في الحادي والعشرين من آذار من كلِّ عام يحتفل العالم بعيد الأم، وهي مناسبة من أحلى المناسبات، وأقربها إلى قلب كل واحد منّا، لأنّها تخصّ واحدة من أقدس الأحياء على وجه الأرض، فوجدتها فرصة لأكتب شيئاً متواضعاً، أهديه إلى كل أمٍّ بهذه المناسبة العظيمة، وإن كنت على يقين بأنّي لو جمعت كل ما في قواميس الدنيا من الكلمات النبيلة، لما كفتني تعبيراً عمّا أكنّه من مشاعر إنسانية وأحاسيس مرهفة إزاء أكثر خلق الله إنسانية في هذه الدنيا.. ولعلّ أبرز جانب يثير إنتباه الكاتب حين يتناول شخصية فريدة كهذه، هو ذلك الكم الهائل من العطاء الذي لا ينضب مع مرور الزمن، بل على العكس تماماً، كلما تقدم بها العمر وكبُرَتْ، فإنّ كلماتها ترِق أكثر وحنانها يزداد ويكبر، ودمعتها تزداد غزارةً عندما يُثني عليها أحدنا بكلمةٍ، تستحق أكثر منها بكثير.. إنّ صلواتها الصامتة، الرقيقة، لايمكن أن تضل الطريق إلى ينبوع الخير، فهي ينبوع المراحم المتدفق..
هي التي تسكب قوتها في ضعفنا لتعطينا القوة والصبر والإيمان.
أيتها الأم المباركة المبجّلة ..
أنتِ شمعةٌ مقدسة، تضيء ليل الحياة بنورها الوضّاء المتوهج..
نحن دائماً نأخذ حقّنا منكِ، وننسى أن نعطيكِ حقّكِ ..
عفوكِ يا أمّاه .. كلّنا مشغول عنكِ، وحدكِ أنتِ مشغولةٌ بنا.
في عيدكِ الأغر هذا، نقف إجلالاً وبكل خشوع أمام وجهكِ الأبيض الناصع، لأنّكِ وحدكِ الباقية لنا في زمن الخسارة، فأنتِ لحظة الفرج الأخيرة حين يسرق الحزن كل اللحظات..
أنتِ الطريق المختصر لكل الأشياء الجميلة..
أنتِ الطمأنينة التي ليس لها آخر في زمن الفوضى والانفلات ..
أنتِ الحب الثابت والحقيقة الراسخة التي لا تتغير في زمنٍ كل ما فيه يتغير..
الكل يُسرع إليكِ عندما تضيق به السبل، وتوصد في وجهه الأبواب..
الكل يحتاج إلى قلبكِ، ليلقي عليه مواجع الأيام..
نحن ننتظركِ، ننتظركِ بشوقٍ كبير في محطة الحب الأبدي.
كل العظماء.. كل الفلاسفة والحكماء، وكل الشعراء اعترفوا بفضل أمهاتهم وتأثيرهنّ في مجرى حياتهم ..
أوَليس أديسن القائل: أمي صنعتني.. وهكذا سقراط، وأبرهام لنكولن، وشكسبير، ونابليون، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والقائمة طويلة .. طويلة جداً، لا مجال لذكر ما جاء على لسان كلِّ هؤلاء، فذلك يحتاج إلى صفحات..
وماذا يسعني أن أقول أنا إزاء ما قاله هؤلاء الكبار من زُخرُف الكلام بحقِّكِ، إشادةً منهم بدوركِ وعرفاناً بفضلكِ.
يا ست الحبايب .. يا حبيبة.
ليس في جعبتي ما أقدمه لكِ وللقاريء الكريم في يومكِ المعطر هذا، غير ما جاء في هذه الأسطورة القديمة من معانٍ إنسانية عميقة ومؤثرة.. هذه الأسطورة التي بلغت مسمعي منذ سنوات طويلة، يوم كنت لم أزل تلميذاً على مقاعد الدراسة، وقد جاء فيها، أنّ شابّاً شغف بحب داعر، طلبت منه ذات يومٍ أن يأتيها بقلب أمّه دليلاً على صدقِ هواه، فما كان من هذا العاق، إلاّ أن قتل أمَّه، وانتزع فؤادَها ليطرحه عند قدمي معشوقته، فحدثَ أنْ عثرت رجله ووقع على الأرض، فتدحرج قلب الأم على التراب وهو يقطر دماً، ولمّا نهض ليتناوله، سمع صوتاً صادراً من القلب يسأله بحُنو:
يا بنيَّ، هل تألمت؟ هل أصابك من ضرر؟