الى صديقي وأخي جعفر
لا ادري ما الذي حدا بي لكتابة هذه الرسالة ... ربما لاشتياقي لك ولبقية الاصدقاء .. ربما لاشتياقي الى بغداد الحبيبة ...
كنا مجموعة من الاصدقاء الاوفياء لبعضنا البعض رغم اختلافنا في الافكار.. اختلاف يصل حد التنافر احيانا ، كما في حالة ابو فهد الماركسي وابوغزوان القومي الذي كان يحمل مسدسا ونحن في عصر صدام ، لم نأبه إن كان الرجل يعمل في الامن او في المخابرات .. لأنه كان صديقا عزيزا متنوّرا ولا يبخل في مشاركتنا في نقد النظام ...
كانت تجمعنا تلك الالفة الحميمة ، وننتظر الخميس او الجمعة كي نلتقي في مقهى الزهاوي او في مقهى حسن عجمي للنطلق بعدها الى مكان لطيف لنتحاور ونحن نحتسي " ما حرّم الله " ... لم يكن الخمر إلا حجّة للجلوس معا ومبادلة الافكار ...
وربما اكتب اليك لاقول لك وللاصدقاء اني لم اتغيّر ...
نعم ، اني انتقد الاسلام واهاجم الاسلاميين ، لكن حاشا ان اكره المسلمين .. واني على يقين انك تفهمني ... لم يدر بخلدنا يوما من ان الظروف ستجبرنا الى تغيير احاديثنا من القضايا الاجتماعية والثقافية الى الحديث عن مآسينا وفضح ما تفعله بنا الاحزاب الاسلامية !!!..
اهذا ما آلت اليه الامور ؟ ... اهذا كان مستقبلنا ؟..
لكنك تعرف يا اخي جعفر ، لم يبق في بغداد من اقرباءنا الكثيرين أحد ..لماذا يا جعفر ؟ انهم يضطهدوننا ويهجّروننا ، وهم يلاحقوننا الآن حتى في بلداتنا وقرانا ...
ولحسن حظي كنتُ اول المغادرين .. غادرتُ في وقت الصنم البعثي لأن الامر لا يحتاج الى ذكاء لمعرفة المصير ...
حاولتم اقناعي ببيع البيت والانتقال الى الكرخ لاكون قريبا منكم إذا وقع ما لم يكن في الحسبان ... لكنني كنتُ واثقا مما سيقع ، وخائفا عليكم ايضا ,
هل تتذكّر بيتنا بحديقته الفارهة التي تزيّنها ساحة صغيرة لكرة السلّة ؟ . كنا نجلس جميعا في الحديقة لاحتساء العرق و البيرة بعد ان أعلن صدام عن صحوته الايمانية وأغلق محلات الشرب .. خميس عندي وخميس في بيت المرحوم صديقنا الكاتب غازي الاحمدي الذي اختطفه السرطان اللعين من بيننا ...
هل تذكر يوم كنا جالسين في حديقة المرحوم غازي وداهمتنا مْزنة من المطر في ذلك المساء من اواخر الصيف ؟.. فاسرعنا ننقذ مشروبنا ومزّاتنا ونلوذ بالطرمة الواسعة ؟
كان معنا اربعة ضيوف في ذلك اليوم ، اثنان منهم من الفلوّجة أخافوا الاخ غازي من ان ينفذ " عرقه " لكثرة ما شربوا..
و كمعظم العراقيين ، كانت احاديثنا لا تخلوا من السياسة ولا من الجنس ... ثم القى احد الضيوف الآخرين السؤال القنبلة : " لماذا العرب متأخرين ؟ " ...تململ الجميع في محاولة لتجنب الاجابة ... لكن الرجل أجاب على سؤاله بنفسه فقال : " ان الاسلام هو الذي أخرّنا ، لاني لا اعتقد ان الالماني او الامريكي او الانكليزي افضل وأذكى من العربي ، لكن العربي مقيّد ومبتلي في دينه ..لو لم يأت النبي لاصبحنا في نهاية المطاف مسيحيين ، ولكان حالنا الان مثل بقية العالم المتقدم "..
اراد الضيفان من الفلوجة الاحتجاج ، لكن التأييد جاء من جميع الاخرين ... في ذلك الوقت لم تكن العولمة ووسائل الاتصالات الحديثة موجودة ، لذا كان الكلام في مثل هذا الشأن مبكرا علينا .,.. لم يكن من بين الحاضرين الذي كان عددهم يربو على العشرين غير مسيحيان اثنان ، أنا والاخ المهندس نمير .
بعد ان جاءت " مكرمة الريّس " بالتغاضي عن تقديم المشروب في بعض الاماكن ، اخذنا نذهب الى نادي اتحاد الادباء في ساحة الاندلس او الى نادي الفنانين في الكرخ او نادي التعارف للأخوة الصابئة في متنزه الزوراء او نادي الاخاء التركماني في شارع فلسطين ... كنا نناضل من اجل البقاء !!!
كان لقائي معك شبه يومي ، كنتُ ازورك احيانا في شارع المتنبي ، وندردش والاخ بسام معنا ونحن نحستي ذلك الشاي العراقي الذي لا زال طعمه عالقا في حلقي ، لكنك كنتَ تصّر على ان نتناول الكباب اولا من المحل القريب من شارع الرشيد .. ذلك الكباب الفريد في نكهته ...
أتذكر كيف تعرّفتُ عليك بعد ان تم تعيينك في وزارة التربية ؟ ... كنتَ آنذاك بعثيا نشطا ، لكن سرعان ما توطّدت الصداقة بيننا بعد ان رأيتك مختلفا ... أغاض ذلك الاخ سعيد الذي كان يحمل افكارا ماركسية وهو من سكنة الاعظمية !!! ، كان الوحيد الذي يجبرنا على التحدّث معه بلغة " الفشار " لان لسانه كان " زفرا " رغم طيبة قلبه ومحبّته للآخرين ... همس في اذني وهو يلومني : " لك ... اخيرا سقطت ، شعندك تروح للكافتيريا دائما ويّا هذا البعثي ؟ " ... اجبته : ان هذا الشاب يختلف ... أجاب : " ها ...الولد مختلف " ، وأخذ يتلو ما سمعه من عادل امام ...وكان حدسي في محلّه ، لقد تركتَ الحزب وهو في عنفوان امجاده ( طغيانه ) وأخذتَ تنتقده وتهاجمه بعد ان اتضحت لك نواياه ... ذلك لانك انسان ...
هل تتذّكر تلك الانسانة الرائعة في الوزارة التي بادلتك الحب ؟ ... أحببتُها انا الآخر حبا اخويا وهي تحكي لي عن آمالها معك ... هل تتذكر عندما جاءت معك ، ومعها شابة من قريباتها ، الى جامعة المستنصرية ؟...كيف يمكن نسيان تلك السويعات الجميلة التي قضيناها نحن الاربعة معا في ساحات او نادي الجامعة !!
لماذا لم تتزوجها يا جعفر؟,,, كانت الدموع تملأ مقلتيها وهي تقول لي انها ستغادر الوزارة الى احدى الثانويات لانها لم تعد تستطيع تحمّل العيش مع ذكريات ضائعة ... لم تكن الوحيد الذي ترك حبيبته... المصير الغامض وانت مجنّد لحراسة " البوابة الشرقية " ... الضائقة المالية وأزمة السكن ... احد زملائنا ذهب الى " بائع اللبلبي " الذي كان يعمل امام الجامعة بعد ان سمع ان له شقة للايجار ، لكن لسوء الحظ كان الرجل قد اجّرها ..وبعد فترة ترك هو الآخر حبيبته... العشرات والعشرات كانت لهم نفس الحكاية ...
يبدو ان مشروع صدام " القومي " ( السلطوي ) أعماه عما كان يحصل لفتياننا وفتياتنا ...
وكان ان تزوّجتَ بعد مدة من الزمن من احدى قريباتك التي كانت تملك بيتا وهي وحيدة اهلها ...
يا جعفر ، انهم يحدثوننا عن " القسمة والنصيب " .... يحدثوننا عن " القدر المكتوب " على جبينك ... انهم يكذبون علينا يا جعفر... هم الذين يصنعون أقدارنا... وانت لست الوحيد ... أسأل جميع الشباب والشابات عما اصابهم من الاحباطات في احلامهم ومشاعرهم وعواطفهم ... لكن هناك الالاف الذين لم يعد بإمكانهم اخبارك ، لانهم وجدوا صمتهم وراحتهم الابدية في حفرة ما في ساحة المعركة ، او في مقبرة الطائفة ... او في المقابر الجماعية ...
أتذكر يا جعفر عندما اتيتُ لزيارتك في البيت ومعي ابني الصغير الذي لم يكن عمره قد تجاوز الثانية عشرة ؟ كنتَ قد تزوجتّ ولك ابنة أصغر من ابني بسنة او سنتين ... جلسنا نشرب الشاي ونأكل الكيك ... همستُ في اذنك : " سآخذ ابنتك هذه لابني عندما يكبران " ( استعملتُ عمدا لغة الشرقي الفجّة وهي – آخذها-) ... ابتسمتَ وقلتَ لي : " والله لا مانع لدي إذا أحدهما اراد الآخر "... قلتُ كي اغيضك : " طبعا ما عندك مانع عندما يتحوّل ابني للاسلام "....قلتَ لي : " يتحوّل الى الاسلام ، تتحول هي الى المسيحية ، يضل هو مسيحيا وتبقى هي مسلمة ، هذا شأنهم " ...... إستغربتَ جدا عندما قلتُ لك ان القانون يجبر المسيحي الى التحول الى الاسلام في مثل هذه الحالات اعتمادا على القرآن ... وأخيرا قلتَ لي : " اني مرتاح الآن ... لأن احد اقاربي تزوج من مسيحية فهاج اهلها وهددوا بقتلها ، حزنتُ ان اجد من بين المسيحيين من يتصرف بعنصرية مثل الكثير من المسلمين .. لكني الان اعطيهم الحق ، انها مسألة الكرامة .. لماذا لا يحق للمسيحي ما يحق لاخيه المسلم ؟ .. والله لم اكن اعرف ذلك ابدا "...
يا صديقي جعفر ، فهمتُ من تلك المحادثة البسيطة أمرا في غاية الاهمية ، ان ثقتي بالمسلم الجيّد لا يمكن ان تتزحزح . لكن هذا المسلم ، مهما بلغت ثقافته وانسانيته وتعاطفه ، لا يعلم عمق مأساة اضطهادنا حتى في قوانين بلداننا ... اني لا الومك يا جعفر ، فالانسان الطيّب مثلك لا يمكن له ان يتصور ان مثل هذا الاجحاف قد ترسّخ حتى في قوانينا ..
إن كنتَ انت ، والذي ينطبق عليه وصف " عث الكتب " لكثرة ما تقرأ ، لا تدري حجم مصيبتنا ، فما بالك بالآخرين ؟ ...
كان أخي جمال ، الذي هو الآخر كان قد اصبح صديقك ، آخر من ترك بغداد ... في الايام الاولى بعد سقوط الصنم ، استطعتُ الاتصال به للاطمئنان ... سألته عن احوالهم ... اجابني بنبرة من الحزن والاندهاش : " لم اكن اتصوّر ابدا ان اجد الكثير من العراقيين بهذا السوء ، ظهر معدن هؤلاء بعد غياب السلطة ، وهناك من أصبح اسلاميا فجأة ".....
خابرتكَ بعدها لأطمئن عليك ... قلتُ لك : " اني اريد ان أسألك ".... لكنك لم تدعني ، قلتَ لي : " اخي متي ، اني اعرف ما ستسألني .. الناس هنا تخبّلت ... أطمأنك اني لن اتغيّر "...
كل ما ارجوه يا جعفر ان يعي شبابنا حجم الخراب ومقدار الكذب والنفاق والفساد التي تمارسه الاحزاب الدينية ، كل ما اتمناه ان يتولّى زمام الامور اناس طيبون من امثالك .. اتمنى ان تعود فتياتنا كما كنّ ايام المستنصرية والوزارة ، عفيفات واثقات من انفسهنّ ، ليتحررن ويهجرن النفاق الذي فُرض عليهن من حجاب وغيره...
يا جعفر اخي ، بحجة المحافظة عليهن ، انهم يستغلّونهن بحيل شرعية .
" اني مشتاق وفي نفسي لوعة " .
متي اسو