من يوميات مهاجر سوريايا يتأبط حقيبة سفره-2-
نزار حنا الديرانيكبرت وكبر معي حبي وكرهي ، والتاريخ كل يوم يشهد لي حقيقة جديدة ... احببت لبنان بأرزها وجمالها وشعرائها وفنانيها وكيف لي ان لا احبها وانا اقرأ عن جدي كلكامش كيف قطع هذه المسافات من اجل ان يغتسل في ماءها ويستنشق عبير أرزها .. احببتها ولكن قبل ان يشهر السيف احدهم في وجه الاخر وقبل ان تغزو الاراكيل والدلفري بيوتها .. وكيف لي ان لا احبها وانا اسمع صوت فيروز ووديع الصافي و... وهما يمتزجان بصوت ناظم الغزالي وبيبا والبرت و... القائمة تطول الا اني كرهت الاتحاد السوفيتي بشيوعيتها التي خذلت اجدادي وتركتهم في الساحة لتتقاسم كل من نسور بريطانيا وتركيا لتنهش اجسادهم ومن ثم هدمت معاولهم ما بنوه اجدادهم من حضارة كنسية ودينية ، وكم من ايقونات وتراتيل كنسية ولوحات جميلة ابيدت ليحل محلها صور ستالين ولينين وعمليات الاعدام... وكم صرف اصدقائي من جهد لاقناعي ان اكون من دعاتهم الا انهم لم يفلحوا.. نعم كرهتها ولم اكن اتوقع يوما ان أغير رأيي فيها واحبها ان كان من خلال فضائيتها ( روسيا اليوم وبرنامج رحلة في الذاكرة هذا البرنامج المشوق فالف تحية لمقدم هذا البرنامج خالد الرشد ومن يقف وراء اعداده ) او من خلال شخصية قائدها بوتين ذو الوجه الهادئ الذي ابى ان يجعل دولته تنحني امام الطاغوت الامريكي الذي يفكر بابتلاع العالم ...
ومع كل هذا عشقت قريتي ديرابون وكيف لا اعشقها الم تكن من أوت أجدادي الهاربين من جحيم الاتراك ومراجل الانكليز ... احببتها رغم اننا كنا ندفع بين الحين والاخر فاتورة حبنا وحيادنا وحيث المعركة تدور رحاها بين البيشمركة والحكومة ... احببتها ولو لم نكن نحبها لما عدنا اليها كلما خفت نار المعتدين علينا ، كم من مرة اتذكر كنا نحتمي في النهار في الكهوف الجبلية او القرى المجاورة خوفا من رعب الطائرات وانتهاك المرتزقة (الجتة) بيوتنا فيسرقوا ما فيها الا اننا كنا نعود اليها في الليل ... ومن حينها تعلمت كيف لي ان اتأبط حقيبة سفري واتيه ...
كبرت وكبرت معي معاناتي ... وكيف لا تكبر معاناتي وانا ارى الجيش السوري في الستينات يترك كل شئ ويقفز الى قريتي ليجمع من فيها من شباب ورجال وشيوخ لتعذيبهم وحرقهم لولا وصول الجيش العراقي لانقاذهم .. وكيف لا تكبر وانا اتذكر كيف أغارت علينا في بداية الستينات جحافل البشمركة (عيسى سوار) لتسلب منا بنادقنا ... كثيرة هي معاناتنا وانا اتذكرها واتذكر كيف كنا نهاجر وحيث القمر يرشدنا والهواء العليل يلفح وجوهنا وكأننا في نزهة لا تشرد ، ومن ثم نعود .. لا استطيع ان احصى كم مرة تركنا بيتنا واحتمينا في اماكن اخرى... اتذكر براءة طفولتي يوم تمددت على الارض مغطيا جسمي بالوسادة التي كانت معي حين اغارت الطائرات ظناً مني انها سوف لا تراني .. وفي الاخرى كنا نلعب في الساحة واذ بطائرتين تداهم لحظة فرحنا فكل يركض باتجاه وبنصف ملابسنا ونسينا حتى أحذيتنا ، يومها كنت اسمع صوت رشاشاتها والاشواك تدمي ارجلي وانا اركض الى لا ادري... كثيرة هي الذكريات ولكن اكثرها كانت مآسي ... كم من مرة كنت اتساءل مع نفسي لماذا اختار جدي العراق لا دولة اخرى ربما كنا لا نرى ما رايناه في حياتنا ...