كيف نفكّ رموز أنشودتنا السريانية الخالدة "امَّرْلي عيْتا" وما دورها في تاريخ ومستقبل كنيسة المشرق الكلدانية-الاشورية المجيدة
ليون برخو
جامعة يونشوبنك – السويد
جرى مؤخرا حوار مهم على صفحات هذا المنتدى حول أنشودة كنيستنا المشرقية المجيدة " امَّرْلي عيْتا" (أنظر الروابط ادناه).
بدأ النقاش عندما كتب الزميل مايكل سبي مقالا يستند فيه الى محاضرة من محاضرات المطران سرهد جمو التي يحاول فيها فكّ رموز هذه القصيدة السريانية الرائعة والتي ما هي الا واحدة من مئات ومئات الروائع الأخرى التي تضمها ثنايا حوذرتنا وطقوسنا المقدسة.
القراءة التي قدمها المطران جمو جديرة بالثناء بيد انها تبقى قراءة محددة تقبل الخطأ والصواب لأننا نتعامل مع نصّ قديم لا نعرف مؤلفه ومعلوماتنا شحيحة عن مكانه وزمانه وأسباب تأليفه وملحنه. وهذا شأن يرافقنا دائما كلما أردنا فكّ رموز تراثنا وطقسنا وآداب كنيستنا المجيدة التي تشكل ركنا مهما وحيويا وأساسيا من هويتنا الكنسية والقومية.
وأعقبه الزميل يوحنا بيداويد بمقال محاولا اماطة اللثام عن مؤلف هذه الرائعة التي لا تزال تأخذ بألباب الكلدان والأشوريين منذ تأليفها وتلحينها في زمن غابر حتى يومنا هذا.
وحسنا فعل الزميل بيداويد عندما صحح خطأه وأعترف انه من الصعوبة بمكان معرفة مؤلف القصيدة.
ليس من الصعوبة معرفة المؤلف وحسب بل من العسر ايضا، وفي غياب دليل مادي من التراث، ارجاعها بدقة الى زمان ومكان محدد من تاريخ كنيستنا المشرقية المجيدة المقدسة الجامعة.
كيف إذا بإمكاننا فكّ رموز هذه القصيدة السريانية الرائعة التي لا تزال تحتلنا، او بالأحرى الكثير منا، بمحتواها ومعانيها الكبيرة ولحنها الشجي؟
تحليل خطاب أي نصّ يستند الى عدة عوامل أساسية، أخص بالذكر منها حواريته ومن ثم مقارنته ومقاربته مع نصوص تقترب منه من حيث المضمون والأطر الخطابية وأخيرا الفكر او الفلسفة التي يحملها.
وبما أننا امام قصيدة مغناة فلا بد وان نعرج على اللحن وأدائه ايضا.
تقديم تحليل خطابي علمي وأكاديمي لأي نص ليس عملية سهلة. التحليل يستغرق وقتا طويلا ولن تسعه مساحة مقال مخصص لمنتدى او وسيلة إعلامية تقليدية.
مع ذلك أمل ان ما سأقدمه من تحليل مبسط ومختصر سيلقي بعض الضوء على رائعتنا هذه.
القصيدة هذه في الغالب كتبت قبل الفرز المذهبي الذي اتخذ منحى خطيرا في حوالي منتصف القرن التاسع عشر عندما صار كل شق ينظر الى الأخر بعين الريبة والشك والعداء.
وأمتد الفرز المذهبي الى النصوص حيث من النادر ان نرى نصا تم تأليفه بعد منتصف القرن التاسع عشر من قبل طرف يأخذ به الطرف الأخر.
إذا من الجائز القول إن القصيدة تعود الى فترة تسبق الفرز المذهبي.
نعرج على نظرية الحوارية dialogism التي وضع أسسها وأطرها فيلسوف علم اللغة والخطاب ميخائيل باختين.
هذا الفيلسوف الروسي العملاق يقول كل نص مهما كان عدد كلماته – حتى لو كان كلمة واحدة – يدخل في حوار دائم أولا مع نفسه وثانيا مع زمانه ومكانه وثالثا مع الفكر والفلسفة التي يحملها ورابعا مع متلقيه.
وأغلب الروائع الطقسية لكنيسة المشرق المجيدة لا سيما بعد تبنيها للفكر النير واللاهوت الحواري dialogic للقديس مار نسطوريس تمتاز بحوارية مذهلة.
بمعنى أخر اخذت كنيسة المشرق بعد استنادها الى فكر القديس مار نسطوريس تحاور النص او الحدث المقدس وتناقشه بأسلوب وحبكة لم وربما لن تمتلكها أي كنيسة أخرى.
وهذه الحوارية تتجلى بأبهى صورها في مار نرساي وكتاباته حيث يحاور الخالق والنص بشكل عجيب مدافعا عن الإنسان الضعيف الذي أساسا خلقه الله ضعيفا ومن ثم يناقش النص، أحيانا معاتبا وأحيانا غاضبا وأحيانا محاججا.
وهذا واضح في مياميره التي لا تزل تنشدها كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية في إطار الكنائس الملتزمة بالطقس. فمثلا يخاطب مار نرساي الله في أحد مداريشه ما معناه إن أنت غفرت لداود النبي الذي اقترف الزنى وقتل رجلا بريئا لماذا لا تغفر لي وذنبي لا يرقى الى ذلك.
إلا ان قصيدة "امَّرْلي عيْتا" تتسم بحوارية من نوع مختلف. حوارية مار نرساي في مياميره ذات بعد صوفي نابعة من محبة فائقة للخالق واندماج بين الخالق والمخلوق.
حوارية "امَّرْلي عيْتا" شأنها شأن حوارية قصائد مار نرساي الأخرى تحاور النص الإنجيلي بأسلوب بديع وخيال خصب إلا أنها تقف هناك دون الدخول في باب التصوف.
حوارية "امَّرْلي عيْتا" قريبة الشبه من نص اخر بديع لمار نرساي وهو قصيدة "شلاما عمخون" التي ترتل في مراسيم دفن الموتى وهي ثلاثية الحوارية triologic حيث يتحاور فيها الميت في الجناز مع الموتى في المقبرة وهناك أيضا صوت الكاتب (مار نرساي)
ولكن هناك فرق جوهري بينهما. قصيدة "شلاما عمخون" جزء من الطقس الجنائزي. لا علم لي إن كانت قصيدة "امَّرْلي عيْتا" جزءا من الطقس المعتمد كنسيا أي كصلاة فرض. قد يتحفنا أحد القراء المطلعين وينورنا في هذا المجال.
وقصيدة "امَّرْلي عيْتا" من وجهة نظري ممكن مقاربتها حواريا وخطابيا وفكريا وفلسفيا مع انشودة أخرى رائعة الا وهي "مشيحا ملكا دلعلمين" التي تتضمن في ثناياها أيضا حوارا مدهشا وعجيبا ونادرا بين العذراء مريم (وقد بلغ بها الكبر عتيا وهي على فراش الموت) وابنها المسيح قبل وفاتها حيث تطلب منه ان يرسل للتبرك والمعاينة كل من بطرس من روما ويوحنا من أفسس وتوما من الهند واداي من الرها. ويعدها المسيح انه سيرسلهم وسيقومون بحمل نعشها وزياحها. وهذه الأنشودة كانت شائعة في منطقة ارادن وترتل في عيد انتقال العذراء.
وهذه الحوارات كما هو الحال مع حوارية كنيستنا المشرقية المجيدة لا سبق لها في اطرها الخطابية والفكرية في الآداب الكنسية الأخرى – حسب معرفتي المتواضعة وفي اقل تقدير في الآداب التي انا مطلع عليها.
وأخيرا قصيدة "امَّرْلي عيْتا" لها لحن بديع وهي مؤشر على اننا سبقنا الأمم الأخرى في منطقتنا ليس فقط بآدابنا بل في موسيقانا. لحن القصيدة من نغم "الدشت" وأغلب الظن ان الأمم الأخرى اخذت هذا اللحن الشجي من عندنا.
والأن اترككم قرائي الكرام مع القصائد او الروائع الثلاث:
الأولى، "مشيحا ملكا دلعلمين" أداء المرحوم المطران اندراوس صنا وهو أداء من أبدع ما يكون:
http://www.chaldean.org.uk/4marandrasanamshehamalka.m4aالثانية، " امَّرْلي عيْتا":
https://www.youtube.com/watch?v=mWjL7cRAfp0الثالثة: "شلاما عمخون":
https://www.youtube.com/watch?v=_KK9dydnuEkوشكرا للزميلين مايكل سبي ويوحنا بيداويد لتطرقهما الى هذه القصيدة الرائعة، الأمر الذي حفزني على كتابة هذا المقال.
وأملي ان يتحفنا القراء الكرام بما يتم إنشاده حاليا من طقس كنيستنا المشرقية المجيدة من قبل الكلدان والأشوريين والذي يتم توثيقه في الشبكة العنكبوتية.
والحمد لله ورغم محاولات البعض للنيل من هذا التراث الذي لا يثمن والذي دونه ولغته نفقد هويتنا الكنيسة والقومية، أرى هناك بصيص أمل لإحيائه حيث تزداد يوما بعد يوم اعداد المنشدين والمعجبين بتراث وطقس وثقافة ولغة وآداب كنيستهم المشرقية المجيدة.
==========================
الروابط:
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,810769.0.htmlhttp://www.ankawa.org/vshare/view/9686/sarhad-gamo/http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,810818.0.html