المحرر موضوع: مقهى عبد ننه ... قراءة في تأريخ مدينة يسكنها وهج السياسة ويتقاذفها التاريخ..  (زيارة 639 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل الدكتور عباس علي العلي

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 1
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي

 بقلم الدكتور عباس علي العلي

ذياب مهدي غلام كاتب تأريخ سياسي بالفطرة شاعر يرسم الكلمات بطعم سياسي فنان ورياضي شاركته بعض الأيام في سجل تأريخنا العبثي جنودا في شرق البصرة وشمالها، ولم تكن بيننا معرفة سوى أننا أكباش فداء لمشروع موت مؤجل في حضرة وطن مزقته الأيديولوجيا القذرة، كما مزقت وجوده صراعات التاريخ وحقد الجغرافيا.... أفترقنا لنلتقي على أطراف الصدف مرة هنا ومرة هناك حتى أختفت أثارنا معا بطريقة عادة ما تكون هي الناموس الطبيعي لجل ومعظم العلاقات الإنسانية في وطن يتسلى به الموت والغياب والتغييب وكأنها فروض واجبة التنفيذ...... في عام 2014 وفجأة وبدون مقدمات ألقيت القبض على ذاكرتي فأمسكت به متلبسا بالحب على صفحتي الشخصية في الفيس بوك ... وكان عيدي الأكبر ذياب أل غلام رفيقي الذي منحني حق التجديد في ذاكرتي المتعبة بصور ما كان في أيام الموت المجاني.
وصلني الكتاب من شخصية أخرى قد لا أكون رافقتها بقدر ما رافقت وأحببت ذياب ال غلام ولكنهما شريكان في هذا السفر التاريخي، عبد الجبار رضا عبد ننه العلي، شريكي في اللقب وأحد الذين تعلمت منهم أن الوطنية لا تعني أن عليك أن تحمل شعاراتك في الشوارع والدروب لتشهد لك عند الأمير، بل عليك أن تحمل الوطن قبل ذلك في قلبك وأنت تتظاهر داخل هذا القلب ليتعود على حب الوطن والتضحية من أجله، أبو شاذل المعلم الكبير والتربوي الذي خرج أجيالا من الشباب الذين صاروا اليوم أعمدة في المجتمع ما زال ذلك الأبن البار لرضا عبد ننه أو رضا العلي محور الكثير من الصور التاريخية التي صاغها الكاتب عن حياة النجف السياسية والثقافية والأدبية والرياضية برمزيتها ورموزها.
أحيانا يكتب التأريخ على أنه حدث يجري ضمن منظومة حتمية نتيجة لمقدمات ومعطيات ومبادئ وكأنما الإنسان صاحب الحدث والحديث مجرد بيدق بيد الظروف، أخرون يرون أن التاريخ هو سجل لوجود الإنسان بخطيئته وإبداعه مهما كان، البعض يرى في التاريخ شهادة حسن سلوك للبعض وشهادة سوء حظ وتصرف للبعض، ويقال أن التاريخ دوما هو لسان حال الأحياء أما الأموات فتأريخهم جزء مما يدفن معهم، فلا الأحياء ينسون أريخهم ولا الأموات يتذكرون شيئا، الرائع ذباب أحضر الجميع في النجف وأعادة تمثيل المشهد التأريخي وسمح للجميع أحياء وأموات أن يخرجوا أوراقهم ليسجلوا ذاكرة مدينة صنعت تأريخها برجالها ومناضليها وقادتها أضافة لبسطاء المدينة، لأت التاريخ عند الكاتب هوية كاملة فيها كل ما يجب لأن تكتمل الصورة قريبا من الحقيقة أو مطابقة لها دون تزييف.
ولأني لست نجفيا أصيلا ولا من العمر الذي يؤهلني لتذكر الشخوص والأمكنة والأحداث التي يسردها الكاتب فقد وصلاتي الصورة وكأنها بانوراما حقيقية متجسدة بكل فعلها وأنفعالاتها وأحداثها، وهذا المنهج الذي أختاره في الكتابة دون أن يصدر أحكام أو ينقاد لنتائج محددة سلفا يحسب للكاتب وللكتاب وللمصادر التي أعتمدها في تدوين تأريخية الحدث وأخراج الرواية التاريخية عن ما ترمز مقهى عبد ننه من روحية نجفية بأمتياز وما كانت تملكه من قدرة على تحريك الأحداق مع رموز مكانية أخرى، مقهى أبو البسامير الأطراف الأربعة الرابطة الأدبية وما حول المدينة القديمة وهي تتخلص من أسوارها التأريخية نحو التجدد والتجديد.
رحلة الكتاب تبدأ من ذكريات البعض عن النجف أو عن بعض الأحداث التي شكلت شخصية الكاتب وعبر بها عن نفسه، وكأنه يسرد علينا بعض ملامح نشأته الفكرية والثقافية التي عاصر فيها العصر الذهبي لمقهى عبد ننه، ويستعرض أيضا فيها بعض ما كان يؤرخ به عن علاقة صاحب المقهى بالنضال الوطني للكثير من رجالات السياسة والفكر والادب ورجال القانون والقضاء وكبار رجالات النجف، المدينة التي تتميز بطابعها التجاري المرتبط بالخدمات التي تقدم للوافدين إليها لزيارة مرقد الإمام علي، والذي من المفترض أن تتحول وكما هي الصفة الغالبة إلى مدينة محافظة وذات طابع مختلف عن بقية المدن العراقية، لكن الملفت للنظر أن المدينة خارج أسوار الحضرة العلوية تختلف كليا عما هو المتصور أو المفترض فيها، مدينة تتعامل بالسياسة والثقافة والفنون والرياضة ومختلف أوجه الحياة الأجتماعية المعاصرة بتفرد، حتى كادت أن تتحول إلى مدينة بعنوان أخر مدنية سياسية متمردة تقود العراق للمدنية العلمانية.
في الفصول اللاحقة في الكتاب يستعرض الكاب أحداث سياسية مهمة صنعت التأريخ العراقي بأحداثها وأشخاصها وعلاقتها بالمكان الذي أنخذ من المقهى رمزية للصورة التي يعكسها التاريخ لمدينة النجف، من قضية أنصار السلام إلى دور المدينة في الأنتصار لمصر 56 ودور المقهى في صياغة واقع سياسي أرتبط بها وأرتبطت بها، مقترنة هذه الأحداث بشهادات لبعض من عاش أو شارك في الأحداث أو في تحريكها أو صنعها، وصولا إلى ما سماه الكاتب أنتفاضة النجف، منبها لدور المكان تحديد المقهى في نشوء مسرح فن الأخباري" الذي قال عنه في ص 41 الذي شهدته النجف رائدة له من دون مدن العراق تحديدا بداية عام 1910 ((وهي نمر تمثيلية فطرية ساخرة تقدم أرتجالا، لها قواعده وتقاليدها في الصنعة، كانت تقدم في الأسواق والشوارع، من جماعة من الأهالي، هواة من غير محترفين، يختارون حدثا أنيا ما في المدينة، يعيدون تشخيص هذا الحدث اليومي المختار بشكل هزلي ساخر مبالغ فيه))، ليؤكد الكاتب فيها أن المدينة كانت تنبض بالحياة المدنية خارج المألوف والمعروف عنها للوهلة الأولى، وهذا الأمر كثير ما يجهله القراء وخاصة من يعش النجف وأيامها، أو يقرأ تأريخ النجف عن بعض الكتابات التي تناولت الوجه الأخر لها الوجه الديني والكهنوتي.
ينتهي الجزء الأول من الكتاب بعد أن يستعرض الكاتب بشكل سريع وموجز بعد الشهادات الشخصية إلى مسألة مهمة هي الوعي النجفي المبكر وصدى الصحافة والصحافيين والفن والفنانين ثم إلى قضية الفصل بيم السياسة والدين في مداولات الفكر اليومي داخل المقهى حتى تحول إلى شعار لها، ليعني شعار لما سماه ببحث مختصر (هذه مدينتي) ليسرد بقية مواضيع فرعية رابطها الكلي قضية دور المقهى في صياغة مفاهيمها، ليرسى بنا هذه المرة في عنوان مكاني أخر هو دار والده مهدي محسن أل غلام ويرسم سيرة حياة له ولأسرته في رحلة العودة من الشامية للنجف وانتقاله للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في وزيرية بغداد، ليسجل جزء من تاريخ سيرة وسيرة تاريخ له أيضا.
تتوالى فصول الكتاب اللاحقة بعناوين متفرقة ومتنوعة تشكل للقارئ صورة عن النجف الواقع والحقيقية، النجف المجتمع الوثائقي الذي ينقله ذياب أل غلام بمهارة فنية سريعة كومضات متلاحقة تجعل القارئ يركض ورائها ليكتشف عالم جميل، عالم ملئ بالحركة والجمال والحدث والفن والمدنية، من ظرافة حسين قسام النجفي لأحداث تموز 1958 وزيارة الزعيم عبد الكريم قاسم لمدينتي كربلاء والنجف والمعاني السياسية من وراء الزيارة، ليستعرض أيضا بعض الذكريات عن ومن رواد المقهى مستعرضا في بحث منفرد عن محامون نجفيون رواد المقهى وكتاب وشعراء وشخصيات ارتبط وجودها أو بعض حضورها في المقهى أو تعلق بها مثل خباط الفرفوري لينهي تقريبا رحلة الكتاب لفتة مهمة هي حوارية مع زوجة المناضل والرياضي وابن السيد عبد ننه المرحوم رضا العلي أم الأستاذ جبار العلي الشخصية التي حافظت في تأريخها النضالي على إرث المقهى وصاحبها ومنهج وطني أختطته للمدينة وللناس.
ختم الكاتب في بادرة طيبة منه أن جعل مسكها مدارات يكتبها الأستاذ جبار العلي حفيد الحاج عبد ننه وأبن القطب النضالي رضا العلي يكشف فيها جوانب مهمة على صفحات أثني عشر مدارا أرخ فيها لجوانب ام تذكر من تاريخ المدينة أو تاريخ المقهى وصاحبها ومن ثم عن والده المرحوم رضا العلي، توزعت بداية على طلب الكاتب منه أن يختتم الكتاب ببعض ذكريات خاصة حرص فيها ألا تكون مكررة ولا متناقضة مع المهذب مما تم التعاون عليه بينه وبين الكاتب/ مرورا بعرض سريع من دخوله المدرسة الأبتدائية(مدرسة غازي الأبتدائية النضال لاحقا) الى مرورا بأحداث وثبة عام 1952 وحادث أستشهاد عمه حمودي الذي سقط شهيدا في المظاهرات التي انطلقت في النجف من ضمن أحداث الوثبة ليختتم ومرورا بذكريات وفاة جده عبد ننه وتشيعه المهيب بالنجف وأحداث وطنية لاحقة تمتد إلى حدود العام 1970، وصولا لمدارته في النهاية عن محاولة البحث عن مصير والده المعتقل من سلطة البعث ولقاء بعض المحامين بالمرحوم عزيز شريف الذي كان وزيرا للعدل في حينها للبحث عن مصير والده الذي كان معتقلا ولم يطلق سراحه، لتنتهي رحلة جبار العلي مع ذكرياته في حدود عام 1970 التي ختمها برسالة من مهدي الحكيم لقيادة الحزب الشيوعي ليخبره بها والده أن الحكيم يدعم ماديا الشيوعيون في شن حملة أغتيالات منظمة فرد الأخير على الحكيم أن الحزب لا يؤمن بهذا المنهج وإنما هدفه تغيير النظام وفق مشروع وطني واضح.
في هذا العرض الأنطباعي أوجزت رحلتي مع الكتاب وشخصياه وأحداثه والمركز الجوهر الذي تدور فيه أحداث عاصر فيها الكانب جزء من التاريخ، والجزء الأكبر كان وثائقيا وشهادات وذكريات من أبطال الحدث أو ممن عاصر وعاش نبض النجف السياسي والفكري والثقافي، لينقل لنا صور تأريخية وليس دراسة تأريخية متخصصة وأكاديمية ليلقي على كاهل القارئ كيفية تكوين الفكرة ورسمها أو تحويلها إلى مخيال حي يعكس قدرة المكان أن يكون جزء من التاريخ، كما يمكن لتأريخ أن يقرأ المكان كدالة ترتبط بها الأحداث وتتفرع منها، في الدراسة القادمة عن الكتاب سنبحث عن المنهج الكتابي ونقدنا العلمي عنه وعن الحدث كمادة تأريخية تحاكم بالنتائج والخلاصة التي أراد لها الكاتب أن تصل للقارئ.