لولا كنيسة الفاتيكان لكانت المسيحية في خبر كان
د. صباح قيّاالتاريخ معلم الحياة .. مقولة رائعة تنسب إلى البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون ( 1958 – 1963 ) . ولاستيعاب ما يقوله المعلم ينبغي الإنتباه والتركيز , ولهضم ما كتب عنه يستوجب المراجعة والتدقيق وفرز الحقائق عن التزويق والتلميع , وإلا يسقط القارئ في معاناة البيت الشعري :
أسفاً لمنْ يطالعُ التاريخَ ومنْ دروسِهِ لا يتعلمُ
ليست الغاية من المقال الدفاع عن الكنيسة الكاثوليكية ممثلة بمقر رئاستها في الفاتيكان , ولا عن الكثلكة وقمة هرمها الحبر الأعظم , كما أن المقال لا يرمي إلى تهميش دور الكنائس الأخرى أو التقليل من شأنها في الدفاع عن المسيحية وصد الهجمات الغازية الشرسة والمدمرة , وإنما سرد بعض الوقائع التاريخية التي لا يختلف عليها إثنان , ويبقى الفضل في الحكم والفصل للعم " كوكل " الذي يملك الكم الهائل من المعلومات الرصينة والمعتمدة , إضافة إلى الغزير من المنشور في اللغات المختلفة والمتوفر في المكتبات وعلى الشبكات العنكبوتية . واللبيب حتماً من الإشارة يفهم .
وصلت عام 452 م القوات البربرية بقيادة " أتيلا " مشارف روما ’ بعد أن اقتحمت وأسقطت العديد من المدن في هجمات وحشية قاسية لم تقتصر على الأنفس فقط بل أحرقت ودمرت كل ما اعترض سبيلها , ولم تسلم الكنائس من شرورها . تأرجح الموقف عند الإمبراطورية الرومانية في الغرب وخيم القلق على كنيسة روما وهي تراقب من يطلق عليه لجبروته وتعطشه للقتل والتخريب " عذاب أو بلوى الله " وهو على مقربة من أبوابها . إنطلق البابا القديس ليو الأول ( 440 -461 م ) متوجها إلى مقر القائد " أتيلا " لمفاوضته رغم توسل الإكليروس ليعدل عن رأيه خوفاً عليه من بطش البربري الذي لا يرحم . لا يعرف لحد اليوم ما دار بالضبط بين البابا القديس والبربري , ولكن يتفق الكثيرون بأن الأخير أبدى إعجابه بشخصية البابا وانسحب مع جيشه بعد اللقاء تاركاً روما بسلام وكنيسة المسيح بأمان .
ولم تمضِ غير ثلاث سنوات على حملة " أتيلا " , فإذا بالقبائل الجرمانية المسماة " فاندالس " تدخل روما غازية عام 455 م . وتدخل نفس البابا القديس ثانية مقنعاً ملكهم أن يتجنب القتل ويمنع الحرق والدمار , وبالفعل تم ذلك حيث اكتفى " الفاندالس " بما حصلوا عليه من كنوز ثمينة , وبذلك حافظت الكنيسة على مشعل المسيحية ورسالة الإيمان .
لم تتمكن , للأسف الشديد , الكنائس في الشرق من الصمود امام بطش الحكام والملوك آنذاك ولا أمام الغزوات المتعاقبة بعدئذٍ , وربما كان الإختلاف العقائدي بين بعضها البعض من جهة وبينها وبين الكنيسة في الغرب من جهة أخرى عاملاً جوهرياً في أفول كيانها وتناقص أعداد مؤمنيها . ولم تفلح الحملات الصليبية القادمة من أوربا الغربية ( 1095 – 1291 م ) في إحداث تغيير جذري أو فعال في واقع الحال , ثم جاءت الكارثة الكبرى في 29 مايس 1453 م بسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية في الشرق , والتي أدت إلى انحسار المسيحية في ذلك الجزء من العالم . لم يلقَ نداء البابا ايجونيوس الرابع ( 1431- 1447 م ) للدفاع عن المسيحيين والذي أطلقه في الأول من كانون الثاني عام 1443 م تلبية لطلب الإمبراطور الروماني في القسطنطينية لمد العون له تحسباً لمعركة مرتقبة , ولا الدعوة لحرب صليبية فورية التي أطلقها البابا نبكولاس الخامس ( 1447-1455 م ) في 30 أيلول 1453 م , أذناً صاغية عند الملوك والأمراء في الغرب حينذاك . وهكذا فقدت القسطنطينية عملباً كرسيها الرسولي التاريخي ولم يبق منه غير الأسم الشكلي , كما تحولت كنيستها الأولى الرائعة الجمال والإبداع ( 537 – 1453 م) إلى جامع ( 1453- 1931 م ) ومن ثم إلى متحف ( 1935 م - الوقت الحاضر ) .
كثيرة هي الايام الخالدة منذ أن انعم الله على العالم بإبنه الوحيد لينقل ومن بعده تلاميذه رسالة الإيمان وطريق الخلاص لبني البشر . وبرأيي المتواضع يظل يوم 7 تشرين الأول 1571 م متميزاً في خلوده فلولاه لرقدت المسيحية في نعشها إلى الأبد , ولكن هيهات .... فبالرغم من الدماء التي كانت تسيل في أوربا بغزارة بين المسيحيين أنفسهم بعد بدء ما يسمى بحركة الإصلاح عام 1517 م وما أفرزته من فرقة وإنشقاق بين معتنقي الدين الواحد , استطاع البابا القديس بيوس الخامس ( 1566 – 1572 م ) أن يوحد جيشاً نجحت بحريته بإعجوبة في هزيمة ودحر الأسطول العثماني التركي الذي يفوقه عدداً وعدة في المواجهة التي وقعت بينهما في مياه الجنوب الغربي لليونان في المعركة الشهيرة والمسماة " معركة ليبانتو " حيث لم يسلم من 300 سفينة تركية إلا 13 فقط . إنها حقاً معجزة أحدثت تحولاً جذرياً في التوازن الديني وأوقفت الزحف القتالي العثماني على العالم المسيحي الغربي منذ تلك الحقبة وإلى اليوم .
وفي عصرنا الحالي استطاع البابا القديس يوحنا بولس الثاني ( 1978 – 2005 ) أن يساهم في تفكيك المعسكر الذي حاول أن يزعزع االفكر المسيحي ويبعد المسيحيين عن الإيمان بهيمنة فكر الدولة الجديد وسطوة سلطته والذي لا يعترف لا بالخالق ولا بأنبيائه , فبدأت الكنائس بالإزدهار من جديد , وعادت الرعية إلى أحضان آبائها الأوائل .
أتذكر من كتاب " عبقرية المسيح " من تأليف الكاتب المصري عباس محمود العقاد ما ذكره في الصفحة الأخيرة من كتابه وما معناه أنه لو أنكرنا على المسيح ولادته وأعاجيبه ومعجزاته وقيامته وصعوده , فلا يمكن إطلاقاً إنكار رسالته التي انتشرت بالكلمة , وبالكلمة فقط استطاعت أن تصل إلى أقاصي بقاع العالم وحققت ما لم تحققه أقوى وأعتى الجيوش في التاريخ الماضي والحاضر .... ومن هذا المنطلق أسمح لنفسي أن أقول بأنه مهما حصل بسبب كنيسة روما من أخطاء بعد الإعتراف بالدين المسيحي عام 313 ومهما فعلت محاكم التفتيش وأزهقت تهمة الهرطقة من نفوس وما تسببت به صكوك الغفران من انشقاق تلاه سفك الدماء , فلا بمكنني البتة إلا الإعتراف من خلال الوقائع والأحداث والحقائق التاريخية والإقرار بانه لولا كنيسة الفاتيكان في ذلك الزمان وإلى الآن لأصبحت المسيحية اليوم خبر كان . إنها حقاً كما أوصى بها الرب :
أَنْتَ هُوَ بُطْرُسُ، أَيِ الصَّخْرَة، وعلى هذِهِ الصَّخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي، وأَبْوَابُ الجَحِيْمِ لَنْ تَقْوىعَلَيْها............