تلك المعاني والدلالات التي تختفي وراءكل تلك الصور دفعة واحدة.
فمن بوابة(ابحــث عـن الألــم كـي اســتطيع ان ابكــي)، يتباهى بردى بمن مررن من النساء فوق يده حيث كان مثل ابيه آدم يدس تفاحات اصابعه في فمهن لينوح مثل ناي فوق قبر، متوجها الى الجسد في اولى رحلاته معه (جسدي خلفي لايراني مثلما ارغب، يمشي بعدي ليخونني) موجها اولى خطاباته للمرأة التي لا تعني له الجسد حسب وانما الحياة والحلم والامل وارهاصات الشعر والوطن الذي يسكنه مشاركا وجعه وتفاصيل يومه (تكونيــن معــي الســماء تقتـــرب مـــن الارض كثيــرا، تجلســين فــي قمرهـــا واجلــس علــى كرســي شــمسها، الشمــس لا تخجــل مــن مداعبتــي والقمــر يشـــم جســدك ويثمــل، تسترخيــن طريـــة فــوق اريكـــة الــروح وترتديـــن ثوبـــا منتشيــا بســمرتك الملتهبـــة، يرتـــدي الضــوء جســدك مبهـــورا بعـــريك الســـماوي، وحيـــن يطفـــئ الثلــج مصابيحـــه البيضـــاء وبـــلا ضوضـــاء، اثمـــل بشـــمك صاعـــدا اليـــك باتجــاه الســماء)، ولأن ابتسامتها تعني الحياة فانه يراهن على تلك القدرة العجيبة التي تمتلكها تلكما الشفتان لزرع الامل وسط دوامة بحر هائج وهي تسرق منه العبوس وترسم على تقاسيم  وجهه المتعب  البسمة (ســوف اقـــذف بشـــفتيك الـــى البحـــر كــي يبتســم المــاء).
لكن زهير بردى لايتوقف كعادته في محطة واحدة بل تراه يتقافز هنا وهناك، لذلك تجده من بين ثنايا الابتسامة يطوح بنفسه الى دمع غيمة بكت على حياته وكاني به هو الذي ينشج بصمت محملا الغيمة وزر وجعه (ابحــث فـــي التـــراب عــــن غيمـــة ســقطت فـــي الامــس مـــن غيـــــر مطـــر، رأيتهــــا قــــد شـــاخت مـــن دمــع للبكـــاء علـــى حياتـــي)، ولعله هنا يحاول ان يبرر بكاءه ودمعه الحزين حيث يشعر بانه اشبه بطائر سجين رغم حريته التقليدية (ضحكــت علـــى عصفـــور فـــي قفـــص اشــمئز مـــرددا بغضـــب ، لا تضحـــك علـــي لســت بافضــــل منــــي).
ولعل هذا الكم الكبير من الحزن العميق ومن الوجع الذي يئن بصمت في اعماق بردى ويحاول ان يلقي عليه ستارا من الغزل تارة ومن الامل اخرى ومن محاولة الغرق في ثنايا العشق والجسد الانثوي ينطلق من ماساة هذا الزمن الردئ ومن علقم فاجعته المريرة حيث عانى شاعرنا وما يزال من مأساة التهجير اذ يستذكر بحنين متفجر وباشتياق اقرب الى الاحتراق، داره هناك في مدينة (بغديــــدا) فـــي سهل نينوى (بيتــي خلفـــه شمــس لا تغمـــض الا فـــي الليـــل ، وبعـــد الشمــس قمـــر لا يغمـــض الا فـــي الفجــــر، بيتـــي خلفـــه ذكريـــات ايـــام اقذفهــــا كظـــل ابيـــض، افعــــل ذلك كـــي لا يتغيـــر طبـــع نهـــار غـــدي ، بيتــي دائمـــا ما يتلمســني).
واذ يستعيد شاعرنا المهجر نتفا من ذكرياته في بيته المغتصب الذي شهد معظم ثوراته الشعرية واصخابات اعماقه بالمشاعر الانسانية المختلفة سواء تجاه الاسرة والاطفال ام تجاه الاحبة والاقارب والاصدقاء، فانه يصوغ من تلاحمه بذلك المكان صورة وجدانية متفردة تكاد تنبض بالحياة (  حين يسقط الضوء خلف بيتي لا اطل من نوافذه الا لارمي الظلام البعيد بالحجر، بيتي بالتأكيد جدرانه الداخلية تعودت دائما ان تقرأ عناوين الحب ويتهجئ ابجد هوز، بيتي ما كان فارغا ابدا، بيتي الذي يعتذر لي الان من هناك بعيدا، صار يعتذر بحروف العلة). 
بيد ان مايجب التوقف ازاءه بجدارة واشادة ليس هذه المخيلة الشعرية المرهفة المترعة رومانسية واحاسيس شفيفة مثل الصباحات الندية وليس هذه القدرة المتفردة على احداث التمازج بين الزمان والمكان والحدث بحرفة عالية الدقة واختصارهم واعادة توظيفهم في صياغة صور شعرية تتمازج في مكنوناتها البلاغة بعمق المعاني برشاقة الكلمة قادرة على الامساك باهتمام القارئ وشده اليها وحسب على اهمية ذلك، لكن الاهم والجدير بالوقوف في محطاته فعلا، هي هذه القدرة الهائلة ليس على تجاوز جراحات التهجير واوجاع الغربة والحنين الى مكان يختزن عالما من الذكريات التي هي زاد الشاعر ومادة نتاجه الادبي، وانما في توظيف ذلك كله لتفجير نتاجات ابداعية جديدة تجاوزت بالامل والتفاؤل والتمسك باذيال الحياة كل الجراح والمعاناة التي فشلت في ان تكسر روح الشاعر المتجددة وتقييد مسيرة ابداعه او عرقلة نتاجه الشعري، واذا ببردى يتجاوز ذلك كله وكأني به يمسك جراحاته بيد ويحفر على ذاكرة الزمن ابداعاته وتواصله وحضوره باليد الاخرى ليهزم بنتاجه غربان الظلام التي حاولت عبر مأساة التهجير ومعاناتها كسر قلمه واسكات صوته ومنع جدول العطاء في اعماقه من التدفق، وهاهو يقدم باباء وجدارة وثيقة تواصله واضعا(جســـده فــــي مقهــــى شــــرقي)، مواصلا مسيرته الابداعية ومطرزا عطاءه الشعري بالحب والامل وملامسة جوانب الحياة المختلفة ومتوقفا بين الانا الذاتية كما هي في طبيعتها وبين ما يريده وما يطمح اليه وكأنني بذلك اجد زهير بهنام بردى متوزعا بين كينونته وبين ظله الذي غالبا ما يسابقه ويخابثه ويتلصص عليه، وتلك هي جدلية الحياة بكل تناقضاتها وفق اشكالية ما نحن عليه وما نريد ان نكون عليه، فهل كان لجوء بردى الى ظله الذي تكرر في ديوانه تعبيرا عما يريده ويطمح اليه؟
حيث يحادث نفسه مخاطبا اياها وكأنه يحادث مخلوقا اخر قائلا :  (يـــــا لحظــــي المتعثــــر فــــي مـــــاء تمــــردي امشـــي اليـــك واطـــرق البـــاب ولا تبصرنــــي)، بل يذهب الى الابعد وهو يتخيل نفسه وربما ظله او نصفه انسانا اخر حيث يلتقي النصفان في الطريق (فـــي طريقـــي الـــى حـــي ترقبنـــي نوافــــذه أتعثـــر برجـــل يشــبهني بامتيـــاز، كــــل شـــيئ فيـــه كــــان علـــى مقاســـي، اختلفنـــا فـــي شـــيئ واحــــد، هــــو كـــان يلفــــظ انفاســــه الاخــــيرة وانــــا اطلــــق انفاســـي الاولـــى).
 فاية لهفة هذه يمتلكها بردى في التمسك بالحياة برغم الاوجاع التي تئن في اعماقه وهو يترك نصفه، ااو هكذا يحاول ان يوهم نفسه، ليكون امام الابدية بينما حاول ان يتخلص بنصفه الاخر من تشابكات القدر حوله ليواصل الحياة كطفل ولد توا؟ 
ففي مناجاته ليوسف الصديق وهو يتخيله قد طرد من بئره باحثا عن بئر اخرى، هل وجد نفسه وهو يطرد من بيته مثل يوسف؟ ام رأى نفسه يوسف هذا الزمان وهو يهجر من بئره عنوة؟(الليلــة رأيتـــك يا يوســف تســير لصــق جـــدار العتمـــة، علــى قارعــة طريــق موحــش كنــت يا يوســف، تبحــث عــن بئـــر اخـــرى بعـــد ان طـــردت مـــن بئــــرك، خرجــت فارغــا مـــن كــل شـــيئ، قميصـــك نوافـــذ اكثـــــر دهشـــة مــن امـــرأة ســـتصادفها فـــي الطريـــق، كــــن حـــذرا لا تطـــرق بابهــا، احلامـــك تكفيـــك، وميـــاه عينيـــك ما زالـــت ترافقـــك الـــى اخـــر الطريـــق، الضــــوء كمــــا يبــــدو كـــان كافيـــا يا يوســــف، لا تأســف انـــت علــــى وشـــك الوصـــول الـــى قفــــص اخـــــر، احـــذر ان تتكســـر، فيــــدك الطاهــــرة تمســـك ثقــــوب قميصــــك الاحمـــر، احــــذر يا يوســف فوالـــدك مـــا زال ينتظــر، واخوتـــك رمـــاد).
هاهو بالرغم من غربة الدار والوطن وغربة المكان والذكريات التي يشعر بانها ما تزال تترصده في منحنيات مدينته( بغديــدا) وفي تعرجات ازقتها الضيقة ويحس بها انثــى من التساؤل والاشتياق تكاد ان تمسك به وتهزه بعنف قبل ان ترتمي باحضانه وهي تنشج بلهفة، بالرغم من وجع ليس يحكى ومعاناة لا تسعها الحروف، الا انه يحاول جاهدا الهروب من ذلك الوجع  الذي يتناسل في اعماقه السحيقة، متواصلا مع نبض الحياة اليومية وايقاعاتها السريعة محملا قصائده من المشاعر الانسانية الرومانسية ما يجعل الكلمات تنوء بثقلها وتنوعها وكم الاحاسيس التي تصطخب بين ثناياها، وهاهو يشي بمواقف عاطفية مختلفة الصور مترعة المعاني (اكتــب رســالة الـــى مجنونـــة، اغـــار مــن كلماتهــا فامزقهــــا) و (دعينــي فقـــط اعبــد تمـــردك، لــم اعــد اصغــي الــى فمــك، لا امضــي حياتــي معــك بالكــلام)، (انــا هكــذا مزعــج وبليــد لا ارغــب ان المســك الا فــوق الســرير)، (لان عطــرك ليــس عطـــر وردة، اشــم عطـــر وردة كلمــا اقتربــت)، (اعانـــق بــدلا عنــك وردة لكننــي فــي حيــرة اصفــن، متــى اصــل الــى روحــك كــي تشــهقين).
الى ذلك، فان بردى غالبا ما يمسك بالقارئ ليدخله الى متاهات تعابير ودهاليز معاني وايحاءات مركبة من جهة ومتداخلة مع بعضها من جهة اخرى حتى لتبدو للوهلة الاولى اشبه بانصاف مواضيع وقضايا متشابكة لم تكتمل لا في المعنى ولا في الايحاءات  الصريحة الى الهدف، وكأني به يحاول ان يمارس على قرائه لعبة (الســهل الممتنــع)، لكنك ان اعدت قراءتها لابد ان تتوقف باعجاب ازاء بلاغة شعرية في التلاعب بالمعنى الذي ربما يمتلك عدة ايحاءات في ان واحد، وكأن ببردى في لحظات تجلياته تلك يمسك بمظلة تحت سحابة صيفية لا تمطر وتراه وهو يقهقه ساخرا من ظله الذي يعتبره نصفه الاخر فيمازحه مرة ويغضب عليه مرة ويتهمه اخرى وربما يحتضنه في الليالي الباردة يبادله وجع  الغربة ويبكيان سوية، اليس ظله هو روحه المتخفية وراء غلالة غير مرئية؟ بل  هو نصفه الاخر؟ ومن بين تلك المتاهات البلاغية المغمسة بالحزن يقول ( ابحــث فــي التـــراب عــن غيمــة ســقطت أمــس مــن غيــر مطــر، رأيتهـــا قــد شــاخت مـــن دمــع للبكـــاء علــى حياتـــي).
اخيرا، في ديوانه الاخير هذا، وهو يضع جسده على طاولة مقهى شرقي استطاع الشاعر زهير بهنام بردى ان يمسك باهتماماتنا ليأخذنا في رحلة شعرية ممتعة ومرهفة نجح عبرها في التلاعب بالصور والكلمات وبالمعاني الثرة المستترة والايحاءات ليصنع منها عالما شاعريا شفيفا  مفتوحا على المدى بتفسيرات واشارات ومواضيع متداخلة تاركا لفطنة القارئ ولمخيلته الخصبة محاولة الامساك بالمعاني الحقيقية التي كانت تستوطن مخيلة الشاعر وهو يترجمها الى كلمات محتكما في ذلك الى نباهة المتلقي وذكائه وقدرته على التحليل والمزج بين كم الايحاءات المتداخلة وبين ما يود الافصاح عنه، وكأني به يضع امامنا صورة لوحة سريالية متداخلة الالوان محفزا ايانا على اختطاف الوانها واعادة رسمها بصورة واقعية، وهو يبتسم بخبث لمحاولاتنا مرددا مع نفسه وهو يستعيد شريط حياته (هـــا انـــك تجلــس علـــى حجـــر صغيـــر فـــي العـــراء وتحــدق الــى خيـــوط دخــان ســـيكارتك كأنهـــا حياتـــك التـــي مضــت بســرعة، جميـــل جـــدا ان تنظـــر للأعلــى كـــأنك رأســك غيـــم).
 دام رأسك ابدا مرفوعا يا صديقي مثل غيمة حبلى بالابداع تمطر علينا نتاجات جديدة تسهم في اخضرار الساحة الادبية في هذا الزمن الموحش وتجدد الق ربيعها الدائم.