المحرر موضوع: بمناسبة ذكرى النزوح الثانية بداية النهاية الخاتمة: مضطَهَدون ومتأصِلون في الرجاء  (زيارة 1122 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المونسـنيور بيوس قاشا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 238
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بمناسبة ذكرى النزوح الثانية

بداية النهاية
الخاتمة: مضطَهَدون ومتأصِلون في الرجاء

المونسنيور بيوس قاشا
في البدء
ها قد وصلنا إلى مسك الختام في مقالنا "بداية النهاية" بعد حلقتين متتاليتين
حملت الأولى عنواناً "اضطهاد وسؤال في المصير" والثانية "أصلاء ومستقبل في المجهول" وهاهي الخاتمة، خلاصة الحلقتين، تحمل عنواناً "مضطَهَدون ومتأصِلون في الرجاء"، ندرج كلماتها لفائدة القرّاء عبر نظرة لعلّها تكون في مسيرة الحقيقة وكشاهد لها، فالحياة ما هي إلا حقيقة المحبة التي تجسدت لأجلنا(غلا4:4) .وأرادَتنا أن نعتمذ باسمها فنكون شهوداً وشهداءَ ليس إلا!.
نعم هوذا الإجتياح الداعشي يدخل عامه الثالث في سهل نينوى، وفي الوقت نفسه يواصل فيه الإرهاب المزيد من جرائمه البشعة ومحاولاته المتوحشة لكسر إرادة العراقيين وتكريس جراحهم وارتكاب أبشع الانحرافات المدمِّرة ضدهم بعد أن خلّفت هذه الجرائم نتائج غير مسبوقة من القتل والتهجير والاختطاف وتدمير الممتلكات والاعتقال والسبي وإجبار المواطنين على تغيير إنتماءاتهم الدينية بما يُرضي نزعته البدائية الضالّة ونسف المعالم الآثارية الحضارية التي يتميز بها تراث وطننا.
نقول: إن الشرق الأوسط _ إنْ جاز القول _ يشهد احتلالاً من الأصوليين ومن الإرهاب، كما إن المسيحيين في الشرق يواجهون ما هو أخطر من التحديات، إنهم يواجهون أزمة وجود وحضور وضياع، فهل سيصبحون آثاراً أو بقايا أو ذكريات؟... هل تصبح كنائسهم خرباً وتُهدَم بمعول داعش والإرهاب؟... وهل ستسمّى كراسي كنائسنا إنهم على أنطاكيا وسائر الاغتراب أم بابل وسائر الشتات؟... هل سيرحمنا التاريخ حينما يقولون كانوا هنا، لقد مرّوا من هنا؟... وإنْ كانت هذه الحقائق مُرّة في حقيقتها وشؤم في مصيرها فهي حقيقة في واقعها، فمن هنا أقول: إن المسيحيين مسؤولون هم أولاً عن مصيرهم قبل كل شيء، هل يؤمنون بأن لديهم رسالة لشرقهم؟... هل هم مستعدون للتضحية أم أنّ قِبْلَتهم الجديدة والمزمَعَة هي الرحيل إلى الغرب وإلى الهجرة حيث أرض الله الواسعة؟، فيزداد القول الذي يؤكد بعدم انتماء المسيحي إلى شرقه وإن هذا الشرق لا يقدم له شيئاً، ففي بلده لا كرامة ولا حرية أو مساواة ولا حتى مستقبل، فقد أصبحنا أقلية وبات الخطر مضاعَفاً علينا من خلال تهجير مبرمج وعبر فرض الشريعة والتعاليم الإسلامية إرتدائياً لأثوابنا ولطبيعة أكلنا وشربنا وغيرها من الممارسات وكأننا نعيش أهل الذمّة.

في الماضي القريب
من المؤكَّد ومن دون شك أن الحملة العسكرية على العراق أدخلت شعوبنا وشعوب الشرق في مرحلة تاريخية جديدة أكثر سوءاً ومأسوية وبشكل خاص ومضاعَف على الأقليات المسيحية، فالاحتلال أجّج النزاعات والاحتقانات الطائفية والمذهبية والصراعات العرقية الكامنة بين شعوب المنطقة وداخل الدولة الواحدة، كما تنامت في ظل الاحتلال بشكل لافت ومخيف الإتجاهات الإسلامية المتشددة والتكفيرية وانتشار المنظمات الإرهابية، كما كان الاحتلال فرصة للإرهاب بدأ يقتل العشرات ويهجّر الآلاف من مسيحيي الموصل وسهل نينوى وكأنه استهداف منظَّم ومن غير أن يكونوا طرفاً في الصراعات المذهبية والطائفية، فهل هناك من وجود مخطط لإفراغ الوطن والشرق والمنطقة من المسيحيين بتعاون محلي وإقليمي ودولي وحاملين مبدأ على أن الصليبية ما هي إلا حملة على الإسلام والمسلمين بمساعدة بعض وسائل الإعلام والفضائيات العربية والإسلامية الرسمية والخاصة والتي أصبحت منبراً مفتوحاً لفقهاء الإرهاب والقتل ولتأجيج العِداء الآيديولوجي ضد المسيحيين؟، وقد أزاد في هذا الاضطهاد الدساتير وقوانين الدول العربية والإسلامية التي تهمّش المسيحيين وشعوبهم وتنتقص من حقوقهم وكأنهم رعايا وليسوا بمواطنين، وفي ذلك كله تتفاقم محنة المسيحيين المشرقيين وتغضّ النظر عن الأعمال الإرهابية ضد المسيحيين، وتساوم على حقوقهم مع قِوى المعارضة الإسلامية، وهذا ما جعل المسيحيين يدفعون أثماناً باهظة جرّاء الاحتلال.

الواقع والاضطهاد
لقد مرّ عامان على إاقتلاع شعبنا من أرض آبائه وأجداده في قرى ومدن سهل نينوى بعمل إجرامي شنيع بلغ درجة الإبادة العرقية والدينية إرتكبته زمر داعش الإرهابية الأجرامية ومثيلاته من المنظمات الإرهابية التي تكفّر الإنسان وكل كائن لا يدين بما تدين ولا يسلم بما تسلم به.
نعم، ونعم وصحيح، حلّ ما حلّ فينا بسبب داعش والإرهاب، ومن عامنا هذا حيث الذكرى الثانيةللنزوح البائس وبداية الكارثة بحق وحقيقة، بمآسيها وتبعاتها، ولا زالت تجرّ أذيال اليأس والقنوط حتى الساعة، كما ملكَ القدر الأسود على مسيرة الحياة مما جعلني أعيد ذكرياتي إلى ما حلّ بكنيسة سيدة النجاة وان كان بعض يغنّون باسمها، مصلحةً وجهاراً، ليس إلا!، أما نحن فلها محقّون وما كان إقتحامي إلا لإحصاء عدد الشهداء والضحايا والقتلى _وإلا كيف عرف الإعلام أعدادهم _وكأن الكارثة آنذاك كانت جرس إنذار وناقوس ميعاد لِمَا سيحلّ بالمسيحيين وبالمسكونة (متى26:21) من طرد واضطهاد، وقتل وتهجير، ونهب لأملاكهم، وسرقة لأموالهم، والاستيلاء على بيوتهم، كما تذكرتُ جيداً تلك المخطوطة التي قرأتُها _ وهي في حوزتي _ والتي تحكي بالوقائع والتفاصيل مذابح تركيا 1915، وما حلّ بهم أيام العصمليّة والإبادة العثمانية، وبعد مائة عام أُعيدت الإبادة _ وإنْ كانت الأولى لم يُحكَم عليها بعد _ وهذه المرة بتقنية فائقة وبمخطط شيطاني إجرامي بعلم كبار الزمن وتخطيط من أجل مصالح واهداف لا يدركها إلاّ صنّاع القرار، ويُراد بها رسم خريطة عراقنا والشرق، وأعادوا أعمال العنف والقتل والدمار والنهب والسلب والخطف وتصدير الأملاك وتحقير الكيان بـ "نون" نكرة ليسإلا، ولم نسمع إلا نداءات وبيانات واستنكارات من على المنابر وكما يقول المَثَل "زرعوا ليأكلوا هم"، فحصدونا ضحايا لهم والدول وقانونهم معطَّل بسبب مخططاتهم، وأصبحنا أداة لصنّاع السياسة ولمخططي خارطات الطرق الاستعمارية.
فراغ وضياع
إن عدم إدراكهم (المسيحيين) للمتغيرات الزمنية وتَجَدُّد شكل العالم وبقائهم شكلاً ومضموناً دون الإنتباه بحكم تغيير الأزمنة التي هي سُنّة المخلوقات بحيث أصبحت حكايات كبارنا وسياسيّينا ومدرائنا وكلماتهم ونصائحهم حديثاً فارغاً، مُملّة في آذان السامع، من كثرة تكرار مفرداتها خلال عشرين قرناً ولم ينتبهوا إلى مَن الذي يخاطبونه في كل مرحلة خلال هذا الزمن الطويل. هذا ما جعلنا نصل إلى حالة الفراغ والضياع والتساؤل: ما العمل ونحن نعاني سكرات الفناء بل الموت والنهاية والختم بحجر كبير (متى 64:27)، فنحن الآن قومٌ لا وجود لنا، وفي عالم سريع التغيير علينا أن نصحو ونبني الإرادة اللازمة لإعادة العليل إلى حالته الصحية، وهذا لن يتم إلا بقطع حبل السُرّة مع الإدارات الفاسدة والحركات والأحزاب الغير المدركة لحقيقة الوطن، وغير المهتمة للشؤون الحياتية لأبناء قومنا والسهر على مصالحهم، وذلك في التحرر من عباءة الإتّكاليين الذين يعتبرون أنفسهم آلهة الزمن وهم ساسة فاسدون، يشترون مناصبهم بحيل ماكرة ومحسوبية مزيَّفة وعنهم كبارنا يبرقون، والطاعة هنا واجب وخنوع، فهم يرون أن قوتهم في غيرهم أو في محتلّهم، والحقيقة هي غير ذلك. فالتعامل بالضمير ليس تعامل المنصّات والمنابر والتهديد والوعيد،وفضح الآخرين وتشويه سمعتهم برسائل لا تليق بمرسليها مكانةً وإدارةً ومركزاً، إنهم فاشلون،وليسوا إلا صوتاً مزّيفاً، عكس يوحنا، فيوحنا كان صوتاً صارخاً في البرية (مر3:1) حيث الصدى إلى مدى غير محدود عكس الأصوات العاكسة من على المنابر.إنها تحولات مرعبة... فما هي القراءة لدى مَن يَدّعون تمثيلنا من مدنيين ودينيين لهذه التحولات على مجمل الساحة الدولية كما في المنطقة عامة؟.لنتعلم ونقول إنه لا يجوز إدانات فقط ولا عدم الإكتفاء بالمناشدة بل بالضغط وبجميع الوسائل السلمية عشائرياً ومحلياً ودولياً بإيقاف كافة المساعدات المالية والعسكرية لتنظيم داعش وسائر التنظيمات الإرهابية والأصولية، وإيجاد طرق حاذقة للوصول إلى مركز القرار لإحقاق حق شعبنا المظلوم ومناشدة الدول الإسلامية إلى عدم تشجيع التيارات الإرهابية والدينية التكفيرية والتي تنادي بالجهاد وتجعل الدين رأس حربة لقتل الآخر المختلف، وتدعوهم بالكفّار، وتفرض عليهم الجزية أو الانتماء أو القتل أو يكونوا من أهل الذمّة لديهم.
لذاعلينا أن نرفض هذه المهازل عن طريق جعل المطالبة بحقوقنا الوطنية قبل القومية والدينية هدفنا جميعاً، حتى وإنْ اختلفت نظرة أحدنا إلى المفهوم الوطني والقومي عن الآخر في هذه المرحلة الحرجة خصوصاً لأن مسألة وجودنا أصبحت على المحكّ.لنحدّد مواقفنا ولا نحافظ على عروشنا،لنعرف جيداً أننا ننتمي إلى وطن وليس إلى طائفة أو دين.نحن اليوم لا نحتاج إلى التفاعل العاطفي وكيف إذا كان صوت المؤمن هو صوت الحقيقة!.من المؤسف أن نبيع الوطن أو لا يكون لنا دور وكأننا من المتفرجين.إننا نحتاج إلى مشروع مسيحي ولكن غياب هذا المشروع جعلنا بلا قرار، لذا لا يمكن لمسيحيي الشرق أن يبقوا ساكتين وصامتين، ولا نريد أن نجابه العنف بالعنف، نريد أن نعيش مواطنين متساوين بالحقوق، فنحن هذه بلداننا مع إخواننا ونحن حرّاسها، نحن بُناة حضارة المحبة والحياة.

البقاء في الوطن
نعم،أمام ما يحصل يجب أن لا نسكت...أين صرختنا بل أين صرخاتنا؟... هل لم يكن ممكناً أن نكون شبيهين بسيدة الأيزيدية فيان الدخيل ونوصل صوتنا بل نجعل من أصواتنا ترنّ في المحافل الدولية وقضايا الأمم المتحدة، كما فعلت فأوصلت صوتها إلى العالم؟... لذا أسأل: هل أصبح صوتنا خافتاً بين الناس؟... فإنْ خَفَتتْ أصواتنا فأين صوت المهتمين بشؤوننا، الذين يُدعوَن، أنهم لشعبنا وللشعوب الأصيلة، بينما الحقيقة لا يفقهون منها نقطة،ولا يعرفوا إلا غاياتهم ومصالحهم، فهم لا يفهمون في السياسة علمها،ولا يحملون إلا عناوين فارغة؟... كما أسأل:أين دمعتنا من هذه الأحداث الأليمة التي تدعونا إلى التعمق في فهم وعيش إيماننا المسيحي لكي نزيل من قلوبنا وعقولنا كل الهواجس والمخاوف؟... ولابدّ لهذه الأحداث من أن تدفعنا إلى وقفة ضمير وتضامن مع إخواننا المعذَّبين والمضطَهَدين، فلا يمكننا أن نسكت عن هذه الجرائم بحق شعوبنا، ولا يمكن أن نمرّ على قصة لاجئ وكأن شيئاً لم يحصل، ولا يمكن أن نغرق في بحر اللامبالاة... نعم، عدم السكوت وتوظيف القِوى عما يحدث والأخطر أن كثيرين منهم أصبحوا غير مبالين لما تقوم به داعش،كما أن كثير من المسيحيين هاجروا إلى الخارج وأصبحوا ضحية داعش مرتين، مرة عندما هاجروا ومرة ثانية عندما يمرّون على الخبر مرور الكِرام، والحقيقة الأشد خطراً بل فشل ذريع هو أن يتخلى المسيحيون عن رسالتهم وشهاداتهم التي يمكن إيجازها بحمل الصليب في سبيل بقائهم، لذلك على المسيحيين التمسك بالإيمان والرجاء والمحبة والصبر حتى تنقضي هذه الأيام السوداء. فالمسيحية لن تزول إذا أراد لها المسيحيون ألا تزول،والمخطط في ذهننا، هو ضعفنا، هو المخطط بعينه. عدم ثقتنا بذاتنا وبسبب ما نعيشه في طائفية ومحسوبية القشور مبتعدين عن مسيحيتنا، أن يتصرف رجالنا وكبارنا بأنانية تجاه  بعضهم البعض لغايات في العدد والأغلبية، والحقيقة أن المسيح ربّنا علّمنا عكس ذلك تماماً.

الإرشاد الرسولي
وفي العودة إلى الإرشاد الرسولي نتساءل:أين نحن من الإرشاد؟... ألم يفهم شعبنا ماذا يعني الإرشاد ولماذا وُقِّع قبل أحداث كنيسة سيدة النجاة؟... أليس ذلك رسالة سماوية إيمانية لشعوب منطقة الشرق الأوسط لكي يتهيئوا لمسيرة قاسية ولتجربة إيمانية كعاصفة البحر التي حلّت بالرسل (لو22:8).ففي الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2012، وبمناسبة احتفال الكنيسة الجامعة بعيد ارتفاع الصليب المقدس، سلّم قداسة البابا بندكتس السادس عشر وثيقة الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط _ والذي حمل عنواناً "شركة وشهادة" _ في احتفال مهيب أُقيم في بيروت، وحمل الإرشاد إلى مسيحيي الشرق مخطَّطاً إيمانياً داعياً إياهم إلى التمسك بالأرض وعيش الرجاء، في إبعاد اليأس مهما كانت طريق الزمن قاسية، كما ناشد الإرشاد المسيحيين وحثَّهم على البقاء في الوطن وعدم بيع الأملاك (فقرة 32)، وأكّد حقيقة الألم والاضطهاد:"يشعر المسيحيون بنوع خاص في هذا الشرق بأنه شرق تقييدي وعنيف، ويجدون (أي المسيحيون) أنفسهم غالباً في موقف دقيق بشيء من الإحباط وفقدان الأمل، بسبب الصراعات وحالات الغموض. كما يشعرون بالمهانة، ويعلمون أنهم ضحية محتملة لأي اضطرابات قد تقع" (فقرة 31)، وأيضاً:"الشرق الأوسط بدون أو حتى بعدد ضئيل من المسيحيين ليس الشرق الأوسط، لأن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة للمنطقة. فالجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله" (فقرة 31)، وأيضاً:"إن الشهادة المسيحية أولى أشكال الرسالة، وهي جزء من دعوة الكنيسة الأصيلة" (فقرة 66)، و"سيبارك الله سيرتكم وسيهبكم روحه لمواجهة التعب اليومي، "لأنه حيث يكون روح الرب تكون الحرية"" (2كو17:3) (فقرة 36).
     الكنيسة ومهمتها
للكنيسة مهمة واحدة وهي ربط كل شيء بالمسيح. نعم،لقد لعبت الكنيسة برجالها وكهنتها وعلمانييها دوراً رائداً أمام الأحداث الأليمة التي أحاطتها من حولها فكانت هي الملجأ الأول للكل، وكان حضورها فاعلاً وواضحاً وثابتاً. فتحت أبوابها للاجئين والجائعين، للمتألمين والجرحى، وتحولت قاعاتها لمنامات وعيادات ومستشفى للاعتناء بالمرضى، وفي وسط كل هذا التهديد والضغط الشديد وقفت سنداً وعاموداً ثابتاً للشعب المؤمن محاوِلَةً تشديد عزمه وتثبيت أقدامه على أرضه، محافظةً على الإرث المسيحي بكل صمود ومحبة.ولكن مهما كان الدور كبيراً فالمأساة لا توصَف والكارثة التي حلّت لا تُقاس إلا بمعيار الإبادة وقتل الشعوب البريئة وخاصة أمام التحولات التي يشهدها العراق والمنطقة والتي إنسحبت على الكنيسة، وكذلك بسبب نزيف الهجرة إلى بلدان الانتشار المختلفة وتحديات التشتت والتبعثر والذوبان، كلها تشكّل خطراً على وحدة الكنيسة وحضورها وأمام وسائل الاتصال الاجتماعي والتي قلبت القِيَم. هذا الوضع المعقَّد والمتنوع لا يمكن تجاهله أو المرور عليه مرور الكرام، إنما يتطلب دراسة وتحليلاً لتقديم رؤية واضحة وبرنامج عمل منهجي لمستقبل الكنيسة.وللوصول إلى رؤية واضحة ومعالجات عملية بعيداً عن العقلية الإتكالية، ولا يجوز الجلوس في أماكننا نراقب وننتظر، والمنطقة تغلي وتزحف نحو مستقبل مجهول الملامح في النظر القريب وربما إلى ضياع وانقسام في النظر البعيد.نتغلب على أنفسنا ونكفّ عن تقطيع بعضنا البعض، ومَن لا يستطيع فعل شيء في هذا المجال عليه أن لا يكون حجر عثرة في طريق مَن بإمكانه العمل من أجل وحدة ومصلحة شعبنا المظلوم والإصطفاف معه إن كان شخصاً مستقلاً، حزباً أو حركةًأو تجمعاً سياسياً، رجل دين، منظمات إنسانية واجتماعية أو غيرها، فالتاريخ أمين ولا يوجد في التاريخ إلا مَن يدخل التاريخ.

بندكتس ورسالته
حاول قداسة البابا بندكتس السادس عشر في رسالته "خلصنا في الرجاء" والتي أصدرها عام 2008 على إظهار المسيحية على أنها دين مبني على الرجاء، وقد أعطى أمثلة عديدة من الكتاب المقدس ومن حياة الكنيسة ليؤكد على أنه مهما اشتد الظلم والاضطهاد، ومهما تعاظمت شكوك الإنسان وهمومه، يبقى لنا الرجاء بالخلاص، فالمسيح نال الخلاص من أجلنا ونحن لا نزال نرجو ثمرات هذا الخلاص في الحياة الأبدية.
نعم، عاش المسيحيون إيمانهم الملئ بالرجاء منذ عصر الاضطهادات وعلى مرّ العصور لأنهم يعرفون أنهم يمتلكون خيرات أفضل من الخيرات الآنية، لذلك كانوا قادرين على ترك كل شيء لأنهم وجدوا أساساً لحياتهم، أساساً باقياً لا يستطيع أحد أن ينزعه منهم، وإيماننا يرتكز على هذا الرجاء الذي حمله إلينا الإله _ الإنسان. من المؤكد أن الله موجود رغم الألم والشر، ويقيننا أن لا شرّ يدوم ولا ألم يبقى سوى الله ومحبته، فالتجسد مجّد ذاته وسط كثير من الألم وأرض تئنّ من قتل عشرات من أطفال بيت لحم حينها، بحد ذاته دليل على حضور الله في الألم، وتكتمل المسيرة بالصلب والموت، ولا تنتهي بل تبدأ بتحول جذري بالقيامة وتبدأ مسيرة ليست بجديدة بل مكمّلة لها وبلا نهاية، وكما قال أحد الكتّاب:"لا أعرف الجواب لمعضلة الشر ولكني أعرف المحبة".

     الكاردينال بورك
اعتبر الكاردينال ريمون بورك الأمريكي في 25 أيار 2016، أن الشهادة هي الردّ على تدهور وضع الكنيسة والعالم!.تحدث الكاردينال بورك، خلال منتدى روما من أجل الحياة، عن الاقتراف المحتَمَل للأخطاء من داخل الكنيسة بشأن حقائق العقيدة والأخلاق داعياً المطارنة إلى "فهم الحاجة الطارئة إلى التعبير بوضوح وشجاعة عن حقائق الإيمان"، وأضاف: أنه على المسيحيين أن يكونوا جاهزين للشهادة محبةً بالمسيح وكنيسته.وعبّر عن قلقه بشأن هذا المنظور المتمحور حول الانسان والعالم خاصةً داخل الكنيسة مما يؤدي بالبعض إلى الإمتثال للواقع الموضوعي لنعمة الزواج على اعتبارها مثالاً بسيطاً نسعى إلى الإمتثال له. قد تأخذ الشهادة أشكال مختلفة: شهادة الدم لكن أيضاً الاضطهاد الذي يمنع المسيحيين من ممارسة إيمانهم. لكن شهادة الاضطهاد ليست سوى مشاركة في آلام ربنا يسوع المسيح وهي بالتالي تعطي فرحاً أعمق للمسيحيين بغض النظر عن الألم، ويضيف:"إن الكاثوليك مدعوّون اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، إلى الدفاع عن الحقيقة التي يعلّمنا إياها يسوع حتى ولو نتج عن ذلكخسارة الممتلكات والمضايقة والسجن. لا يسعنا سوى أن نبقى أوفياء لربنا يسوع المسيح وللحقيقة التي ينقلها من خلال كنيسته المقدسة مهما كانت الآلام ومهما بلغت حدة الاضطهاد الذي يتربّص بنا".

حقي وجودي
من حقي أن أسأل: حتى ما نكون أرقاماً هزيلة؟... أفي بلدي أكون نازحاً، لاجئاً مهجَّراً أنا المسيحي ابن هذه الأرض الطيبة التي رويتُها بدمائي وعرقي، وعملتُ فيها بسواعدي وفكري، وسرتُ فيها شامخاً متكبّراً بألوان رايتها؟... أليس ذلك من حقي وحق حريتي أن أكون رايةً وحقيقةً، شاهداً ومؤمناً؟... أليس من حقي أن أدافع عن وجودي بصوتٍ مُحب وأيادٍ ضارعة وصلاةٍ خاشعة لأعلن معنى وجودي وإلا عبثاً أنا هنا؟... فأنا لستُ عبداً لكلماتِ دستورٍ ينكر وجودي، ولستُ خانعاً وخاضعاً لإراداتٍ تسلب حريتي وأموالي وأطفالي، وأنا لستُ إلا أصلاً وأصالةً، عمقاً وقلباً، فكراً ورسالةً، حضارةً وتراثاً، فمهما باعوا الحقيقة من أجل كراسي الزمن ومتاعب الدنيا. فالحقيقة علامة وليست بضاعة وإنْ كانت تباع اليوم في سوق النخاسة ويشتريها مَن يملك مالاً وعبيداً وجاريات ومن الحَسَب والنسب والقربى، وفي ذلك يصنعون إرادتهم ويتبعون أنانيتهم ويرفعون علامة كبريائهم من أجل تدمير الآخر المختلف عنهم فكراً وعقيدةً وحواراً، فهم في عملهم يحقدون، وفي فكرهم يقتلون، وفي حوارهم يفرضون ليس إلا!، وكأن السماء قد سُبيت إليهم كما بيع يوسف(تك37) في الأزمنة الغابرة، وما تلك إلا جريمة إبادة بمعناها الإجتماعي والإنساني، أما أنا سأبقى أنشد هويتي واعتزازي ببلدي وبأرضه رسالة وجودي وعراقيتي... فالرافدان شاهدان، وحمورابي وشريعته قاضٍ يعلن حكم الحقيقة، وسأبقى أحضن ترابي ووطني وأحمل مشعل إيماني، وما ذلك إلا رسالة الحقيقة، وهذه رايتي ليس إلا، مؤمناً أن الرب معنا حتى الموت. وسأقول هنا: إذا كنّا لا نؤمن بتاريخ آبائنا وأجدادنا فقد أضعنا الحقيقة، ألم يكتبوا لنا لنقرأ ونفهم ونحيا؟... فنحن لم ولن نكون سرّاقاً للحواسم أو إرهابيينَ للجواسم.
ألا يخجل الإسلام الأصولي عندما يقولون إنهم مسلمون والإسلام مصدر شريعتهم؟... عن أية شريعة يتكلمون أمام جرائم داعش؟... أوأية شريعة يطبّقون وأبناء الوطن مشرَّدون في الشوارع؟...إرحموا العراق الجريح وشعبه، لنسأل سبحانه وتعالى هل منح لنا شريعة تفرقنا أم حقيقة تجمعنا؟... هل أرادنا سيوفاً وحراباً ثم خراباً ودماراً أم أرادنا غصناً وزيتوناً؟...ألم نعلم أن هذه الآلات ماهي إلا لقائين(تك4) ولهيرودس(متى 17:2-18)، وللمحاربين الفاشلين الذين لا يدركون سموّ الحوار، الذين يقتلون الأبرياء من أجل كبريائهم وغزواتهم.

     مرة أخرى
قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ وعبر الإرشاد الرسولي _ يضعنا اليوم ، كما وضعنا بالأمس ، أمام مسؤوليات الإيمان التي استلمناها من جرن العماد، وَوَسَمت وجوهنا بميرون مقدس، لنكون جنوداً أوفياء من أجل كنائسنا، من أجل تثبيت وتقوية هويتنا المسيحية، فنرى الرؤيا الواضحة عن معنى حضورنا ووجودنا وتقاسمنا للحياة. نعم، لنمشِ على دروب الشهادة التي سلكها المسيحيون في بلادنا الشرقية، وفي ذلك يشجعنا قداسته وجماعاتنا المسيحية كي نظلّ متجذرين في أرض أجدادنا في شراكة القلب والنفس مع جميع المؤمنين المعمَّذين، ليس فقط أمانةً وحفاظاً على الوجود والهوية والتراث، بل أيضاً كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة والإستشهاد، وقد تميز بها عبر قرون عديدة حضور المسيحيين في الشرق، وما أجمله من كلام.،بل طوبى لِمَن يدرك معناه.
نعم،إن غياب الصوت المسيحي ووجوده سبّب في افتقار المجتمعات وخسارةً للتعددية التي تميّزت بها بلدان الشرق الأوسط. نعم، لنفتح أبواب قلوبنا وكنائسنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً، ولنفتح الأبواب ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشركة والشهادة والتواضع، فالكنيسة هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟... إنها مبنية على صخرة البشارة وعمرها ألفين عاماً، لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه أرث الكنيسة جمعاء. فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق ولنرى الأيام، إنها أفضل مستشار، فلنأخذ خوذة الخلاص (أفسس 17:6) و"سيف الروح الذي هو كلمة الله" (17:6) من أجل الإعلان جهاراً بسرّ الإنجيل الذي لأجله نحن سفراء بدلاً من سماع دقات ناقوس الخطر بل الفشل في الإيمان للصمود في الرجاء... وهذه هي البشارة الجديدة.

في الختام
ختاماً، الكنيسة مع الوطن ومع كل مواطن، وهي ليست لحاكم أو نظام، مرتفعة فوق الجميع من أجل خدمة الجميع وليس لخدمة بعض منّا، ومَن هَوَتهم أفئدتنا من أجل مصالحنا، أصيلة وقديمة قِدَم التاريخ بل ومن قبله... هذا هو عالمنا اليوم، فأين نحن من فهمه؟. نحن لسنا هنا لندغدغ العواطف ونضحك بوجوه الفاسدين تمليقاً وكذباً ورياءً ومصلحةً، ونقدّسهم في صفوفنا وديارنا ومعابدنا، وفي أول السطور نُجلسهم ونجالسهم وكأنهم أمراء ديرتنا وعندهم تكمن مصالحنا وملء بطوننا بأموال ليست أموالهم ونحن لهم خانعون، وننسى إن شعبنا لا زال يئنّ في بستان الزيتون، والإرهاب _ ولسان حالنا يقول:إنْ كان مستطاع أطرد الداعش والإرهاب والحاكم الفاسد ومدراء السرقات وأصحاب المصالح والغزوات، ولكن "لا مشيئتنا بل إرادتك" (لو42:22)، " ولا مشيئة النزاهة بل حقيقة عدالتك" ، فنحن نؤمن بما يقول ربنا:" ليس خفيّ إلا سيظهر ولا مكتومٌ إلا سيُعلَن" (مر22:4). فما نحتاج إليه اليوم  هو مشروع مسيحي، ولكن غياب هذا المشروع جعلنا بلا قرار، وهذه الأحداث ما هي إلا مناسبة لنعيد قراءة حياتنا المسيحية ونكتشف أن هذا الليل المظلم الذي نعيشه سيعبر لا محالة، وإن السلام والأمان سيعمّان على هذه الأرض طالما أن إيماننا يرتكز على شخص السيد المسيح، إيماناً مبنياً على الرجاء، ورجاءاً يتحقق فيه الخلاص، فالمسيح هو رجاؤنا،ورجاءنا فيه لا يخيب، فقد قال في إنجيله المقدس:"ها أنا معكم حتى انقضاء الدهر" (متى20:28)، وأيضاً "إرفعوا رؤوسكم فإنّ خلاصكم قد دنا" (لو28:21).
أكيد إن فجر القيامة قادم لا ريب فيه، فلا الحقيقة إلا وتُبان، وأكيد سيعود أبناؤنا إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم عبر ضمانات قوية ودولية ووطنية لصيانة أمنهم وكرامتهم وإرادتهم في الحياة الحُرّة ضمن فضاء الوطن. فلنشدّ على أيادي شعبنا، ونحثّه على إبقاء جذوة الرجاء، ولابدّ لليل أن ينجلي ويبزغ فجر العودة عمّا قريب، فنحن نثق ملء الثقة بوعد الرب بأن يبقى وسط كنيسته فلا تتزعزع أبداً... فلا تفقدوا إيمانكم، بل تشجّعوا وتشدّدوا ثابتين في الرب يسوع القائل:"لا تخافوا، ثقوا إني غلبتُ العالم" (يو33:16).فالرسل وأباؤنا أُضطهدوا بالأمس واليوم نحن بدورنا ، ولكن الحقيقة تبقى أننا ثابتون في الرجاء فمهما قامت به الجماعات الأصولية الداعشية،  من تدمير وهدم لكنائسنا واديرتنا ، وسلبت أملاك أبناء شعبنا ومقتنياتهم ناشرة ظلامَ الموت والدمار، وطردتنا من قرانا ومدننا، سنبقى ثابتين في أرضنا ،ومتأصلين في وطننا ، في الرجاء ، ليس في هذه الدنيا فقط ، بل بيسوع المسيح ، القائل:"لا تخافوا، ثقوا إني غلبتُ العالم" (يو33:16) وشكرا للقراء الأعزاء الذين رافقوني في مسيرة المقال حتى الختام. نعم وامين .