مبادرة طيبة لكنيسة المشرق الأشورية في السويد – نأمل تعميمها وتكرارها
كان يوما طيبا ورائعا ذاك الذي عشناه سوية كلدانا وسريانا واشوريين في قاعة أورهاي في عاصمة السويد، ستوكهولم.
بمبادرة من الأسقف عوديشو اوراهام، أسقف أوروبا لكنيسة المشرق الأشورية، التأم جمهور غفير من أبناء وكنائس شعبنا في احتفال مهيب استغرق حوالي خمس ساعات في الثاني عشر من هذا الشهر.
كانت المبادرة جمع أكبر عدد ممكن من أبناء شعبنا مع كنائسهم المختلفة في قاعة واحدة لتقديم نماذج من جواهر تراث كنيستنا المشرقية المجيدة متمثلا بالأشعار والألحان والنثر الذي تركه لنا اباء كنيستنا وتقديمه بلغته ولحنه الأصيل وفي حلة محدثة.
وكانت القاعة مكتظة بالناس من اغلب المشارب التي يتألف منها شعبنا الأبي وكنائسه المقدسة المجيدة.
وابتدأ الحفل في حوالي الساعة الثانية عشرة ولم ينته حتى الساعة الخامسة عصرا.
وتخللته فقرات رائعة من موسيقى وشعر والحان كلدانية وسريانية واشورية – ما كان يجمعها هو لغتنا الساحرة، البوتقة التي ننصهر فيها جميعا ونكوّن طيفا فسيفسائيا جميلا.
وما شدني كثيرا كان تواصل الجمهور ومشاركته الفعالة في أناشيد من طقس كنيستنا المشرقية المجيدة تم تأديتها حسب الألحان الشجية التي كانت رائجة لدى كنيسة المشرق الكلدانية.
وما لاحظته كان الحب الكبير والمشاركة الرائعة مع المرتل الذي أدى الأناشيد حسب الألحان التي كانت شائعة لدى الكلدان الى وقت قصير. لقد غمره الجمهور بحبهم ومشاعرهم الجياشة وتفاعلوا معه وهم ينشدون معه المقاطع تلو المقاطع في برهان قاطع على أصالة ووحدة شعبنا وكنائسنا.
وأروع ما سمعته كان الخطاب الوحدوي الذي يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يشرذم الذي أتي على لسان الأسقف عوديشو حيث أشار لمرات ومرات أننا شعب واحد وكنيسة واحدة باختلاف أسمائنا ومذاهبنا.
وقام الأسقف عوديشو بمبادرة طيبة أخرى عندما أنشد جوقه الكنسي ثلاثة أناشيد كنسية واحدة كلدانية والثانية سريانية والثالثة اشورية ولكنك بالكاد كنت تميز بين نبرتها وحروفها وأصواتها ومعانيها لأن وعائها واحد وهو الرحم الذي يضمها، وهو لغتنا السريانية المقدسة.
وكان لحضور إعلام شعبنا متمثلا بالقناة التلفزيونية السريانية (سورييو) والقناة التلفزيونية الأشورية (أسيرين) إضافة الى دعوة بعض الكتاب البارزين من أبناء شعبنا وقعا على الحاضرين والمشاركين في الحفل. وجود الإعلام في مناسبات كهذه له دور مهم.
وهذا ملخص بأبرز الملامح التي امتاز بها هذا الحفل المهيب:
أولا، لم يكن الحفل موسيقيا وحسب، حيث تخللته فقرات تعليمية كان فيه الأسقف عوديشو والمرنمون يشرحون للحاضرين المعاني للأشعار التي كانوا يرتلونها ومؤلفيها وأزمنتها وسلمها الموسيقي وتأثيرها على بيئتها ومحيطها وأهميتها للحاضر الذي نحن فيه.
ثانيا، كان الحفل درسا عمليا ونظريا لمفهوم التأوين حيث كانت هناك شاشة يتمكن فيها الحاضرون من متابعة الكثير من الفقرات بلغتها السريانية مع ترجمات لها بالعربية والإنكليزية. التأوين لا يعني ابدا إلغاء تراثنا واستبداله بالعربية او الإنكليزية او غيره من اللغات؛ هذه ممارسة خاطئة وتفسير قاصر لمفهوم التأوين.
ثالثا، تعلمنا الكثير عن تذكار القديسة مريم ومعانيه وكيفية الاحتفاء به لدى أبناء وبنات كنيسة المشرق. وتعلمنا ان لكنيسة المشرق ثلاثة تذكارات للعذراء مريم كل واحد منها له خصوصيته ومعانيه.
رابعا، تعلمنا عن العقيدة المريمية لدى كنيسة المشرق حيث قام الاسقف عويشو بشرحها بأسلوب شيق وسلس للغاية وأين تلتقي وأين تفترق عن الكنائس الشقيقة الأخرى. وما شدني كانت روح التسامح والمحبة وقبول ما لدى الأخر الذي كان ميزة الخطاب المريمي لدى الأسقف.
خامسا، تعلمنا أن كنيسة المشرق وطقسها وتراثها وأناشيدها وفنونها وموسيقاها تتطلب المشاركة من الجميع وهي مناسبة للفرح والسعادة وليس الحزن والقنوط. وتعلمنا ان كنيسة المشرق كنيسة تراتيل وموسيقى وفنون وعلى أبنائها وبناتها إحياء هذا التراث بلغته وفنونه وشعره وأوزانه ومقاماته مع ادواته الموسيقية من صنج وإيقاع وناي وغيره.
سادسا، تعلمنا ان التأوين عندما يطبق بصورة حكيمة وحديثة يأخذ بالألباب حيث شارك الجمهور بفعالية ونشاط مع المرنم الذي قام بأداء بعض الأناشيد بلغتها السريانية الساحرة وحسب مقاماتها وألحانها الرائجة لدى كنيسة المشرق الكلدانية.
سابعا، تعلمنا الكثير عن مكانة الشهيد مار شمعون برصباعي حيث يقع تذكاره يومين بعد تذكار القديسة مريم وتعلمنا ان ترتيلة ܐܒܐ ܚܢܢܐ ܘܒܪܐ ܡܪܚܡܢܐ ܘܪܘܚܐ ܡܪܚܦܢܐ (أيها الأب الحنون والابن الرحمن والروح الرحيم) التي تتلى في صلاة الرمش هي أيضا من تأليفه إضافة الى مؤلفات كثيرة أخرى لا تزال شائعة في صفوف شعبنا منها ܠܟܘ ܡܪܐ ܕܟܠܐ (لاخو مارا).
تاسعا، تعلمنا أن كنيسة المشرق كانت طوال تاريخها كنيسة تربية وتعليم وثقافة وأن طقسها بذاته فيه الكثير من التعليم والحكم والقصص التي سند أغلبها الإنجيل والكتاب المقدس.
عاشرا، سمعنا وعدا قاطعا من الأسقف عوديشو للاستمرار في نهجه البناء هذا لإحياء تراثنا ولغتنا وطقسنا وفنونا المشرقية وذلك بتكرار هذه التجربة البديعة مرات عديدة في السنة لتخليد تذكارات وأعياد كنيستنا المشرقية المجيدة وكذلك تأسيس جوق كنسي كبير وفرقة تكون بمثابة الأوركسترا يضمان خيرة أطياف شعبنا وكنائسنا في أوروبا.
وأخيرا، وكما هو شأن تقريبا كل النشاطات التي يقوم به الأشقاء الأشوريون، سادت لغتنا الأم كل الفقرات التي قدمت في الساعات الخمس التي استغرقها المهرجان. وكان كل المتحدثين الذين واجهوا الجمهور يتكلمون لغتنا المحكية الساحرة بطلاقة ونقاء.
استنتاجات واقتراحات للمستقبل
أولا، وأنا أثني على الجهود التي بذلها الأسقف عوديشو لإحياء هذا الحفل المهيب والمشاركة الجماهيرية عرضا ومشاهدة من كل أطياف شعبنا وكنائسنا، بودي أن أرى مزيدا من التعليم والتثقيف في خورانات كنيستنا المشرقية المجيدة لتدريس لغتنا وطقسنا وتخريج دورات مكثفة واحدة تلو الأخرى من الشباب والشبات اللواتي يتقن لغتنا نطقا وكتابة. وهذا ليس غريبا على كنيسة المشرق الاشورية حيث أخر حضور لي لقداس في إحدى كنائسها في السويد شاهدت جوقا كبيرا من الشباب والشبات يحملن نصوصا من حوذرتنا المقدسة وينشدن ويقرأن بطلاقة مذهلة.
ثانيا، أقترح على الأسقفية واللجان التابعة لها ليس في أوروبا وحسب بل في كل أنحاء العالم إضافة جواهر اللحن والموسيقى لدى كنيسة المشرق الكلدانية في تدريس اللغة والثقافة والليتورجيا والفنون الخاصة بكنيسة المشرق المجيدة لأن الألحان الجميلة والأداء الرائع والموسيقى المدهشة يبدو لي كانت من حصة الأشقاء الكلدان بعد الفرز المذهبي في منتصف القرن التاسع عشر.
ثالثا، وكذلك أقترح تبني التراث الكتابي والتراتيلي والنثري واللغوي والشعري المعاصر الذي رافق النهضة التي حدثت لدى الكلدان لإحياء الطقس والتراث واللغة والفنون لا سيما في بداية القرن العشرين ومنتصفه، أي قبل إقحام المفهوم الخاطئ والكارثي للتأوين واصحابه الذي وأد هذه النهضة وأزال الأصيل وفرض العربية محل السريانية وهمش التراث. هناك خطورة إن أستمر الوضع على ما عليه، أن يتم تهميش ونسيان ومن ثم ضياع هذا التراث البديع.
رابعا، أمل أن تشمر كنيسة المشرق الأشورية في أوروبا عن سواعدها وتؤسس مدارس وكليات وجامعات كما تفعل شقيقتها في استراليا.
خامسا، العمل على نقل التجربة الأسترالية الى أوروبا ولتكن السويد مركزا لها. أقول هذا وأنا على ثقة أن مشروعا كهذا سيلقى كل الدعم ليس فقط من المثقفين الأشوريين بل من مثقفي شعبنا من الكلدان والسريان أيضا. وأن مشروعا كهذا الذي نتطلع إليه بلهفة وشوق كي لا ننقرض له من المؤيدين والمتحمسين والمناصرين ما يجعل أمر تنفيذه يسيرا ولكن دعم الكنيسة المتمثلة بالأسقفية له دوره لأن الكنيسة بإمكانها أن تجمع كما استطاع الأسقف عوديشو جمع جماهير غفيرة وموسيقيين ومغنين ومثقفين وشعراء ووسائل إعلام من كافة أطياف شعبنا في ممارسة وحدوية ما أحوجنا إليها.
سادسا، وبهذه المناسبة أيضا أدعو المسؤولين عن المدارس والكليات والجامعة التابعة لشعبنا في أستراليا تسهيل أمر نقل تجربتهم الى أوروبا والمساهمة قدر المستطاع وبكل السبل لإنجاحها. كنيسة المشرق حاليا في حاجة الى مدراس في أوروبا وتأسيس المدارس كان جزءا من تبشيرها في أي بقعة وصلت إليها في الماضي وليكن هذا العمل الجبار جزءا من وجودها في الحاضر. وكنيسة المشرق أيضا في حاجة ماسة الى نقل التجربة الأسترالية الى شمال أميركا أيضا.
وبهذا نكون قد حفظنا على وجودنا كأمة وشعب أبي. خسارة لغتنا وتراثنا وفنونا وشعرنا وآدابنا وطقسنا وريازتنا معناه خسارة لهويتنا ووجودنا كأمة وشعب وكنيسة مشرقية مجيدة.
[/url