السياسة تحشر نفسها في كل مكان!
المطران يوسف توما يعتقد كثير من الناس أننا حتى لو ابتعدنا عن السياسة لكنها هي لا تبتعد عنا بل تحشر نفسها في كل شيء. ومع أن السياسة ليست كل شيء، لكنك تجدها في كل شيء وفي كل مكان. على سبيل المثال، زوجان في شهر العسل هذه ليست بالضرورة مسألة سياسية. ولكن نوعية الفندق حيث سيبقيان تبيّن أن المسألة سياسية تماما. جارتي العجوز عمرها 90 سنة تحبّ القهوة صباحا لكنها لا تدرك أن نوعية القهوة وجودتها لها علاقة كبيرة بالسياسة وبأسواق العالم وتقلباتها.
السياسة إذن "سلاح ذو حدين" - كما يقال - وهي بحر متلاطم متقلب. يمكنها أن تصير عامل قهر وظلم أو تكون مسألة تحرير ورفاهية. شأنها شأن كل ما يخص الانسان بالضبط كالدين الذي قد يؤدي استعماله إما للقمع أو للتحرير.
في القرن التاسع عشر كان يسود اعتقاد خاطئ لدى الماركسيين أن بالإمكان تغيير البشر والغاء الدين الذي هو في أساس التبعية والقمع بل قيل عنه "إن الدين أفيون الشعوب"، لكن بعد أقل من قرن على ذلك اكتشف الجميع أن الدين يمكن أن يكون هو أيضا عاملا من أجل التحرر. وكان فريدريك إنجلز (1820 - 1895) زميل كارل ماركس (الذي كتب كتاب رأس المال) قد وضع كتابا صغيرا يقول فيه إن المسيحية في بداياتها كانت في أساس الفكر الاشتراكي لكن هذا الكتاب لم يحض بالرواج الذي نالته كتب زميله، وباعتقادي نسي أمرا مهما وهو أن "النفس أمّارة بالسوء"، وأن الفرق بين المسيحية والاشتراكية هو أن الأولى تعالج النفس البشرية من الشر والخطيئة وهذا لم ولن تستطيع أي سياسة أن تعمله لعجزها في دخول الضمير!
عندما زار البابا فرنسيس دولة كوبا في أيلول 2015 قدّم له الرئيس السابق فيدل كاسترو نسخة من كتاب "فيدل والدين" حيث يتحدّث رئيس دولة شيوعية بإيجابية عن الدين. لكنه لا يختلف عن كل السياسيين الذين حشروا أنفسهم في الدين وهم غالبا ما يميلون إلى استغلال الدين وتسييسه عوض الاصغاء إلى دعوته العميقة بضرورة التخلي والتجرد والترقي، ناسين مبدأ قاله يسوع: "أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" (متى 22/21)، فالجمع بينهما وارضاؤهما يكاد يكون مستحيلا.
ومما يشير إلى هذه الصعوبة من أمثلة تثبت أن السياسة تحشر نفسها في كل شيء، مسألة من الأكثر إثارة للاهتمام تتعلق بأسماء أشهر السنة التي نستعملها كل يوم في عدد أشهر السنة، التي تقلبت وتغيرت بحسب أهواء "السياسيين"! فقد كانت السنة في زمن الرومان عشرة أشهر. لكن الإمبراطور يوليوس قيصر (100 ق.م – 44 ق.م) طلب من علماء الفلك في زمانه وقال لهم: "اخترعوا شهرا يكون فيه اسمي على شرفي". فوضعوا شهر تموز وأسموه يوليو. وعندما مات يوليوس قيصر خلفه الإمبراطور أوغسطس قيصر الذي غار من سلفه فطلب من علماء الفلك نفس الطلب وقال "إذا كان لدى يوليوس شهر مع اسمه، أستحق أنا أيضا واحدا مثله".
ولأن أوامر الإمبراطور هي إمبراطورية ولا أحد يريد أن يقطع رأسه. لذلك، أنشأوا شهر آب - أوغسطس. مع ذلك، ظهرت مشكلة زمنية في عدد الأيام في كل شهر، فهي في المتناوب منذ كانون الثاني يناير 31 يوما ويعقبه 30 يوما وإن كان لتموز - يوليو 31 يوما ليس من المعقول أن يكون آب - أغسطس أقل منه، لذا وضعوا 31 يوما لكل منهما. كيف حلوا هذه المسألة؟ مع طلب إمبراطوري. قام علماء الفلك بإزالة يوم من شهر شباط - فبراير.
قد لا يدرك الكثيرون أن السياسة هي في كل شيء، لكن ما يخص البشر لتنظيم الحياة في المجتمع لا يخلو من المفاجآت التي وراءها أمور السياسة.
في هذه الأيام لدى لقائي بكثير من الناس، خاصة الشباب منهم، أشعر باشمئزازهم من السياسة لأنك تسمعها وتراها مع جميع نشرات الأخبار السلبية منها خصوصا، التي تتحدث عن الفساد والسرقة والمجون والمحسوبية، فيقولون تفضل! ماذا نأمل من هؤلاء ألا يشعرك هذا بالتقزز من السياسة والسياسيين؟ وما يثير الانتباه هو التسارع، أي باتوا يصعدون بسرعة وينزلون بسرعة أكبر، مثل آنيه الناعور، تصعد مملوءة وتنزل فارغة، هذا إذا أبقت السياسة رأسهم على كتفهم! وهذه الخبرة لا تجعل الناس يتعظون، والحال ليس كل السياسيين سيئين، لكن الأغلبية لا يتعلمون من الماضي وهذا يجعل العاقل يشعر أكثر من أي شيء بالاشمئزاز جدا، ومن يمسك بمقاليد الأمور - ولو لفترة قصيرة - يتصور أنه يمكن أن يفعل ما يحلو له!
لدى انتخاب البابا يجتمع حوله الكرادلة ويأتون بإناء فيه أوراق التصويت له ويحرقونها أمامه ويقول له المتقدّم بين الكرادلة: "تذكر! هكذا يتبخر مجد العالم". فالذين صوتوا لك لم يعطوك صكا على بياض، لتسود، بل هنالك من سيحاسبك في اليوم الأخير.
لذلك ليس من حياد في السياسة. ما هو موجود هو فكرة خاطئة عن الحياد. لكن بطريقة ما، صوابا أو خطأ، والجميع يتدخل في السياسة منهم من لديه خبرة ويتعظ من الماضي ومنهم من يكرر الأخطاء.
بعد كل شيء، فإن أيا من السادة والسيدات الذين يشغلون مقاعد البرلمانات والوزارات جميعهم جاءوا من خلال أصوات المنتخبين الذين رفعوا الأصبع القرمزي بفخر ثم بعد مدة صرخوا ندمهم، والسبب هو في السياسة. لأننا نعيش في عالم حيث يتم التحكم في السياسة من قبل أقلية. والعراق ليس استثناء. وهذه قصة أخرى، تدعو إلى الإصلاح السياسي، وأن يحيط كل سياسي نفسه بمستشارين متجردين ينصحونه بصدق وليس بأصدقاء متزلفين يريدون اقتسام الكعكة، هذا إن بقي هنالك كعكة، بعد الافلاس ونزول أسعار النفط، والله يستر مما سيأتي!
كركوك 2016