المحرر موضوع: جمال حكمت و أنسامهِ العذبة (1)  (زيارة 998 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هاتـف بشبـوش

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني


جمال حكمت و أنسامهِ العذبة (1)..................

جمال حكمت قاص عراقي ولد في بغداد ، مقيم في هولندا منذ عام  ( 1998 )  أضناه القدر كثيرا ، تعثر في الحياة مرارا وخسر الكثير لكنه ذلك المتفوق الذي لايحسب لخساراته أيما إعتبار ، في كل سقطة قاتلة ينهض فيها مقتدرا لاتلويه أعاصير السلطة الغاشمة أنذاك حيث كان يساريا مفعما بالحيوية والنشاط أيام النضال ضد البعث المجرم ، الحروب سرقت من راحته الكثيرإذ انه كان جنديا في الحروب الهمجية لصدام وهذا أضفى على إبداعه شيئاً مميزاً بخصوص ذلك .  جمال حكمت متفوق في مجال السرد القصصي ، والحكائي ، متجاوز في المخيال البذخي وحتى حركات شخصياته لها الكثير من النشاط والفعالية والتعامل مع الأشياء ، بوحه يأتي على سليقته وسجيته وقلما ندر أن نجد هناك من الإرباك في السرد القصصي لمجمل ماورد في مجموعته هذه قيد الدراسة فكان موفقا في ذلك الى حد ما .
 القصص والمسرحيات لها سوق رائجة في زمان مضى ، يكفي أن يسمع المرء إسم شولوخوف أو غوتة او تولستوي حتى يتسارع لأقتنائها ، أو يتسارع لرؤياها في صالات السينما فيما إذا تحولت الى سيناريو سينمائي ولذلك جمال حكمت يتطلّع الى أن يكون إسما بارزا من أسماء السرد والقص ، حاله حال آلاف الكتاب الذين يحلمون هذا الحلم الجميل في الوصول الى عالم الشهرة ولم لا فمن طلب العلى سهر الليالي .
الحب بالنسبة اليه لايأتي بالتعلم ولا بالقراءة ولا بالجهد والمثابرة ، الحب تصرف ، الحب هو صرخة من الأعماق ، يسري في العروق الطرية ولاينتهي حتى تجف ، الحب لديه يبدأ من أول قبلةٍ تهز الكيان كالصاعقة ويعرف عندها الحبيب أنه عثر على الزوجة والحبيبة التي يريدها، أو لربما يأتي عندما لايستطيع المرء أن يلمس طرف من أطراف قميصها ، فيظل مشتعلاً حتى يقع في شراك الحب رغما عنه ، ولذلك نراه يفصح عن هذا الحب بشكل عذب رقراق كما في القصة البديعة أدناه ( أنسام عذبة) :
(الرومانسية تعني التجلّي الحر لإنطباعاتي الشخصية وتصوري من النماذج المنسوجة عن المدارس واشمئزازي من الوصفات الأكاديمية ...ديلاكروا) ..........
القاص جمال حكمت مهندس زراعي قبل أن يدخل عالم الأدب الموجع ، ولذلك كان بارعا في وصف الطبيعة المتلائمة مع الأنسام التي تداعب أوصال كل حبيب أذاق من ألم الفرقة مالايطاق ، وصف الأنساغ المتصاعدة لحقول القمح وكأنها جاءت تنذره إنّ الحبيبة جاءت هنا باعثة عن الأزهار التي هي ترمز في كل الأحوال الى الحياة . لنر السرد الرومانسي البديع أدناه بخصوص ذلك :
(سبقني قلبي لتلبية ندائها..نهضتُ من مكاني وأخذت طريق الحقول مجانبا حقل القمح ورأيت سنابل القمح مثقلة بغلالها تموج بأعوادها متراقصة بهدوء تدافع الراياح الخفيفة ، رافعة فروعها الى الأعلى متباهية بسنابلها الذهبية ، متحدية حقل الذرة المجاور لها على الضفة الأخرى للجدول الصغير الفاصل بين الحقلين) .
 جاءت حبيبته هنا شاردة من القتل والموت الذي هناك في بلدنا ، لاحياة في بلدٍ تعبث فيه أيادي الأوغاد ، حتى النسيم هناك ملوث بدخان البنادق والدبابات والعجلات التي تثير الدوار حين صعودها . تأتي الحبيبة التي ظلّت هناك فترة من الزمن تأتي الى هولندا لتجد حبيبها الذي فارقته منذ سنين . هناك غربة وهنا غربة أيضا ويلتقي الغريبان( الحبيب والحبيبة) في أرض غريبة وكأن حياة العراقيين أصبحت كلها عبارة عن منفى . الحبيب يهرب من الوطن نتيجة الأوضاع المتردية في زمن البعث ثم تلحقه الحبيبة نتيجة الطائفية الوليدة اليوم على أرض بلدنا  فيلتقيان وكأنهما مطرودان من الأرض التي يجب أن تحملهم على كفوف الراح يجب أن يكونا مدثرين تحت لحاف الوطن وحنينه ، ولكن الريح تأتي بما لاتشتهي السفن . أضف الى ذلك إنّ القصة أعطتنا رسالة مفادها إنّ الحبيبين هما رمز السلام والمحبة والتآلف ، فهنا القاص جمال أعطانا التعبير المجازي بأنّ العراق كان بلد السلام والحب وحينما خرج الحبيبان ( كل واحد منهم عبارة عن نسيمٍ عذبٍ فواح) لم يبقَ في العراق سوى الخراب والموت ولامكان للوئام والسلام .
 قصة ( أنسام عذبة)  ذات توليفة لها طابع سلس وفيها من السرد المغاير عن القصص الأخرى للقاص ، سرد رقراق يليق بموسومية عنوانها ، سرد يجعلنا وكأننا نتفس الهواء الطلق ، سرد أدخلني الى جنةٍ بسيطةٍ إسمها جنة جمال القصصية المهفهفة ، فكنت مترنحا متمايلا بين فسيفسائها ولما أنتهيت نفضت يدي وكأن قشة القمح عالقة في يدي .
جمال ورغم كل ما مر به من أهوال في بلد الدمار والبلاء ، راح يؤنسنا ويعطينا الدفق الحقيقي لعدم اليأس ، فراح يصور لنا أقدامنا الطويلة وروحنا الطائرة التي نستطيع بمعونتها أن ننتقل الى العالم الفسيح كما اللقلق ، عالم المنافي الذي ليس لدينا غيره ومافي اليد من حيلةٍ تذكر كي ننجو بها بأنفسنا من الضياع والقهر ، لنقرأ جمال في سرده البديع أدناه بخصوص ذلك وقصة ( طائر اللقلق )  :
يقولون إن الإنسان يأتي من هوة ظلامية وينتهي في هو ظلامية بل الأكثر حلكة وظلام ، يعني إنّ الفترة التي يعيشها الإنسان بين هوتين ظلاميتين ( بطن الأم ـ القبر) هي عبارة عن سراج ، عبارة عن فراغ هائل ، بداية هذا الفراغ هو القماط هو البكاء العفوي لأول صرخة للأنسان  بشكل عام وفي التفسير الميثولوجي للتراجيديا الإنسانية ( الإنسان مقهورُّ على الدوام)  . فكيف حال العراقي وما لاقاه من أهوال ، منذ الطفولة ونحن قصيرون في كل شئ ، قصيرون في قاماتنا  وفي عقولنا  وفي بصيرتنا وفي أيادينا التي لاتستطيع أن تصل الى رفوف المكاتب كي تختار كتابا جميلا عن الحب ، لاتستطيع انْ تصل الى مجاهيل فتاة أحببناها في الصغر ، لاتستطيع أن تمسد شعرها الليلي ، لاتستطيع أن تمسك ذراعها في شارع عام ، لاتستطيع أن تعانق أو تضم حبيبا لها ، بالمختصر أيادي معطوبة لاتنفع في كل شئ ، حتى في الكتابة ، كنا أيام زمان خائفين من رجالات الأمن ، لربما تنفع ُفي الصفعات واللكمات وهذه رمز العنف لا الحب . ولذلك القاص جمال أراد أن يعوض ذلك لكي يقنع نفسه المثقلة بالعدميات ، من انه موجود ، انه جمال حكمت إبنُ بلاد الرافدين ، فراح يفتخر بساقيه الطويلتين ، كما الطاووس الذي يمشي متبخترا زاهيا بنفسه ، أراد جمال أن يسد النقص الحاصل في تشويهنا وتكويننا من قبل الرب الذي خلق العراقيين على هذا المنوال المشوه ، وحتى هنا وجد جمال نفسه في إنتكاسة رهيبة جدا ، نكوص ما منه مهرب أبدا ، وجد نفسه يستطيع الهروب بها من الوطن ، الهروب بها على حدود الدول الغريبة والمنافي التي ليست لها حدود ، إنه الهروب الى الأمام ، الهروب الى قمة البركان التي لانعرف متى تنفجر وتدمر كل ما بنيناه في المنافي التي وصلناها بساقينا الطويلتين . فمن لجمال كي يعينه على كل هذه الإرهاصات وهذا السهد والسهر الذي يؤرقه . هذا هو حال الأدب ، هو المهنة التي لايرتقيها غير المعذبين على الدوام ، الذين يفكرون بعقلٍ حر خالي من أي قيد ، الذين يحلمون بأعالي الحرية ، ولذلك راح القاص جمال يبوح لنا بسرده الجميل أدناه وقصة ( رائحة الحرية)  :
(لاتمنح الحرية لمن كان وغدا ......لينين) ......
الحرية تلك الكلمة التي مات على منحرها الكثيرون من أشراف روما الى أبطال هذا العالم الشاسع الذين غيبتهم أيادي الغدر في السجون والحروب . لوركا ومقولته الشهيرة وهو يكتب الى حبيبته بينما هو في السجن وقبيل إعدامه بوابل من الرصاص من قبل جلاوزة فرانكو ، ( كيف لي أن أكون جديرا بحبك .. إذا لم أكن حرا) الحرية التي أصبحت اشهر كلمة على وجه التأريخ لكثرة ما اعطت الإنسانية في سبيل نيلها الكثير من الضحايا ، سفكت في سبيلها انهار من الدماء ، أعدمت بالمقصلة الشهيرة الفرنسية مدام رولان ، الحرية تلك الكلمة التي أصبحت لاترى الاّ في الآحلام للكثير ممن سلبت منهم أجسادهم ، وعلى رأسهم الزنوج الذين أعطوا الكثير على طريق هذا المذبح الرهيب ، كما رأينا تضحياتهم في فلم ( الماندينغو) تمثيل جيمس ماسون ، وآخرها فلم ( إثنى عشر من العبودية) تمثيل براد باث والشاب الزنجي ( ..)  حتى وصلوا الى ماهم عليه الآن حيث أصبح أوباما الرجل الزنجي رئيس أمريكا  أكبر دولة عنصرية في العالم . الحركة اليسارية العالمية أعطت الكثير من شواهدها في هذا المجال . الحرية المنشودة في السجون والقصص التي قرأناها في هذا المجال ومنها قصة الكونت مونت كريستو الذي حُكم بالمؤبد في جزيرة نائية ثم تحقق له أن ينال حريته بغرابة تذهل العقول كما رسمها لنا الروائي الشهير( الكسندر دوماس)  . الحرية تلك التي أصبحت تراود الملايين في أحلامهم ، مثلما الحلم هذا الذي نقرؤه في رائعة جمال حكمت عن البلد المستباح ونصب الحرية لجواد سليم الذي إختفى وأصبح مرميا خارج الذاكرة ، وسط بلد ضاع في الدمار والهلاك والقتل والتشريد  ،حيث يصور لنا جمال في سرده الجميل عن هذا الإختفاء بشكل مبهر لما فيه الكثير من المعاني :   
(رحت أبحث في زجاجة الخمر عن خمرة أزيد بها كاسي كي احتفل بالنصر وانتشي ودرت بها فوق كاسي وكانت فارغة اخذت ارج بها علها تقطر لي فرحا جديدا لكن ذلك لن يجدي دفعت الزجاجة بقوة على يميني سقطت على الكمبيوتر فانطفا واختفت صورة النصب ) .
(صحت يا الهي من سرق النصب لقد اختفى النصب من امام عيني وعاد الليل يخنقني ابحث في جنح الظلام عن وطن فما عادت له صورة ) .
وبالفعل يرى جمال صورا تختلف عما كانت تدور في خلده وفي عالم لابد للمرء أن يثمل فيه كي يرى العالم المستباح بوضوح ، لأن مايراه عبارة عن صور تمليها الغشاوة والضبابية  فأطلق عليها كما نقرأ في بديع خياله أدناه ( صور متشابكة)  :
قصة تحمل الكثير من التنقلات التي تتأتى نتيجة الظرف القاسي الذي يعيشه أي مغترب ، تختلط عليه الأمور في جميع مسارب الحياة ، فهو هنا في هولندا مع شعوب تختلف إختلافا جذريا عن ماكان عليه هو في العراق وتلك التقاليد الجامدة  ، فتتوضح له نتيجة ذلك رؤيا متشابكة ، ممزوجة بالفلاش باك الذي يحمله الى الذاكرة السحيقة بإعتباره إنسان قادم من الأزل ولذلك راح يسرد لنا عن التأريخ الشائن وما كان يحمله من مآسي وآلآم ، فيتكلم عن عمرو بن العاص وعورته والحادثة الشهيرة في معركة صفين  ثم عن تأريخ المسيحية الشائن وهيباتشيا ، رواية فكتور هيجو وجان فالجان ، ثم ينتقل حديثا فيتذكر ، غناء فيروز ، عبد الحليم  ، شعر مظفر النواب ، حب عاطفي ، وحب الأطفال وصورهم المعلقة في الحائط  . ثم يذهب الى التلفاز فيجد هذه الأمة لاهمّ لها غير الموت والقتل وصناعة أديان جديدة ، يرى هذا العالم غارق في الدمار ، لنقرأ مايصفه لنا القاص جمال بهذا الخصوص :
( مال به الأمر يبحث في القنوات العالمية ، يظهر على الشاشة صور حطام خلفته هزّة أرضية، وفيضانات خلفها تسونامي ، وضحايا من الأطفال حضنتهم أمهاتهم ، ورجال اتوا غرقا ، كانوا يحاولون إنقاذ أولادهم أو ماتبقى من عرش بيوتهم ، وربما سبحوا نحو كسرة خبز سقطت من جيب ( جان فالجان) طفت فوق سطح الماء وجرفتها السيول )  .
إستوقفني كثيرا السطر أعلاه لبراعة جمال في هذا الوصف الذي يخص جان فالجان بطل قصة البؤساء لفكتور هيجو ، الذي يسجن أكثر من عشرين عام على قطعة خبزٍ سرقها، فما أقبح ذلك القضاء وقتذاك إذ يسجن جان فالجان الطيب المسكين ويترك سرّاق الملايين مطلقي السراح كما ساسة العراق اليوم  . فيقول جمال في وصفه أعلاه ..كيف هذه الناس تسبح كي تحصل على كسرة خبز تسقط من جان فالجان فتذكرت ذلك المثل العراقي حول فقراء بلداننا وحالهم المبكي الفجيع ( يطلبُ من الحافي نعالاّ) أو (يطلبُ من العاري قطعة قماش لستر عريه) . ثم أخيرا تنتهي القصة بنهاية رائعة نهاية كونية ذات بعد إنساني عالي جدا مع المرأة التي تجمع التبرعات من كل فئات العالم في هولندا الى مصابي السرطان ثم الإرتياح الأخير مع الزوجة التي تزيل نصف الهم في هذه الغربة اللعينة مع الإستعانة بكأس الخمر مزيل الآلام  والهموم .

هــاتف بشبــوش/ عراق/دنمارك