إنسان اليوم ,هل يحتاج حقّاً الى الأديان؟
مقدمة :
فيما مضى كانت التجمعات البشرية أكثر ما تظهر في الإحتفالات الدينية وأماكن الخُطَبْ ( خُطَب وعّاظ الكفارات والخير والشرّ المُطلقين) سواءً كانت معابد أو كنائس أو مساجد ..أو أماكن مفتوحة في الهواء الطلق!
اليوم نعلم جميعاً أنّ حدث رياضي أولمبي أو عالمي (كأس العالم لكرة القدم مثلاً) أو حتى محلّي أحياناً (نزال ملاكمة) ,يضّم من الحضور عشرات الآلاف ,بينما متابعيه على وسائل الإعلام يصل الى الملايين والمليارات!
كذلك هو الحال مع الحفلات الموسيقية لمشاهير مطربي ومطربات العالم!
قد يقول قائل ,لكن في الحجّ الإسلامي يصل أعداد الحضور الى الملايين أيضاً
كذلك الحال مع بعض المناسبات المسيحية في الفاتيكان .وفي عام 1995 في الفلبين تجمّع 4 ملايين شخص لمشاهدة البابا يوحنّا بولس الثاني الذي كان في زيارة هناك .كذلك الحال في البوذية والهندوسية وغيرها من الأديان !
نعم هذا صحيح ,لكن الى تلك التجمعات والإحتفالات الدينية يذهب الإنسان مُجبراً مُقيّداً بتعاليم دينه (رغم إعلان طاعتهِ) مُثقلاً بضميره ومصيره ,شاعراً أنّه يُسقِط فريضة من على رقبتهِ!
بينما الحفلات الفنيّة الموسيقيّة والمسابقات الرياضيّة يذهب أليها الإنسان سعيداً مُحبّاً راغباً بل مندفعاً أحياناً بجنون لتشجيع نجمهِ أو بطلهِ أو فريقهِ المُفضّل!
***
ما الذي تغيّر خلال العصور ؟
قسّم العلماء المختصين المراحل التي مرّت تأريخيّاً على البشرية (منذ ظهورها)
كما يلي : في البدء العصور (الحجري ,البرونزي ,الحديدي) ,هذا الاخير إستمر حتى 500 ق.م.
ثمّ يلي ذلك مايسمى بالعصور القديمة (التي ظهرت فيها الديانات السماوية) وإستمرت حتى سقوط روما !
ثمّ تلتها العصور الوسطى (من سقوط روما حتى ظهور الثورة الصناعية)!
بعدها يأتي العصر الحديث الذي نعيشه مع هذه الثورة التكنلوجية والإتصالات!
واضح من تسميات العصور كيف تطوّرت حياة وتفكير الإنسان على سطح هذا الكوكب .فقد بدأ بإستخدام الحجارة في صنع إحتياجاته (في العصر الحجري) وإنتهى به المطاف الى إستخدام الليزر وأنواع الأشعة الأخرى في إجراء العمليات الجراحيّة المعقدّة لتحسين حالة وصحّة الإنسان (نسبيّاً) قدر الإمكان الى آخر يوم في حياتهِ .وحده الموت يبقى الحقيقة المطلقة التي لايمكن التغلّب عليها!
كان الإنسان القديم العادي يحتاج قوّة ماورائية عظيمة (مايغلبها غلّاب) تنصره على أعدائهِ في حياتهِ الدُنيا ,أو تجازيه على تضحياته في حياةٍ أخرى!
كان عقل الإنسان وضميره لا يُصدّق أنّ الظالم المُتجبّر القاتل الطاغية سيكون مصيره في النهاية نفس مصير الإنسان البريء المظلوم المُسالِم البسيط!
هل يُعقَل أن الإنسان بمجرد موته سيبدأ جسده بالتحلل والإختفاء في التربة؟
أم انّ هناك حياة ثانية غير فانية سيسود فيها العدل والجمال؟
لذلك كان ذلك الإنسان بحاجة لقوة قادرة تنصرهُ في الدُنيا والآخرة!
لكن العِلم الحديث الذي جاءَ للبشرية بكلّ ما تحلم به من سعادة ورفاهيّة ومسرّة هو نفسه الذي أثبت بما لايقبل الجدل عدم حاجة الكون لوجود تلك القوى فوق الطبيعية الخارقة !
بدأ ذلك الطريق العالم الأشهر على مرّ العصور (تشارلس داروين) عبر نظرية التطوّر والإنتقاء الطبيعي .وإستمر الحال الى يومنا في عصر ريتشارد داوكنز ورفاقه!
لذا وقع عامة الناس بين نارين .وتميّز أمامهم طريقين لا ثالث لهما :
طريق العِلم او طريق الأديان!
وهما طريقان متباينان في كلّ شيء لا يمكن أن يلتقيا البتّة!
الأوّل / طريق العِلم وهذا يعتمد على الحقائق المادية الملموسة في التجارب والمختبرات ومراكز البحوث .وتبدأ خطوته الأولى بالتفكير بالطريقة العِلميّة!
الثاني / طريق الأديان ,الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الأماني والروحانيّات والأحلام البشرية في نيل السعادة ,إذا لم يكن اليوم ففي حياةٍ أخرى!
مع ذلك ظهرت جماعات (مختلفة الأديان) تدعو الى وجود طريق ثالث يُصالِح ويخلط ويعترف بكلا الطريقين الرئيسين (العلم والدين) .منهم جماعة العصر الجديد في أمريكا ومن أتباعها وأنصارها (أوبرا ونفيري) الشهيرة!
كذلك (زغلول النجار) صاحب مقولة الإعجاز العلمي في القرآن!
***
الخلاصة:
حسب ظنّي طالما هناك ظُلم البشر وتجبّرهم على بعضهم ,طالما هناك فقر وجوع ومرض يفتك بالناس ,فسيبقى الناس بحاجة لمنقذ عظيم الشأن يرحمهم ,وإن آجلاً!
لكن المعضلة الكبرى ,أنّ كلّ دين (في العالم هناك مئات الأديان) يعتبر نفسه صاحب العقيدة الحقّ!
في الإسلام .. [ إنّ الدين عند الله الإسلام ] !
في المسيحيّة ..[ الذي يؤمن بالإبن فله حياة ابدية ,والذي لا يؤمن به لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله ] .. وهكذا نجد نفس المعنى في باقي الأديان!
الناس العلميين العلمانيين (كما معظم الشعوب الحرّة في الغرب) يقولون:
ليكن لكلّ بشر دينه الذي يؤمن به ويحترمه ويقدسه لا مانع لدينا في ذلك البتّه!
لا بل سوف نشجعه وندعمه (إن كان لاجئاً فقيراً) ليقيم دار عبادته بأموالنا وفي بلادنا وفي أكبر وأشهر عواصمنا!
شرطنا الوحيد أن يحترم حقوق الآخرين في إختيار دياناتهم أو حتى لادينيتهم!
مع ذلك ,ظهر في بلادنا العربية مصطلح شهير بائس هو إزدراء الأديان!
في الواقع العلمانيين لا يزدرون الأديان!
المُتطرفين من الدينيين هم الذين يزدرون الأديان الأخرى (عدا دينهم بالطبع)!
أحياناً يصل الأمر الى إزدراء وإضطهاد طوائف من دينهم تختلف عن طائفتهم (كما يفعل الوهابين السلفيين مثلاً)!
كما حصلت مرّة حادثة تشبه الطرفة عندما إتهمَ متعصبين مسيحيين المُغنّي (الفيس بريسلي) الذي كان يُلقب في ستينات وسبعينات القرن الماضي بملك الروك أند رول ,إتهموه بتأسيس دين إلحادي جديد كونهم شاهدوا الملايين تتبعه وتصفق له أينما حلّ .لكن الرجل مات بعمر 42 عام فأنهى ذلك الجدل وإستراح!
من جهة أخرى ما نوع وطبيعة وحالة البشر المتدينيين؟
عموماً هم من بين المحتاجين والفقراء والبسطاء والأقلّ تعليماً والأبعد عن القراءة العلميّة .(لكن لا أقصد عدم وجود مثقفين أيضاً ,بل علماء متدينين)!
هؤلاء يشعرون بالخيبة في هذهِ الحياة ويأملون التعويض في حياةٍ أخرى!
لكن لو سألت رجل متدين عادي لماذا أنتَ متدين؟
سيقول :لأنّ ديني يأمر بالعدل والمساواة والأخلاق الكريمة كالصدق والأمانة!
بينما لو تسأل شاب علمي مثقف غني يعمل بجدّ ,لماذا أنتَ غير متدين؟
سيجيبك , وما حاجتي للدين , كلّ ما أريده وأحلم به أفعله وأحققه في حياتي بالتدريج قدر المستطاع ,فالسعادة نسبيّة ويعتمد حصولها على الشخص ذاته!
في الواقع حجّة الدينيين بأن الأديان هي مصدر الأخلاق الأهمّ قد بان ضعفها وعجزها كون الأديان أصلاً مختلفة كثيراً في تفسيرها للأمر ,فأيّ دين هو الذي سيكون مصدر أخلاقي لجميع البشرية؟ الجواب يستحيل الإتفاق على ذلك!
لكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تمّت صياغته في قصر شايو في باريس 10 ديسمبر عام 1948 (يتكوّن من 30 مادة) ,كفل المساواة في الحقوق الأساسية لجميع البشر .كما إستطاع ألغاء أمراض إجتماعية خطيرة رزحت البشرية تحتها لقرون طويلة كالإستعباد والتمييز العنصري والظلم والإضطهاد بسبب العرق أو الجنس (واليوم أضافوا حتى الميول الجنسيّة)!
هذا الإعلان مقبول لدى الغالبية اليوم (لكنّي لا أفهم لماذا يهاجمه بعض مشايخ الإسلام المتشددين ,ربّما بسبب مفردات الحرية والديمقراطية وما شابه)!
هذا الإعلان (البشري السياسي الإجتماعي) ,هو الذي شرّع لقبول 60 مليون لاجيء مُسلم في أوربا الجميلة التي كانت تتصف بسمة المسيحيّة عموماً ,بينما اليوم يُطالب بعض الإسلاميين بأسلمة كافة دولها وشعوبها إن لم يكن بالسيف فالبديمقراطية الغربية ذاتها (كما أعلن القرضاوي في مناسبات عديدة)!
نعم الأديان جائتنا بالحروب والخلافات والنزاعات غالباً ,لكن بالطمأنينة الداخلية النسبية للمتديّن.(علماً أنّ أتقى شيخ مسلم يهرول الى الغرب الكافر للإستعانة بأطباءه الكفرة الفجرة في حالة مرضه بمرض خبيث والعياذ بالله)!
بينما العلوم جائتنا بكلّ هذه السعادة والرفاهية والمخترعات الغربية من الكهرباء حتى القمر الصناعي الذي جعل الكوكب بإجمعه قرية مفتوحة على بعضها!
نعم الفارق بين العلماني والديني هو طريق المعرفة والبحث والتفكير!
[ في المعرفة يتطهّر الجسد ,وفي المُجاهدة من أجلِ المعرفة يرتقي العارف بنفسهِ ,مُقدّسة تغدو كلّ الغرائز لدى العارِف ,والذي بَلَغَ السموّ مرحة تغدو روحه ]!
هكذا تكلّم زرادشت / فريدريك نيتشه !
رعد الحافظ
17 يونيو 2019