كان الرفاق الاوائل يشعرون بمراقبة السلطات الأمنية لنشاطاتهم التنظيمية بداية الثمانينات من القرن الماضي , وقد تم مناقشة الموضوع في اجتماع تنظيم بغداد ( الدورة ) في الشهر الرابع من عام 1984 بحضور الشهيد الخالد يوبرت الذي تحدث عن كونه متأكد من المراقبة وبالخصوص بعد مطالبة الجهة الأمنية في الشركة التي يعمل فيها التعهد بان لا يعمل في أي جهة تعمل ضد الحزب والثورة !. وقال مبتسماً : يريدون إلزامنا بالتوقف عن نشاطنا في إنقاذ وجودنا وصمودنا في المدن والقرى !. كان الشهيد يوبرت مستعداً للشهادة مدفوعاً بإيمانه بالقضية ، وكان يكرر بأن الخوف من الموت يؤدي الى الرضوخ والسكون والضعف أمام الانتهاكات وإبقاء الحال على نفس المنوال ، ويقول مراراً بأن القضية لكي تعيش تستوجب بان يضحي أبناءها "الثورة تأكل أبنائها " . وخلُص الإجتماع الى أن استشهاد رفاقنا جميل وشيبا قبل شهرين من ذلك الاجتماع يرفع درجات الاصرار بالاستمرار بالمسيرة وفاءاً لهم ولمبادئ ونهج الحركة وبأن السلطة تنوي من خلال تشديد مراقبتها وخنق انفاس اعضاء الحركة ومؤازريها بان يتم إطفاء شعلتها لتنسحب من النشاط التنظيمي القومي والوطني . وأهم ما أتفق عليه المجتمعون هو ان الاعتقالات والمطاردات وعمليات التهديد والوعيد والتي طالت عددا من الكفاءات والنخب القومية والثقافية ستؤدي الى رفع نسبة التعريف بعدالة قضيتنا المنسية الى مستوى أرفع وأعلى والتوكيد على طبيعة النظام البعثي القمعي العراقي للمجتمع الدولي والى دول ومنابر عالمية وأممية معتبرة ومؤثرة حول العالم .. وهذا ما حصل فعلاً في اواسط تموز 1984 . إذ أدت تلك الممارسات الهمجية باعتقال مجموعة خيرة من الرفاق الأوائل ووضعهم في زنازين الامن العامة وتعذيبهم بالقابلات والصعق بالكهرباء والتعليق والتهديد بالشرف والعرض ايضاً , ثم محاكمتهم في محاكمة صورية سريعة في تشرين ثاني 1984 وعزل المحكومين بالإعدام عن المحكومين بالمؤبد في زنازين مختلفة . وظلت أخبار الشهداء المحكومين تصل الينا اسبوعياً من خلال الجنود والحراس الأمنيين وموزعي الارزاق والمنظفين السجناء الى انقطع التواصل فجأة في الاسبوع الاخير قبل عملية الاعدام والتي تمت في 3 شباط 1985, وجاء الخبر الصاعقة من ذوي الشهداء وأقاربهم في زيارات السجن ( المواجهة ) الذين شرحوا عمليات التعذيب الاخيرة التي تمت بأجسادهم الطاهرة. مما صعّد لدينا درجة الغضب والإصرار على الصمود وتحّمل المشقات وكانت إجاباتنا لمن أراد إخراجنا من المعتقل من ذوي النوايا الحسنة بأننا لن نخرج حتى لو فتحوا ابواب السجن أمامنا لأننا أصحاب قضية وخروجنا يعني تنازلنا عن مبادئنا وعن دم الشهداء .
الشهيد يوسف توما يتصف بالهدوء والأخلاق الرفيعة وكان يحمل الكثير من الحكمة والوعي بقصص الشهداء وحركة الشعوب نحو الانعتاق .. وحينما كنت اتحدث عن الشهادة والاحكام الجائرة التي تنتظرنا , كان ينصحني بان يتم تأجيل الحديث عن الشهادة الى أن تتوفر مستلزماتها لدى الجميع وتتكامل عن وعي عميق واستعداد وتضحية ولان الشهادة تأتي في المراتب العليا من الوعي القومي والسياسي ، وإنها ستأتي بعد نضوج المفردات التنظيمية والثقافية. وكان الشهيد يوخنا يعيش معاني الشهادة في حياته ويدرك تماما همجية النظام وإسلوبه القمعي ، ويحلل الأمور بلغة المنطق والواقع الذي لا يعرف المفاصلة والمداهنة حينما يتعلق الأمر بالمصير , ولكنه كان يتمنى أن تتاح له فترة أطول ليقدم المزيد من العمل لصالح القضية لأننا ما زلنا في بداية الطريق وأمامنا الكثير لكي نعمله .
شهداءنا ساروا بخطى واثقة في طريق التضحية ، وكانوا يعلمون بأن ذكراهم ستظل حية في القلوب وبأنها ستظل ذخراً هادياً وخميراً حيّاً لرفاقهم وشعبهم ، وكانوا على حق ، إذ ظلت المسيرة قائمة وساروا آخرون على خطاهم . مبروك لكم ما نلتوه من وسام المحبة والتعظيم ، فمسيرتكم ما زالت بأيدي أمينة من الآلاف الذين رخصوا حياتهم للدفاع عن الوجود وعن المستقبل ضد العنجهية والظلامية . ولتسكن أرواحكم ولتهدا النفوس فأن طواغيت الماضي قد اخزاهم الله بفناء أبدي ، وهو ذات المصير الذي ينتظر جهلة اليوم .
دانيال سليفو